الكتاب: الصَّارِمُ المُنْكِي في الرَّدِّ عَلَى السُّبْكِي
المؤلف: شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي (المتوفى: 744هـ)
تحقيق: عقيل بن محمد بن زيد المقطري اليماني
قدم له: فضيلة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله.
الناشر: مؤسسة الريان، بيروت – لبنان.
الطبعة: الأولى، 1424هـ / 2003م
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

ـ[الصَّارِمُ المُنْكِي في الرَّدِّ عَلَى السُّبْكِي]ـ
المؤلف: شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي (المتوفى: 744هـ)
تحقيق: عقيل بن محمد بن زيد المقطري اليماني
قدم له: فضيلة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله.
الناشر: مؤسسة الريان، بيروت – لبنان.
الطبعة: الأولى، 1424هـ / 2003م
عدد الأجزاء: 1
[الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
(/)

تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد فيقول الله سبحانه وتعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً. ويقول سبحانه وتعالى: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هما الكفيلان بزحزحة الباطل والقضاء عليه إذا وجد لهما من يبلغهما كما أتيا عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
طالما نصحت إخواني في الله باقتناء الصارم المنكى في الرد على السبكي منذ وقع في يدي وأنا طالب بمعهد الحرم بمكة ذلك لأنه كتاب قمع الله به أصحاب الباطل المبتدعة. فالمبتدعة من عصر السبكي إلى زمننا هذا وهو يفترقون من كتاب السبكي الذي جمع فيه بين نصر البدعة ومهاجمة السنة والصد عنها مع تجلد عجيب وقد كنا نقرأ في الصارم المنكي ونحن بدماج فأتعجب من جرأة السبكي ومن سعة اطلاعه ومن تلبيسه على القارئ فأقول: هذا كلام عالم فلا يسعني إلا الاعتراف بأنه عالم ولكنه ضل عن سواء السبيل وحمله الشيطان على نصرة الباطل فقيض الله لأباطيله ولتلبيساته ابن عبد الهادي رحمه الله بنسفها نسفاً.
وأني أنصح من يريد أن يرد على دعاة الضلال في زمننا هذا كمحمد بن علوي مالكي وأشياعه أن يكون أول مرجع لهم هو الصارم المنكي في الرد على السبكي.
إن الصارم المنكى ليس كتاباً يرد على المبتدعة فحسب ولكنه أيضاً كتاب جرح وتعديل وتصحيح وتضعيف فيه فوائد تشد لها الرحال، ومما أذكره الآن أحاديث زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد بين ضعفها مما لا تجده في كتاب فيما أعلم.
(1/5)

وهكذا هل رواية من لا يروى إلا عن ثقة تعتبر توثيقاً لمن روى عنه لا أتعجل بالإجابة فهي موجودة في الكتاب مستوفاة.
وهكذا توثيق ابن حبان للمجهولين.
وهكذا تساهل الحاكم.
وإن صاحبي الصحيح قد يرويان البعض من فهم كلام عن أناس مخصوصين وعلى كل فالكتاب يعتبر مرجعاً للباحثين ونشره في هذه الأيام من الأمور المهمة لحيث إنه قد قصر باع العلماء المعاصرين عن استيعاب الأدلة وأيضاً قد كثر الأعداء كما قيل:
تكاثرت الضباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
وإني أنصح الأخوة الباحثين أن يحرصوا على إخراج مثل هذه الكتب فهي تقمع المبتدعة المعاصرين وتوفر على الأخ وقتاً يصرفه فيما هو أهم.
فجزى الله أخانا في الله عقيلاً خيراً على ما قام به من الخدمة لهذا الكتاب العظيم وأسال الله أن يوفقه لمواصلة المسير في خدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأن يعيذنا وإياه من فتنة المحيا والممات إنه على كل شيء قدير.
أبو عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي
(1/6)

مقدمة المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن كتاب (الصارم المنكي في الرد على السبكي) للحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله من أحسن الكتب التي ترد على المبتدعين من القبوريين وغيرهم الغلاة في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وهو مع هذا كتاب تصحيح وتضعيف وجرح وتعديل وبيان علل لأحاديث كثيرة، ولقد عهد إلى شيخي الجليل فضيلة العلامة أبو عبد الرحمن بن مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله تعالى بتحقيق هذا الكتاب فلبيت طلبه نظراً لأهمية الكتاب ولاحتياجه إلى تحقيق وتوثيق وعزو الأحاديث إلى مخرجيها.
ونظراً لأنه لا توجد في الأسواق سوى نسخة شعبية تحتوي على كثير من التحريف والسقط إلا أنني بفضل الله تعالى حاولت أن أعيد النصوص الساقطة إلى مواضعها وأصلحت ما حصل من تحريف في النصوص وذلك بالاستعانة بالكتب التي استقى منها الحافظ ابن عبد الهادي مثل كتاب السبكي وكتب ابن تيمية كالجواب الباهر واقتضاء الصراط المستقيم وغيرها وأخيراً حصلت على النسخة التي حقق نصوصها فضيلة الشيخ / إسماعيل الأنصاري رحمه الله فاستفدت منها أيضاً ولله الحمد والمنة وذلك لأنه قابل الكتاب على بعض المخطوطات.
هذا وقد جعلت النصوص التي كانت ساقطة بين قوسين هكذا () وذلك ليتضح الجهد الذي قمت به
(1/7)

وأسال الله عز وجل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم إنه سميع مجيب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتب
عقيل بن محمد بن زيد المقطري أبو عبد الرحمن السلفي
(1/8)

ترجمة مختصرة للحافظ ابن عبد الهادي

اسمه:
هو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة.

ميلاده:
ولد سنة خمس وسبعمائة.

مشايخه:
من جملة مشايخه:
1) شيخ الإسلام ابن تيمية.
2) الحافظ أبو الحجاج المزي.
3) القاضي تقي الدين سليمان.
4) أبو بكر بن عبد الدائم.
5) الحافظ الذهبي.
6) عيسى المطغم.
7) ابن مسلم. وغيرهم.

ثناء أهل العلم عليه:
1) الحافظ المزي:
قال: (ما التقيت به – يعني: ابن عبد الهادي – إلا استفدت منه) .
2) الحافظ ابن كثير:
قال: (.. الشيخ الإمام العالم العلامة الناقد البارع في فنون العلوم) .
(1/9)

وقال: (حصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار وتفنن في الحديث والتعريف والفقه والتفسير والأصليين والتاريخ والقراءات وله مجامع وتعاليق مفيدة وكثيرة وكان حافظاً جيداً لأسماء الرجال وطرق الحديث وعارفاً بالجرح والتعديل وبصيراً بعلل الحديث، حسن الفهم له، جيد المذاكرة صحيح الذهن مستقيماً على طريقة السلف وأتباع الكتاب والسنة مثابراً على فعل الخيرات) أهـ الرد.
3) الحافظ ابن رجب:
قال فيه: (المقرئ الفقيه المحدث الحافظ الناقد النحوي المتقن.. درس الحديث وكتبه بخطه الحسن المتقن الكثير) .
4) الحافظ أبو المحاسن:
قال في ذيل تذكرة الحفاظ (الإمام العلامة شمس الدين.. اعتنى بالرجال والعلل وبرع وجمع وصنف وتصدر للإفادة والاشتغال في القراءات والحديث والفقه والأصلين والنحو واللغة وولي مشيخة الحديث بالضيائية والغيائية ودرس بالمدرسة المنصورية وغيرها وسمع منه طائفة وروى شيخنا الذهبي عن المزي عن السروجي عنه)
5) الإمام الذهبي:
قال: (سمعت من الإمام الحافظ ذي الفنون شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي.. إلى أن قال: اعتنى بالرجال والعلل وبرع وجمع وتصدى للإفادة والاشتغال في القراءات والحديث والفقه والأصول والنحو وله توسع في العلوم وذهن سيال.
6) الحافظ ابن حجر:
قال فيه: (مهر في الحديث والأصول والعربية وغيرها) .
7) الإمام السيوطي:
قال فيه: (الإمام الأوحد المحدث الحافظ الحاذق الفقيه الورع المقرئ النحوي اللغوي ذو الفنون شمس الدين أحد الأذكياء مهر في الفقه والأصول والعربية) .
8) الصفدي:
قال: (لوعاش كان آية، كنت إذا لقيته سألته عن مسال أدبية وفوائد عربية فيتحذر كالسيل وكنت أراه يوافق المزي في أسماء الرجال ويرد عليه فيقبل منه) .
(1/10)

مصنفاته:
وأما مصنفاته فكثيرة جداً تزيد عن خمسين مؤلفاً من أشهرها:
1) الصارم المنكي في الرد على السبكي.
2) المحرر في الأحكام.
3) ترجمته ابن تيمية (العقود الدرية) .

وفاته:
توفي رحمه الله في يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وسبعمائة.
مصادر ترجمته:
البداية والنهاية، ذيل طبقات الحنابلة، الدرر الكامنة، البدر الطالع، تذكرة الحفاظ، طبقات الحفاظ.

وكتب
أبو عبد الرحمن السلفي عقيل
بن محمد بن زيد المقطري اليماني
(1/11)

مقدمه المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العلامة الحافظ المحقق أبو عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الهادي بنت عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامه المقدسي الحنبلي رحمه الله ورضي عنه، وأثابه الجنة بفضل رحمته وإيانا وسائر المسلمين أمين إنه على كل شيء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الحمد لله الذي يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب السموات ورب الأرضين ورب العرش العظيم وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالآيات والذكر الحكيم، الذي حكم به بين الناس فيما اختلفوا فيه من الزمان القديم، الذي يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط المستقيم، صلى الله عليه وآله وسلم أفضل صلاة وأفضل تسليم.
أما بعد: فإني وقفت على الكتاب الذي ألفه بعض قضاة الشافعية في الرج على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور، وذكر أنه كان قد سماه شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة ثم زعم أنه اختار أن يسميه شفاء السقام في زيارة خير الأنام فوجدت كتابه مشتملاً على تصحيح الأحاديث المضعفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة والآثار القوية المقبولة، وتحريفها عن مواضعها وصرفها عن ظاهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة. ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلاً ممارياً معجباً برأيه متبعاً لهواه ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة والآراء الساقطة، صائراً في أشياء مما يعتمده إلى الشبه المخيلة والحجج الداحضة، وربما خرق الإجماع في مواضع لم يسبق إليها ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها.
وهو من الجملة لون عجيب وبناء غريب تارة يسلك فيما ينصره ويقويه مسلك
(1/13)

المجتهدين فيكون مخطئاً في ذلك الاجتهاد ومرة يزعم فيما يقول ويدعيه أنه من جملة المقلدين،فيكون من قلده مخطئاً في ذلك الاعتقاد، نسأل الله سبحانه أن يلهمنا رشدنا ويرزقنا الهداية والسداد.
هذا ما أنه إن ذكر حديثاً مرفوعاً أو أثر موقوفاً وهو غير ثابت قبله إذا كان موافقاً لهواه، وإن كان ثابتاً رده إما بتأويل أو غيره إذا كان مخالفاً لهواه، وإن نقل عن بعض الأئمة الأعلام كمالك وغيره وما يوافق رأيه قبله، وإن كان مطعوناً فيه غير صحيح عنه، وإن كان مما يخالف رأيه رده ولم يقبله وإن كان صحيحاً ثابتاً عنه، وإن حكى شيئاً مما يتعلق بالكلام على الحديث وأحوال الرواة عن أحد من أئمة الجرح والتعديل كالإمام أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي وأبي حاتم بن حبان البستي، وأبي جعفر العقيلي وأبي أحمد بن عدي، وأبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك، وأبي بكر البيهقي، وغيرهم من الحفاظ، وكان مخالفاً لما ذهب إليه، لم يقبل قوله ورده عليه وناقشه فيه.
وإن كان ذلك الإمام قد أصاب في ذلك القول ووافقه غيره من الأئمة عليه، وإن كان موافقاً لما صار إليه تلقاه بالقبول واحتج به واعتمد عليه، وإن كان ذلك الإمام قد خولف في ذلك القول ولم يتابعه غيره من الأئمة عليه، وهذا هو عين الجور والظلم وعدم القيام بالقسط، نسأل الله التوفيق ونعوذ به من الخذلان واتباع الهوى.
هذا مع أن حملة إعجابه برأيه، وغلبة اتباع هواه على أن نسب سوء الفهم والغلط في النقل إلى جماعة من العلماء الأعلام المعتمد عليهم في حكاية مذاهب الفقهاء وأخلاقهم وتحقيق معرفة الأحكام حتى زعم أن ما نقله الشيخ أبو زكريا النووي في شرح مسلم، عن الشيخ أبي محمد الجويني من النهي عن شد الرحال وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبور الأنبياء والصالحين وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك هو مما غلط فيه الشيخ أبي محمد، وإن ذلك وقع منه على سبيل الهوى والغفلة، قال: ولو قاله هو – يعني الشيخ أبا محمد أو غيره – ممن يقبل كلامه الغلط لحكمنا بغلطه وأنه لم يفهم مقصود الحديث.
فالنظر إلى كلام هذا المعترض المتضمن لرد النقل الصحيح بالرأي الفاسد، وأجمع بينه وبين ما حكاه عن شيخ الإسلام من الافتراء العظيم والإفك المبني والكذب الصراح، وهو ما نقله عنه من أنه جعل زيارة قبل النبي صلى الله عليه وسلم وقبور سائر الأنبياء عليهم السلام معصية بالإجماع مقطوعاً بها، هكذا ذكر هذا المعترض عن بعض قضاة الشافعية عن الشيخ أنه قال هذا القول الذي لا يشك عاقل من أصحابه وغير أصحابه أنه كذب مفترى لم يقله
(1/14)

قط، ولا يوجد شيء من كتبه ولا دل كلامه عليه، بل كتبه كلها ومناسكه وفتاويه وأقواله وأفعاله تشد ببطلان هذا النقل عنه، ومن له أدنى علم وبصيرة يقطع بأن هذا مفتعل مختلق على الشيخ وأنه لم يقله قط، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات 6) .
وهذا المعترض يعلم أن ما نقله هذا القاضي المشهور بما لا أحب حكايته عنه في هذا المقام عن شيخ الإسلام من هذا الكلام كذب مفترى، لا يرتاب في ذلك ولكنه يطفف، ويداهن ويقول بلسانه ما ليس في قلبه.
ولقد أخبرني الثقة أنه ألف هذا الكتاب لما كان بمصر قبل أن يلي القضاء بالشام بمدة كبيرة ليتقرب به إلى القاضي الذي حكى عنه هذا الكذب ويحظى لديه فخاب أمله ولم ينفق عنده، وقد كان هذا القاضي الذي جمع المعترض كتابه هذا لأجله من أعداء الشيخ المشهورين.
وقد زعم هذا المعترض أيضاً مع هذا الأمر الفظيع الذي ارتكبه من التكذيب بالتصديق، والتصديق بالكذب أن الفتاوى المشهورة التي أجاب بها علماء أهل بغداد موافقة للشيخ، مختلفة موضوعة وضعها بعض الشياطين، هكذا زعم مع علم الخاص والعام بأن هذه الفتاوى مما شاع خبره وذاع واشتهر أمرها وانتشر، وهي صحيحة ثابتة متواترة عمن أفتى بها من العلماء.
وقد رأيت أنا وغيري خطوطهم بها، فانظري إلى تكذيب هذا المعترض بما لم يحط به علماً، وجراءته على إنكار ما اشتهر وتواتر وكيف يحل لمن ينتسب إلى شيء من الدين أن ينسب أمراً مقطوعاً بكذبة إلى من لم يقله، ويقدح في أمر مشاهد مقطوع بصحته ويزعم أنه مختلق من بعض الشياطين هذه عثرة لا تقال، وله مثلها كثيراً، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (النور 40) .
فلما وقفت على هذا الكتاب المذكور أحببت أن أنبه على بعض ما وقع فيه من الأمور المنكرة والأشياء المردودة، وخلط الحق بالباطل لئلا يغتر بذلك بعض من يقف عليه ممن لا خبرة له بحقائق الدين، مع أن كثيراً مما فيه من الوهم والخطأ يعرفه خلق من المبتدئين في العلم بأدنى تأمل ولله الحمد، ولو نوقش مؤلف هذا الكتاب على جميع ما اشتمل عليه من الظلم والعدوان والخطأ والخبط والتخليط والغلو والتشنيع والتلبيس، لطال
(1/15)

الخطاب ولبلغ الجواب مجلدات ولكن التنبيه على القليل مرشد إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم والله المستعان.
وقد أطال مؤلف هذا الكتاب فيه بذكر الأسانيد وتكرارها منه إلى مؤلفي الكتب كالطبراني والدارقطني وغيرهما، وحشد فيه بتعداد الطرق إليهم والرواية بالإجازات المركب بعضها على بعض والرفع في أنساب خلق من المتأخرين، وذكر طباق السماع وأسماء السامعين ونحو ذلك مما يكبر به حجم الكتاب، وليس إلى ذكره كبير حاجة مع اختصاره ذكر الأسانيد وحذفها في أماكن لا يليق حذفها فيها، هذا مع سرده كلام الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ونقل عنهم من مناسكهم وغير مناسكهم استحباب زيارة قبل النبي صلى الله عليه وسلم وزعمه أن الشيخ يخالفهم فيما قالواه، مع العلم بأنه موافق لهم فيما نقل عنهم لا مخالف لهم، وإنما مقصود هذا المعترض تكثير الكلام، وجمع ما أمكن ليعظم حجم الكتاب.
ثم أنه عقد باباً للكلام في التوسل والاستغاثة وزعم أن الشيخ قال في ذلك قولاً لم يقله عالم قبله، وصار به بين أهل الإسلام مثله، ثم أخذ يخبر عنه بما لا استحسن ذكره في هذا الموضع.
والحاصل: أنه وقع في كلامه من التناقض وسوء الأدب والاحتجاج بما لا يصلح أن يكون حجة ما سننبه على بعضه إن شاء الله تعالى.
ثم عقد لحياة الأنبياء في قبورهم باباً؛ وسرد الأحاديث المروية في ذلك من الجزء الذي جمعه البيهقي ومن غيره، ووقع في كلامه من التأويلات البعيدة والاحتمالات المرجوحة، ما يحتاج إلى نظر كثير.
ثم ذكر الأحاديث الواردة في سماع الموتى وكلامهم وإدراكهم وعود الروح إلى البدن وما يتبع ذلك ثم أشار إلى اختلاف المتكلمين وغيرهم في ماهية الروح وحقيقتها وتكلم في ذلك بكلام لا تحقيق فيه ولا حاجة إليه.
ثم ذكر أحاديث الشافعية وأنواعها وما ورد في بعض أحوال يوم القيامة وذكر جملة من كلام القاضي عياض فيما يتعلق بشرح ذلك.
ثم ختم الكتاب بجمع الألفاظ الواردة في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد ذكر قبل ذلك بعدة أوراق كلاماً يشير فيه إلى التشنيع على شيخ الإسلام وهو قوله:
“لا
(1/16)

شك أن من قال: لا يزار، أولا يسافر لزيارته أولا يستغاث به بعيد عن الأدب معه نسأل الله العافية “.
وليعلم: قبل الشروع في الكلام مع هذا المعترض أن شيخ الإسلام رحمه الله لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه، ولم ينه عنها، ولم يكرها بل استحبها، وحض عليها. ومناسكه ومصنفاته طافحة بذكر استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر القبور.
قال [شيخ الإسلام] رحمه الله تعالى في بعض مناسكه:
باب زيارة قبل النبي صلى الله عليه وسلم
إذا أشرف على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحج، أو بعده فليقل ما تقدم، فإذا دخل استحب له أن يغتسل (1) ، نص عليه الإمام أحمد، فإذا دخل المسجد بدأ برجه اليمنى (2) ، وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك (3) ، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلي بها ويدعو بما شاء، ثم يأتي قبل النبي صلى الله عليه وسلم فيستقبل جدار القبر ولا يمسه، ولا يقبله، ويجعل القنديل الذي في القبة عند القبر على رأسه فيكون قائماً وجاه النبي صلى الله عليه وسلم، ويقف متباعداً كما يقف ل ظهر في حياته بخشوع وسكون منكس الرأس (4) ، غائض الطرف، مستحضراً بقلبه جلالة موقفه ثم يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين، وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله وأشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته، اللهم أته الوسيلة والفضيلة وابعثه الله مقاماً محموداً الذي وعدته بغبطة به الأولون والآخرون، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد


(1) هذا دليل عليه فيما أعلم.
(2) الحديث الذي جاء نصاً في هذه المسألة ضعيف وقد بينت سبب ضعفه في رسالتي (اتحاف الراكع الساجد بأذكار الدخول والخروج من المساجد) ولكن يستدل بحديث عائشة: (كان يعجبه التيامن في شأنه كله) وهو عام.
(3) راجع رسالتنا السالفة الذكر.
(4) بل يكون في حالة طبيعية مع استشعار مكانة النبي عليه الصلاة والسلام فما كان جميع الصحابة يدخلون منكسي الرؤوس.
(1/17)

كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم احشرنا في زمرته، وتوفنا على سنته، وأوردنا حوضه وأسقنا بكأسه مشرباً روياً لا نظمأ بعده أبداً (1) .
ثم يأتي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فيقول: السلام عليك يا أبا بكر الصديق، السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعيه ورحمة الله وبركاته، جزاكما الله عن صحبة نبيكما وعن الإسلام خيراً، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار (2) .
قال ويزور قبور أهل البقيع وقبور الشهداء إن أمكن.
هذا كلام الشيخ رحمه الله بحروفه، وكذلك سائر كتبه ذكر فيها استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر القبور، ولم ينكر زيارتها في موضع من المواضع، ولا ذكر في ذلك خلافاً إلا نقلاً عن غريباً ذكره في بعض كتبه عن بعض التابعين.
وإنما تكلم عن مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى مجرد زيارة القبور، وذكر في ذلك قولين للعلماء المتقدمين والمتأخرين.
أحدهما: القول بإباحة ذلك كما يقول بعض أصحاب الشافعي وأحمد.
والثاني: إنه منهي عنه كما نقص عليه إمام دار الهجرة مالك بن أنس، ولم ينقل عن أحد من الأئمة الثلاثة خلاف، وإليه ذهب جماعة من أصحاب الشافعي وأحمد.
وهكذا ذكر الشيخ الخلاف في شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور، ولم يذكره في الزيارة الخالية عن شد رحل وإعمال مطي (3) ، والسفر إلى زيارة القبور مسألة، وزيارتها من غير سفر مسألة أخرى، ومن خلط هذه المسألة بهذه المسألة جعلها مسألة واحدة وحكم عليهما بحكم واحد وأخذ في التشنيع على من فرق بينهما وبالغ في التغيير عنه فقد حرم التوفيق، وحاد عن سواء الطريق.
واحتج الشيخ لمن قال بمنع شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور بالحديث


(1) وهذا الذكر الذي أتى به هنا ليس بملزم بل له أن يأتي بغيره.
(2) وهذا أيضاً ليس بملزم.
(3) يعني أنه هذا مشروعه.
(1/18)

المشهور المتفق على صحته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)) (1) ، هكذا خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما بصيغة الخبر لا تشد الرحال، ومعنى الخبر في هذا معنى النهي، يبين ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى)) (2) ، هكذا رواه مسلم بصيغة النهي، ورواه الإمام إسحاق بن راهويه في مسنده (3) ، بصيغة الحصر: ((إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد مسجد إبراهيم ومسجد محمد ومسجد بيت المقدس)) .
وقد روي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا الحديث أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الني: ((لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس)) .
هذا هو الذي فعل الشيخ: حكى الخلاف في مسألة بين العلماء واحتج لأحد القولين بحديث متفق على صحته، فأي عتب عليه في ذلك؟ ولكن نعوذ بالله من الحسد والبغي واتباع الهوى، والله سبحانه المسئول أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من العمل الصالح والقول الجميل؛ فإنه يقول الحق وهو يهدي السبيل، وينفعنا وسائر المسلمين بما يستعملنا به من الأقوال والأفعال، ويجعله موافقاً لشرعته خالصاً لوجهه موصلاً إلى أفضل حال، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وهذا حين الشروع في مناقشة هذا المعترض على شيخ الإسلام وبالله التوفيق قال في أول كتابه الذي جمعه:
الحمد لله من علينا برسوله، وهدانا إلى سواء سبيله، وأمرنا بتعظيمه وتكريمه


(1) حديث أبي هريرة: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) البخاري 3/63 الفتح، ومسلم متن 2/975-976، من حديث أبي سعيد و 2/1014 من حديث ابي هريرة
(2) حديث أبي سعيد الخدري (لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) مسلم 2/976 متن.
(3) مسند إسحاق بن راهويه يوجد منه جزء وبقيته مفقود من زمن الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى والقسم الموجود منه رأيته عند شيخنا حسن بن حيدر حفظه الله تعالى.
(1/19)

وتبجيله، وفرض على كل مؤمن أن يكون أحب إليه من نفسه وأبويه وخليله، وجعل اتباعه سبباً لمحبة الله وتفضيله، ونصب طاعته عاصمة من كيد الشيطان وتضليله، ويغني عن جملة القول وتفصيله،رفع ذكره وأثنى عليه في محكم الكتاب وتنزيله صلى الله عليه وسلم صلاة دائمة بدوام طلوع النجم وأفوله.
أما بعد: فهذا كتاب سميته: شفاء السقام في زيارة خير الأنام ورتبته على عشرة أبواب:
الأول: في الأحاديث الواردة في الزيارة.
الثاني: في الأحاديث الدالة على ذلك وإن لم يكن فيها لفظ الزيارة.
الثالث: فيما ورد في السفر إليها.
الرابع: في نصوص العلماء على استحبابها.
الخامس: في تقرير كونها قربة.
السادس: في كون السفر إليها قربة.
السابع: في دفع شبه الخصم وتتبع كلماته.
الثامن: في التوسل والاستغاثة.
التاسع: في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
العاشر: في الشفاعة لتعلقها بقوله من زار قبري وجبت له شفاعتي، وضمنت هذا الكتاب الرد على من زعم أن أحاديث الزيارة كلها موضوعة، وأن السفر إليها بدعة غير مشروعة؛ وهذه المقالة أظهر فساداً من أن يرد العلماء عليها، ولكن جعلت هذا الكتاب مستقلاً في الزيارة وما يتعلق بها مشتملاً من ذلك على جملة يعز جمعها على طالبها؛ وكنت سميت هذا الكتاب شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة ثم اخترت التسمية المتقدمة واستعنت بالله تعالى وتوكلت عليه ثم قال:

الباب الأول: في الأحاديث الواردة في الزيارة نصاً
الحديث الأول: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) رواه الدارقطني، والبيهقي وغيرهما (1) ، ثم ذكر من طريق موسى بن هلال العبدي، عن عبيد الله بن عمر.


(1) انظر سنن الدارقطني 2/278.
(1/20)

وفي رواية عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) ثم زعم أن أقل درجات هذا الحديث أن يكون حسناً إن توزع في دعوى صحته؛ وذكر أن الراجح كونه من رواية عبيد الله المصفر الثقة لا من رواية عبد الله المكبر المضعف، وقال في أثناء كلامه: يحتمل أن يكون الحديث عن عبيد الله وعبد الله جميعاً ويكون موسى سمعه منهما فتارة حدث به عن هذا وتارة حدث به عن هذا، قال في آخر كلامه: وبهذا بل بأقل منه يتبين افتراء من ادعى أن جميع الأحاديث الواردة في الزيارة موضوعة؛ فسبحان الله أما استحي من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المقالة التي لم يسبقه إليها عالم ولا جاهل، لا من أهل الحديث، ولا من غيرهم ولا ذكر أحد موسى بن هلال ولا غيره من رواة حديث هذا بالوضع، ولا اتهمه به فيما علمنا فكيف يستجير مسلم أن يطلق على كل الأحاديث التي هو واحد منها أنها موضوعة ولم ينقل إليه ذلك عن عالم قبله ولا ظهر على هذا الحديث شيء من الأسباب المقتضية للمحدثين للحكم بالوضع،ولا حكم متنه مما يخالف الشريعة، فمن أي وجه يحكم بالوضع عليه لو كان ضعيفاً فكيف وهو حسن، أو صحيح.
هذا كله كلام المعترض، وهو متضمن للتحامل والهوى وسوء الأدب والكلام بلا علم.
والجواب أن يقال: هذا الحديث الذي ابتدأ المعترض بذكره وزعم أنه حديث حسن أو صحيح هو أمثل حديث ذكره في هذا الباب، وهو مع هذا حديث غير صحيح ولا ثابت بل هو حديث منكر عند أئمة هذا الشأن ضعيف الإسناد عندهم لا يقوم بمثله حجة ولا يعتمد على مثله عند الاحتجاج إلا الضعفاء في هذا العلم، وقد بين أئمة هذا العلم والراسخون فيه والمعتمد على كلامهم والمرجوع إلى أقوالهم ضعف هذا الخبر ونكارته كما سنذكر بعض ما بلغنا عنهم في ذل إن شاء الله تعالى.
وجميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب وزعم إنها بضعة عشر حديثاً ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفة واهية، وقد بلغ الضعف ببعضها إلى أن حكم عليه الأئمة الحفاظ بالوضع، كما أشار إليه شيخ الإسلام.
ولو فرض أن هذا الحديث المذكور صحيح ثابت لم يكن فيه دليل على مقصود هذا المعترض، ولا حجة على مراده كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فكيف وهو حديث منكر ضعيف الإسناد واهي الطريق، لا يصلح الاحتجاج بمثله، ولم يصححه أحد من
(1/21)

الحفاظ المشهورين ولا اعتمد عليه أحد من الأئمة المحققين، بل إنما رواه مثل الدارقطني الذي يجمع في كتابه غرائب السنن، ويكثر فيه من رواية الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة وبين علة الحديث وسبب ضعفه وإنكاره في بعض المواضع أو رواه مثل أبي جعفر العقيلي،وأبي أحمد بن عدي في كتابهما في الضعفاء مع بينهما لضعفه ونكارته، أو مثل البيهقي مع بيانه أيضاً لإنكاره.
قال البيهقي في كتاب شعب الإيمان: أخبرنا أبو سعيد الماليني، أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، حدثنا محمد بن موسى الحلواني، حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة، حدثنا موسى بن هلال عن عبد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) قال البيهقي:وقيل عن موسى بن هلال العبدي عن عبد الله بن عمر، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن زنجويه القشيري، حدثنا عبيد بن محمد بن القاسم بنأبي مريم الوراق وكان نيسابوري الأصل سكن بغداد، حدثنا موسى بن هلال العبدي فذكره، قال البيهقي، وسواء قال عبيد الله، وعبد الله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر، لم يأت به غيره.
وهكذا ذكر الإمام الحافظ البيهقي أن هذا الحديث منكر عن نافع عن ابن عمر سواء قال فيه موسى بن هلال عن عبيد الله أو عن عبد الله، والصحيح أنه عن عبد الله المكبر، كما ذكره أبو أحمد بنعدي وغيره.
وهذا الذي قاله البيهقي في هذا الحديث به عليه قوله صحيح بين وحكم جلي واضح ولا شك فيه من له أدنى اشتغال بهذا الفن، ولا يرده إلا رجل جاهل بهذا العلم وكذلك أن تفرد مثل هذا العبدي المجهور الحال الذي لم يشتهر من أمره ما يوجب قبول أحاديثه وخبره عن عبد الله بن عمر العمري المشهور بسوء الحفظ وشدة الغفلة عن نافع عن ابن عمر بهذا الخبر من بين سائر أصحاب نافع الحفاظ الثقات الأثبات مثل يحيى بن سعيد الأنصاري، وأيوب السختياني، وعبد الله بن عون، وصالح بن كيسان وإسماعيل بن أمية القرشي، وابن جريح والأوزاعي، وموسى بن عقبة وابن أبي ذئب، ومالك بن أنس، والليث بن سعد وغيرهم من العالمين بحديثه الضابطين لرواياته المعتنين بأخباره الملازمين له، من أقوى الحجج وأبين الأدلة وأوضح البراهين على ضعف ما تفرد به وإنكاره ورده وعدم قبوله، وهل يشك في هذا من شم رائحة الحديث أو كان عنده أدنى بصر به.
(1/22)

هذا مع أن أعرف الناس بهذا الشأن في زمنه وأثبتهم في نافع وأعملهم بأخباره وأضبطهم لحديثه وأشدهم اعتناء بما رواه، مالك بن أنس إمام دار الهجرة قد نص على كراهية قول القائل زرت قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا اللفظ معروفاً عنده أو مشروعاً أو مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه، ولو كان هذا الحديث المذكور من أحاديث نافع التي رواها عن ابن عمر لم يخف على مالك الذي هو أعرف الناس بحديث نافع، ولرواه عن مالك بعض أصحابه الثقات، فلما لم يروه عنه ثقة يحتج به ويعتمد عليه علم أنه ليس من حديثه، وأنه لا أصل له، بل هو مما أدخل بعض الضعفاء المغفلين في طريقه فرواه وحدث به.
وقد قال الحافظ أبو جعفر محمد بن عمر العقيلي في كتاب الضعفاء: موسى بن هلال البصري سكن الكوفة عن عبيد الله بن عمر. لا يصح حديثه ولا يتابع عليه.
حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا جعفر بن محمد البزوري حدثنا موسى بن هلال البصري عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) قال أبو جعفر العقيلي والرواية في هذا الباب فيها لين (1) .
هذا جميع ما ذكره العقيلي في كتابه، وقد حكم على الحديث المذكور بعدم الصحة، وإن رواية لم يتابع عليه، ولكن قال في روايته عن عبيد الله بالتصغير، والصحيح عن عبد الله بالتكبير.
قال الحافظ أبو أحمد عبد الله بن عدي في كتاب الكامل في معرفة ضعفاء المحدثين وعلل الأحاديث: موسى بن هلال ثم ذكر هذا الحديث كما رواه البيهقي من طريقه فقال: حدثنا محمد بن موسى الحلواني.
حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة حدثنا موسى بن هلال بن عبد الله العمري عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زار قبلي وجبت له شفاعتي)) قال ابن عدي: وقد روي غير ابن سمرة هذا الحديث عن موسى بن هلال فقال: عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال ابن عدي: وعبد الله أصح (2) .
قلت: وهذا الذي صححه ابن عدي هو الصحيح، وهو أنه من رواية عبد الله بن


(1) انظر الضعفاء للعقيلي 4/17.
(2) انظر الكامل 6/235.
(1/23)

عمر العمري الصغير المكبر المضعف ليس من رواية أخيه عبيد الله العمري الكبير المصغر الثقة الثبت، فإن موسى بن هلال لم يلق عبيد الله فإنه مات قديماً سنة بضع وأربعين ومائة، بخلاف عبد الله فإنه تأخر دهراً بعد أخيه وبقي إلى سنة بضع وسبعين ومائة.
ولو فرض أن الحديث من رواية عبيد الله لم يلزم أن يكون صحيحاً، فإن تفرد موسى بن هلال به عنه دون سائر أصحابه المشهورين بملازمته وحفظ حديثه وضبطه من أدل الأشياء على أنه منكر غير محفوظ، وأصحاب عبيد الله بن عمر المعروفين بالرواية عنه مثل يحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن نمير، وابي أسامة حماد بن أسامة وعبد الوهاب الثقفي، وعبد الله بن المبارك ومعتمر بن سليمان وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وعلي بن مسهر، وخالد بن الحارث وأبي ضمرة أنس بن عياض وبشر بن المفضل وأشباههم وأمثالهم من الثقات المشهورين.
فإذا كان هذا الحديث لم يروه عن عبد الله أحمد من هؤلاء الأثبات، ولا رواه ثقة غيرهم علمنا أنه منكر غير مقبول، وجزمنا بخطأ من حسنه، أو صححه بغير علم.
وقد ذكر الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي في كتاب ” الجرح والتعديل ” أن موسى بن هلال روى عن عبد الله العمري، ولم يذكر أنه يروي عن عبيد الله ثم قال: سألت أبي عنه فقال: مجهول (1) .
وذكر الحافظ أبو الحسن بن القطان في كتاب ” بيان الوهم والإبهام ” الواقعين في كتاب ” الأحكام ” لعبد الحق الأشبيلي: أن هذا الحديث الذي رواه موسى بن هلال حديث لا يصح، وأنكر على عبد الحق سكوته عن تضعيفه، وقال: أراه تسامح فيه لأنه من الحث والترغيب على عمل، ثم ذكر كلام أبي حاتم الرازي والعقيلي في موسى ومال إلى قولهما وقال فأما أبو أحمد بن عدي فإنه ذكر هذا الرجل بهذا الحديث ثم قال: ولموسى غير هذا، وأرجو أنه لا بأس به وقال: وهذا من أبي أحمد قول صدر عن تصفح روايات هذا الرجل لا عن مباشرة لأحواله، فالحق فيه أنه لم تثبت عدالته، وإلى هذا فإن العمري قد عهد أبو محمد يعني عبد الحق يرد الأحاديث من أجله كما تقدم ذكره في هذا الباب.
قال ابن القطان: وقد ضعف أبو محمد حديث: ((إنما النساء شقائق الرجال)) (2) في


(1) انظر الجرح والتعديل 8/166.
(2) أخرجه الترمذي 1/190، والدارمي في كتاب الوضوء باب رقم 76، وأحمد 6/256-277 والحديث صحيح بمجموع طرفه.
(1/24)

احتلام المرأة من أجل عبد الله بن عمر العمري، وذكر اختلاف المحدثين فيه، وكذلك فعل أيضاً في حديث: ((أول الوقت رضوان الله)) (1) فإنه رده من أجله، وترك في الإسناد متروكاً لا خلاف فيه لم يتعرض له؛ فكان ذلك عجباً من فعله.
وكذلك فعل أيضاً في حديث نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا نكح البعد بغير إذن سيده فنكاحه باطل)) (2) فإنه اتبعه أن قال: فيه العمري وهو ضعيف وهذا الذي عمل به في هذا الأحاديث من تضعيفها من أجل العمري هو الأقرب إلى الصواب.
ثم ذكر أنه سكت عن أحاديث من رواية العمري منها، هذا الحديث المروي عنه في الزيارة، وذكر أن سكوته عنها غير صواب.


(1) قال الترمذي رحمه الله 1/322:
حدثنا أحمد بن منيع حدثنا يعقوب بن الوليد المدني عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((الوقت الأول من الصلاة روضان الله والوقت الآخر عفوا الله)) ؟
قال أبو عيسى: هذا الحديث غريب.
ولقد أنكر ابن القطان على أبي محمد عبد الحق الأشبيلي كونه أعل الحديث بالعمري وسكت عن يعقوب وقال:ويعقوب هوعلته فإن أحمد قال فيه: كان من الكذابين الكبار وكان يضع الحديث وقال أبو حاتم: كان يكذب الحديث الذي رواه موضوع وابن عدي إنما أعله به وفي بابه ذكره.
قال أحمد شاكر رحمه الله في شرحه على الترمذي 1/322 ومما أزال أعجب منه أن الشافعي رحمه الله يذكر هذا الحديث محتجاً به بدون إسناده، وهو حديث غير صحيح بل هو حديث باطل كما نص عليه العلماء الحفاظ فيما نقلناه عنهم.
وقال البيهقي في المعرفة: حديث الصلاة في أول الوقت رضوان الله، إنما يعرف بيعقوب بن الوليد وقد كذبه أحمد بن حنبل وسائر الحفاظ، قال: وقد روي هذا الحديث بأسانيد كلها ضعيفة 1/322.
قلت: فالحديث باطل:
(2) حديث ((وإذا نكح العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل)) ابن ماجة 1/630 من حديث ابن عمر لكنه من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل والثانية من طريق مندل، والطالسي 2/152 من حديث جابر وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، والآخر من حديث ابن عمر، وفيه مند.وأبو داود 2/563 من حديث جابر عن طريق ابن عقيل والآخر من حديث= =ابن عمر وهو من طريق عبد الله العمري المكبر المضعف وقال عقبه:هذا الحديث ضعيف، وهو موقوف،وهو قول ابن عمر رضي الله عنه ترجمة ابن عقيل في التهذيب 6/13.
قال الترمذي:حسن، وقال الحاكم: صحيح، وتبع الشيخ ناصر في الإرواء الترمذي فحسنه 6/351 والراجح ضعفه لأنه من طريق ابن عقيل هذا
(1/25)

وقد تكلم في عبد الله العمري جماعة من أئمة الجرح والتعديل، ونسبوه إلى سوء الحفظ والمخالطة للثقات في الروايات.
قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي في كتاب المجروحين من المحدثين: عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري، أخو عبيد الله بن عمر من أهل المدينة يروي عن نافع، روى عنه العراقيون وأهل المدينة، كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ الأخبار وجودة الحفظ للآثار فوقع المناكير في رواته، فلما فحش خطوة استحق الترك ومات سنة ثلاث وسبعين ومائة.
حدثنا الهمداني حدثنا عمرو بن علي قال: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عن عبد الله بن عمر، قال أبو حاتم وهو الذي روى عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ خلل لحيته، وروى عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أتى عرافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)) (1) وروى عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس سهمين، وللراجل سهماً فيما يشبه هذا من المقلوبات، والملزوقات التي ينكرها من أمعن في العلم وطلبه من مظانه (2) .
وقال أبو عيسى الترمذي في جامعه: وعبد الله بن عمر ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه (3) ، وقال البخاري في تاريخه: عبد الله بن عمر بن حفص العمري المدني قرشي كان يحيى بن سعيد يضعفه (4) .
وقال النسائي: في كتاب الكنى: أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر ضعيف، وقال العقيلي: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت يحيى بن معين عن عبد الله بن عمر العمري، فقال: ضعيف، حدثنا عبد الله قال: سألت أبي عن عبد الله بن عمر فقال: كذا وكذا.
وقال أبو زرعة الدمشقي، قيل لأحمد بن حنبل كيف حديث عبد الله بن عمر، فقال كان يزيد في الأسانيد ويخالف وكان رجلاً صالحاً، وقد ذكر العقيلي هذا القول عن الإمام أحمد بن حنبل من رواية أبي بكر الأثرم عنه؛ وروى إسحاق بن منصور عن يحيى بن


(1) حديث (من أتى عرافاً) رواه مسلم 4/1751 من غير هذه الطريق.
(2) انظر كتاب المجروحين لابن حبان 2/6-7.
(3) انظر 1/322
(4) وانظر التاريخ الكبير 5/145.
(1/26)

معين، قال عبد الله بن عمر صويلح، وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه ضعيف.
وقال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال يعقوب بن شيبة: صدوق في حديثه اضطراب، وقال: صالح بن محمد البغدادي: لين مختلط الحديث، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم.
فإذا كانت هذه الحال عبد الله بن عمر العمري عند أهل هذا الشأن، والراوي عنه مثل موسى بن هلال المنكر الحديث، فهل يشك من له أدى علم في ضعف ما تفرد به ورده وهل يجوز أن يقال فيما روياه من حديث منفردين به أنه حسن أو صحيح؟ وهل يقول هذا إلا رجل لا يدري ما يقول.
وقد ذكر هذا الحديث بعض الحفاظ المتأخرين في كتاب كبير له رأيت قطعة منه فقال: حدثنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني بالكوفة، أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن عيسى بن زيد الكوفي ببغداد، قالا: حدثنا أبو عمر أحمد بن حازم عن أبي عذرة الغفاري، أنبأنا موسى بن هلال البصري، حدثنا عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من زار قبري وجبت له شفاعتي) لفظ الحديث وسياقه للشيباني.
قال: وهذا الخبر قد رواه عن موسى بن هلال محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي، ومحمد بن جابر المحاربي ويوسف بن موسى القطان، وهارون بن سفيان المذكورين، قال في حديثه: عن عبد الله بن عمر قد ذكرناه بأسانيده في الكتاب الكبير، ولا نعلم رواه عن نافع إلا العمري، ولا عنه إلا موسى بن هلال العبدي، تفرد به والله أعلم، انتهى كلام هذا الحافظ، وهو في طبقة أبي عبد الله بن مندة، وأبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك.
والكتاب الذي روي في هذا الحديث، ووقفت على بعضه يدل على سعة حفظه ورحلته، ولا يجوز أن يكون هو ابن مندة، لأن ابن مندة له شيوخ كثيرة وهو معروف بكثرة الرواية عنهم كالأصم، وابن الأعرابي، وغيرهما، ولم يرو مؤلف هذا الكتاب فيه عن واحد منهم فيما وقفت عليه، ولأن صاحب هذا الكتاب له شيوخ لا يعرف ابن مندة بالرواية عنهم، وروى في بلاد لم يدخلها ابن مندة كالبصرة وأنطاكية ونصيبين، ولا يجوز أن يكون
(1/27)

الحاكم أبا عبد الله، لأن رحلة هذا المؤلف أوسع من رحلة الحاكم، ولأنه دخل إلى بلدان كثيرة لم يدخلها الحاكم كالشام وغيرها، ولا يجوز أن يكون الحافظ أبا نعيم لتأخره عن هذا.
وفي الجملة مؤلف هذا الكتاب حافظ كبير من بحور الأحاديث، وقد ذكر في هذا الكتاب من الأحاديث الغريبة والمنكرة والموضوعة شيئاً كثيراً، وذكر في هذا الباب الذي روي فيه هذا الحديث هو الباب الثلاثون بعد المائتين عدة أحاديث موضوعة لا أصل لها، وقد ذكر أن هذا الحديث تفرد به موسى بن هلال العمري وذكر أن بعض الرواة قال في حديثه عن: عبد الله وقد ذكرنا أن الأصح رواية من قال عن عبد الله، وكأن موسى بن هلال حدث به مرة عن عبيد الله فأخطأ، لأنه ليس من أهل الحديث ولا من المشهورين بنقله، وهو لم يدرك عبيد الله ولا لحقه فإن بعض الرواة عنه لا يروي عن رجل عن عبيد الله، وإنما يروي عن رجل عن آخر عن عبيد الله فإن عبيد الله متقدم الوفاة كما ذكرنا ذلك فيما تقدم بخلاف عبد الله فإنه عاش دهراً بعد أخيه عبيد الله، وكأن موسى بن هلال لم يكن يميز بين عبد الله وعبيد الله ولا يعرف أنهما رجلان فإن لم يكن من أهل العلم، ولا ممن يعتمد عليه في ضبط باب من أبوابه.
فقد تبين أن هذا الحديث أن هذا الحديث الذي تفرد به موسى بن هلال لم يصححه أحد من الأئمة المعتمد على قولهم في هذا الشأن، ولا حسنه أحد منهم، بل تكلموا فيه وأنكروه حتى أن النووي ذكر في شرح المهذب إن إسناده ضعيف جداً (1) .
وقد تفرد هذا المعترض على شيخ الإسلام بتحسينه أو تصحيحه وأخذ في التشنيع والكلام بما لا يليق الذي بقدر آحاد الناس على مقابلته بمثله وبما هو أبلغ منه،وجميع ما تفرد به هذا المعترض من الكلام على الحديث وغيره خطأ فاعلم ذلك والله الموفق.
فإن قيل: قد روى الإمام أحمد بن حنبل عن موسى بن هلال، وهو لا يروي إلا عن ثقة فالجواب أن يقال: رواية الإمام أحمد عن الثقات هو الغالب من فعله، والأكثر من عمله كما هو المعروف من طريقة شعبة ومالك وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم وقد يروي الإمام أحمد قليلاً في بعض الأحيان عن جماعة نسبوا إلى الضعف وقلة الضبط على وجه الاعتبار والاستشهاد لا على طريق الاجتهاد والاعتماد


(1) انظر المجموع شرح المهذب 7/203.
(1/28)

مثل روايته عن عامر بن صالح الزبيري (1) ، ومحمد بن القاسم الأسدي (2) ، وعمر بن هارون البلخي (3) ، وعلي بن عاصم الواسطي (4) ، وإبراهيم بن الليث صاحب الأشجعي (5) ، ويحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي (6) ، ونصر بن باب (7) وتليد بن سليمان الكوفي (8) ، وحسن بن حسن الأشقر (9) ، وأبي سعيد الصاغاني (10) ، ومحمد بن ميسر


(1) قال الذهبي في الميزان 2/360 عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير بن العوام، واه لعل ما روى أحمد بن حنبل عند أحد أوهى من هذا.. وقال أبو داود: سمعت يحيى بن معين يقول جن أحمد. يحدث عن عامر بن صالح.
وروى أحمد بن محمد بن محرز عن ابن معين قال: كذاب خبيث عدو الله
(2) قال الذهبي في الميزان 4/11 محمد بن القاسم الأسدي الكوفي عن موسى بن عبيدة وطبقته كذبة أحمد بن حنبل والدارقطني وقال عبد الله بن أحمد ذكرت لأبي ما حدثني أبو معمر عن محمد بن القاسم الأسدي.. فقال أبي: محمد بن القاسم أحاديثه موضوعة ليس بشيء.
وقال البخاري: قال أحمد: رمينا حديثه.
(3) ترجمته في الميزان 3/228 وقد قال فيه أحمد: عمر بن هارون لا أروي عنه وقد أكثرت عنه ولكن كان عبد الرحمن يقول: لم يكن له قيمة عندي.
(4) ترجمته في الميزان للذهبي 3/136.
(5) قال الذهبي في الميزان 1/54 إبراهيم بن أبي الليث حدث ببغداد عن عبيد الله الأشجعي متروك الحديث، قال صالح خزره، كان يكذب عشرين سنة وأشكل أمره على أحمد وعلي حتى ظهر بعد وقال ابن معين: ثقة لكنه أحمق وقال زكريا الساجي: متروك.
(6) ترجمته في الميزان 4/414 قال أبو حاتم: منكر الحديث لا أدري منه أو من أبيه قال ابن عدي: الضعف على حديثه بين، قال: قلت: وأبوه مجمع على ضعفه.
(7) ترجمته في الميزان 4/250 قال الذهبي: تركه جماعة البخاري: يرمونه بالكذب، قال ابن معين ليس حديثه بشيء قال ابن حبان: لا يحتج به قال أحمد بن حنبل: ما كان به بأس إنما أنكروا عليه حين حدث عن إبراهيم الصائغ.
(8) ترجمته في الميزان 1/358 قال فيه أحمد: شيعي لم نر به بأساً.
وقال ابن معين: كذاب يشتم عثمان عقد فوق سطح فتناول عثمان فقام إليه بعد أولاد حوالي عثمان فرماه فكسر رجله.
وقال أبو داود: رافضي يشتم أبا بكر وعمر في لفظ خبيث وقال النسائي: ضعيف.
(9) هو الحسين بن الحسن الأشقر. ترجمته في الميزان.
قال البخاري: فيه نظر وقال أبو زرعة: منكر الحديث وقال أبو حاتم:ليس بالقوي وقال الجوزيجاني: غال شتام للخيرة، وقال أبو معمر الهذلي: كذاب، وقال النسائي والدارقطني: ليس بالقوي.
(10) الصوابة وأبي سعيد الصاغاني محمد بن ميسرة، قالوا وهنا خطأ مطبعي، راجع الأنساب للسمعاني 8/69، ترجمته في الميزان 4/52، وقال يحي بن معين: كان جهمياً شيطاناً ليس بشيء وقال النسائي: متروك، وقال الدارقطني: ضعيف وقال أحمد: صدوق مرجئ وقال البخاري: فيه اضطراب.
(1/29)

ونحوهم ممن اشتهر الكلام فيه، وهكذا روايته عن موسى بن هلال إن صحت روايته عنه.
ولو فرض أن موسى بن هلال العبدي، وعبد الله بن عمر العمري من الرواة الثقات الإثبات المشهورين، والعدول الحفاظ المتقنين الضابطين، وقدر أن هذا الحديث المروي من طريقهما من الأحاديث الصحيحة المشهورة المتلقاة بالقبول، لم يكن فيه دليل إلا على الزيارة الشرعية؛ وتلك لا ينكرها شيخ الإسلام ولا يكرهها بل يندب إليها ويحض عليها ويستحبها وقد قال في الجواب الباهر لمن سأل من ولاة الأمر عما أفتى به في زيادة المقابر.
قد ذكرت فيما كتبته من المناسبات أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج عمل صالح مستحب، وقد ذكرت في عدة مناسك الحج السنة في ذلك وكيف يسلم عليه وهل يستقبل الحجرة أو القبلة على قولين فالأكثرون يقولون يستقبل الحجرة كمالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة يقول: يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره في قول وخلفة في قول لأن الحجرة لما كانت خارجة المسجد، كان الصحابة يسلمون عليه لم يكن يمكن أحد أن يستقبل وجهه ويستدبر القبلة كما صار ذلك ممكناً بعد دخولها في المسجد – إلى أن قال: والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب بإجماع المسلمين لم يقل أحد من أئمة المسلمين، إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة ولا نهي أحد عن السفر إلى مسجده وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره صلى الله عليه وسلم، بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة.
ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهي عن ذلك، ولا نهي عن المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور، بل قد ذكرت في غير موضع استحباب زيارة القبور كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أهل البقيع وشهداء أحد ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون (1) . ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم


(1) الحديث أخرجه مسلم 7/40 والنسائي 4/93 وأحمد 6/180 من حديث عائشة وورد في حديث أبي هريرة أخرجه مسلم 3/137 وأبو داود 3/559 والنسائي 1/94 وورد من حديث بريدة أخرجه مسلم 7/44.
(1/30)

والمستأخرين، ونسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتتنا بعدهم واغفر لنا ولهم.
وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم له خاصة ليست لغيره من الأنبياء والصالحين وهو أنا أمرنا أن نصلي ونسلم عليه في كل صلاة (1) ، وشرع ذلك في الصلاة وعند الأذان (2) وسائل الأدعية، وأن نصلي ونسلم عليه عند دخول المسجد ومسجده وغير مسجده، وعند الخروج (3) منه وكل من دخل مسجده فلا بد أن يصلي فيه ويسلم عليه في الصلاة، والسفر إلى مسجده مشروع لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره حتى كره مالك أن يقال: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم لأن المقصود الشرعي بزيارة القبور السلام عليهم والدعاء لهم، وذلك السلام والدعاء فقد حصل على أكمل الوجوه في الصلاة في مسجده وغير مسجده وعند سماع الأذان وعند كل دعاء فشرع الصلاة عليه عند كل دعاء (4) فإنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
ولهذا يسلم المصلي عليه في الصلاة قبل أن يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين فيقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (5) ، ويصلي عليه فيدعو له قبل أن يدعو لنفسه، وأما غيره فليس عنده مسجد فيستحب السفر إليه كما يستحب السفر إلى مسجده، وإنما يشرع أن يزار قبره كما شرعت زيارة القبور، وأما هو فيشرع السفر إلى مسجده، وينهي عما يوهم أنه سفر إلى غير المساجد الثلاثة.


(1) يشير إلى أحاديث التشهد في الصلاة. منها حديث ابن مسعود أخرجه مسلم.
(2) يشير إلى حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا علي..) رواه مسلم 1/288، وأبو داود 1/359، وأحمد 2/168، والنسائي 2/25 والترمذي 10/83 تحفة وأبو عوانة 1/337 والبيهقي 1/409-410.
(3) راجع رسالتنا (اتحاف الراكع الساجد في أذكار الدخول والخروج من المساجد) .
(4) ويشير إلى حديث فضالة بن عبيد أنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعوا في الصلاة ولم يذكر الله عز وجل ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم فقال رسول الله: عجل هذا ثم دعاه وقال له ولغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم ليدع بعد بما شاء، رواه أحمد 6/18 ورواه أبو داود 2/162، والنسائي 3/44 والترمذي 9/449، تحفة وابن السني في عمل اليوم والليلة 111.
(5) يشير رحمه الله تعالى إلى التشهد.
(1/31)

ويجب الفرق بين الزيارة الشرعية التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين البدعية التي لم يشرعها، بل نهى عنها مثل اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، والصلاة إلى القبر واتخاذه وثناً (1) ، وقد ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) (2) حتى إن أبا هريرة سافر إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام فقال له بصرة بن أبي بصرة الغفاري: لو أدركتك قبل أن تخرج لما خرجت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تعمل المطي إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس)) (3) .
فهذه المساجد شرع السفر إليها لعبادة الله فيها بالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف والمسجد الحرام يختص بالطواف لا يطاف بغيره، وما سواه من المساجد إذا أتاها الإنسان وصلى فيها من غير سفر كان ذلك من أفضل الأعمال كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة، والعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه، اللهم اغفر له اللهم أرحمه ما لم يحدث)) (4) .
ولو سافر من بلد إلى بلد مثل أن يسافر إلى دمشق من مصر لأجل مسجدها، أو بالعكس، أو يسافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعاً باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، ولو نذر ذلك لم يف بنذره باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم إلا خلاف شاذ عن الليث بن سعد في المساجد.


(1) قلت وكذلك الزيارة التي يحصل فيها الذبح فوق القبور ودعاء الأموات وطلب الحاجات منهم فهذا يعتبر شركاً والزيارة شركية.
(2) تقدم برقم (8) .
(3) رواه أحمد 6/7 بسند صحيح و 3/64، 69 من حيث أبي سعيد الخدري وفي مسنده شهر بن حوئب=
=فائدة: وقع في مسند الإمام أحمد 6/7 قرأت على عبد الرحمن مالك عن يزيد لعل الصوابت (قرأت علي عبد الرحمن عن مالك..) كما في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي وترجمة مالك بن أنس في تهذيب التهذيب، ثم أن الصحيح أنه من مسند أبي بصرة الغفاري، راجع صحيح الجامع رقم 7248 وأحكام الجنائز ص224 وما بعدها فإنه بحث نفيس جداً.
وروى هذه القصة مطولة النسائي. 3/113.
(4) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة 1/564 و 2/131 و 4/338 ومسلم 1/459 و 1/453 من حديث عبد الله بن مسعود.
(1/32)

وقاله ابن مسلمة من أصحاب مالك في مسجد قباء فقط، ولكن إذا أتى المدينة استحب له أن يأتي مسجد قباء ويصلي فيه، لأن ذلك ليس بسفر ولا بشد رحل فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً كل سبت ويصلي فيه ركعتين (1) وقال: ((من تظهر في بيته ثم أتى مسجد قباء كان له كعمرة)) (2) رواه الترمذي وابن أبي شيبة، وقال سعد بن أبي وقاس، وابن عمر: صلاة فيه كعمرة، ولو نذر (3) المشي إلى مكة للحج والعمرة لزمه باتفاق المسلمين، ولو نذر أن يذهب إلى مسجد المدينة أو بيت المقدس ففيه قولان: أحدهما ليس عليه الوفاء، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، لأنه ليس من جنسة ما يجب بالشرع، والثاني عليه الوفاء بنذره، وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل والشافعي في قوله الآخر، لأن هذا طاعة لله، وقد ثبت في صحيح البخاري، عن عائشة، عن البني صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه)) (4) .
ولو نذر السفر إلى غير المساجد أو السفر إلى مجرد قبر نبي، أو صالح لم يلزمه الوفاء بنذر باتفاقهم، فإن هذا السفر لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) (5) وإنما يجب بالنذر ما كان طاعة، وقد صرح مالك وغيره بأن من


(1) رواه البخاري 3/68-69 فتح و 13/313 ومسلم 2/1016-1017 وأبو داود 2/533-534 والنسائي 2/37 كلهم من حديث ابن عمر.
(2) رواه الترمذي 2/146 من حديث أسيد بن ظهير الأنصاري وفي سنده أبي الأبرد وهو مقبول كما في التقريب وابن ماجة 1/542، ورواه النسائي 2/37 من حديث أبي أمامة سهل بن حنيف وفي سنده= =محمد بن سليمان الكرماني وهو مقبول كما في التقريب، وابن ماجة 1/453 فالحديث بمجموع الطرق حسن.
(3) إن كان يقصد أنه إذا نذر السفر فواجب بالنذر فنعم، وإن قصد الوفاء بالنذر أي الذهاب مشياً على الأقدام فقد وردد النهي عن ذلك من حديث أنس أن النبي رأى شيخاً يهاوى بين أبنية قال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي قال: إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب، أخرجه البخاري 4/78 و 11/585 ومسلم 3/1264 والترمذي 4/111 والدارمي 2/184.
ومن حديث عقبة بن عامر قال: (نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله وأمرتني أن استفتي لها النبي – صلى الله عليه وسلم – ((لتمشي ولتركب 4/79 ومسلم 3/1264 والترمذي 4/111))
(4) رواه البخاري 11/585، وأبو داود 3/593 والترمذي 4/104 والنسائي 7/17 وابن ماجة 1/687 والدارمي 2/184 وأحمد 6/36، 41، 224 كلهم من حديث عائشة.
(5) تقدم صفحة (19) حاشية (1)
(1/33)

نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفى بنذره، وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره، قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد)) (1) .
والمسألة ذكرها إسماعيل بن إسحاق في المبسوط، ومعناها في المدونة والجلاب وغيرهما من كتب أصحاب مالك يقول: إن من نذر إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لزمه الوفاء بنذره؛ لأن المسجد لا يؤتي إلا للصلاة، ومن نذر إتيان المدينة النبوية فإن كان قصده الصلاة في المسجد وفى بنذره، وإن قصد شيئاً آخر مثل زيارة من بالبقيع أو شهداء أحد لم يف بنذره؛ لأن السفر إنما يشر إلى المساجد الثلاثة.
وهذا الذي قاله مالك وغيره ما علمت أحد من أئمة المسلمين قال بخلافه، بل كلامهم يدل على موافقته.
وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد في السفر لزيارة القبور قولين: التحريم والإباحة. وقدماؤهم وأئمتهم قالوا: إنه محرم وكذلك أصحاب مالك وغيرهم، وإنما وقع النزاع بين المتأخرين لأن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) (2) صيغة خبر، ومعناه النهي فيكون حراماً.
وقال بعضهم: ليس بنهي، وإنما معناه أنه لا يشرع وليس بواجب ولا مستحب، بل مباح كالسفر في التجارة وغيرها، فيقال: تلك الأسفار لا يقصد بها العبادة، بل يقصد بها مصلحة دنيوية، والسفر إلى القبور إنما يقصد به العبادة، والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب.
فإذا حصل الاتفاق على أن السفر إلى القبور ليس بواجب ولا مستحب كان من فعله على وجه التعبد مبتدعاً مخالفاً للاجتماع، والتعبد بالبدعة ليس بمباح، لكن من لم يعلم أن ذلك بدعة، فإنه قد يعذر، فإذا تبينت له السنة لم يجز له مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم ولا التعبد بما نهى عنه، كما لا يجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند غروبها (3) ، وكما لا يجوز


(1) تقدم صفحة (32) حاشية (3) .
(2) تقدم صفحة 19 حاشية (1) .
(3) يشير إلى قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس)) أخرجه البخاري 2/60-61 فتح ومسلم 1/566-567 متن من حديث ابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة. راجع ارواء العليل 2/236 وصحيح الجامع 7386.
(1/34)

صوم يومي العيدين (1) ، وإن كانت الصلاة والصيام من أفضل العبادات، ولو فعل ذلك إنسان قبل العلم بالسنة لم يكن عليه إثم.
فالطوائف متفقة على أنه ليس مستحباً، وما علمت أحد أحداً من أئمة المسلمين قال: إن السفر إليها مستحب، وإن كان قاله بعض الأتباع فهو ممكن، وأما الأئمة المجتهدون فما منهم من قال هذا، وإذا قيل هذا كان قولاً ثالثاً في المسألة، وحيئنذ فبين لصاحبه أن هذا القول خطأ مخالف للسنة ولإجماع الصحابة، فإن الصحابة في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وبعدهم إلى انقراض عصرهم لم يسافر أحد منهم إلى قبر نبي ولا رجل صالح، وقبر الخليل عليه السلام بالشام لم يسافر إليه أحد منهم من الصاحبة وكانوا يأتون بيت المقدس ويصلون فيه ولا يذهبون إلى قبل الخليل ولم يكن ظاهراً، بل كان في البناء الذي بناه سليمان عليه السلام؛ ولا كان قبر يوسف يعرف، ولكن أظهر ذلك بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من الهجرة، ولهذا وقع فيه نزاع فكثير من أهل العلم ينكره، ونقل ذلك عن مالك وغيره، لأن الصحابة لم يكونوا يزورنه فيعرف، ولما استولى النصارى على الشام نقبوا البناء الذي كان على الخليل واتخذوا المكان كنيسة، ثم لما فتح المسلمون البلد بقي مفتوحاً.
وأما على عهد الصحابة فكان قبر الخليل عليه السلام مثل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أحد من الصحابة يسافر إلى المدينة لأجل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يأتون فيصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة ويسلم من يسلم عند دخول المسجد والخروج منه وهو مدفون في حجرة عائشة فلا يدخلون الحجرة ولا يقفون خارجاً عنها في المسجد عند السور (2) ، وكان يقدم في خلافة أبي بكر وعمر امتداد اليمن الذين فتحوا الشام والعراق،


(1) يشير إلى ما رواه البخاري 4/238-241، فتح ومسلم 3/799-800 من حديث عمر وأبي سعيد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((نهى عن صوم يوم الفطر والنحرة)) راجع الإرواء 4/924 وصحيح الجامع 6839.
(2) قلت: أما الآن فقد أصبح الناس يقبلون الشبك ويتمسحون به ويربطون عرضه الخيوط بنبات فاسدة منهم من يقصد أن ذلك العمل يجعله يعود السنة القادمة ومنهم من أجل= =ألا يحدث بينه وبين زوجته شقاق وطلاق ومنهم من أجل أن يتزوج ومنهم من أجل المحبة وهلم جرا وبعضهم يكتب رسالة ويرسلها مع الحاج أو المعتمر وهو بدوره يرميها إلى جانب القبر وفيها الشركيات والاستغاثات وطلب الحاجات، وهكذا في سور مقبرة البقيع يفعل مثل هذا بل رأيت كثيراً من الجهال وخصوصاً من= =الأعاجم من يبقى الساعات الطوال متجهاً إلى القبر، وهذا من خارج المسجد رافعاً يديه يدعو وخصوصاً الإيرانيون.
(1/35)

وهم الذين قال الله فيهم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة 054)
ويصلون في مسجده كما ذكرنا (1) ، ولم يكن أحد يذهب إلى القبر ولا يدخل الحجرة ولا يقوم خارجها في المسجد، بل السلام عليه من خارج الحجرة؛ وعمدة مالك وغيره في علي فعل ابن عمر.
وبكل حال فهذا القول لو قاله نصف المسلمين لكان له حكم أمثاله من الأقوال في مسائل النزاع، أما أن يجعل هو الذي الحق ويستحل عقوبة من خالفه أو يقال بكفره فهذا خلاف اجماع المسلمين،وخلاف ما جاء به الكتاب والسنة، فإن كان المخالف للرسول في هذه المسألة يكفر؛ فالذي خالف سنته وإجمال الصحابة وعلماء أمته فهو الكافر ونحن نكفر أحداً من المسلمين بالخطأ لا في هذه المسائل، ولا في غيرها لكن إن قدر تكفير المخطئ فمن خالف الكتاب والسنة واجماع الصحابة والعلماء أولى بالكفر ممن وافق الكتاب والسنة والصحابة وسلف الأمة وأئمتها.
فأئمة المسلمين فرقوا بين ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما نهى عنه في هذا وغيره؛ فما أمر به هو عبادة وطاعة وقربة، وما نهى عنه بخلاف ذلك، بل قد يكون شركاً كما يفعله أهل الضلال من المشركين وأهل الكتاب من ضاهاهم حيث يتخذون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين ويصلون إليها وينذرون لها ويحجون إليها، بل قد يجعلون الحج إلى بيت المخلوق أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام، ويسمونه ذلك الحج الأكبر، وصنف لهم شيوخهم في ذلك مصنفات كما صنف المفيد بن النعمان كتاباً في مناسك المشاهد سماه مناسك حج المشاهد، وشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.
وأصل دين الإسلام أن نعبد الله وحده ولا نجعل له من خلقه نداً ولا كفواً ولا سمياً قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (مريم 65) وقال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد} (الإخلاص 004) وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى 11) وقال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} (البقرة 22) .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله نداً، وهو خلقك)) قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)) قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تزني بحليلة جارك)) (2) .


(1) أخرجه البخاري 8/492 و 10/433 و 12/86 و 12/187 و 13/491 ومسلم 1/90 وأبو داود 2/732 والترمذي 5/336 والنشائي 7/89.
(2) أخرجه البخاري في كتاب التفسير في تفسير البقرة والأدب باب رقم 20 والتوحيد باب رقم 20 والديات باب رقم (1) ، وأخرجه أيضاً في مواضع أخرى ورواه مسلم 1/90 ورواه أبو داود في الطلاق باب رقم 50 والترمذي في التفسير.
(1/36)

وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (البقرة 165) فمن سوى بين الخالق والمخلوق في الحب له والخوف منه والرجاء له فهو مشرك.
والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أمته عن دقيق الشرك وجليله حتى قال صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) (1) رواه أبو داود وغيره، وقال له رجل ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده (2) ، وقال: ((لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد)) (3) .
وجاء معاذ بن جبل مرة فسجد له فقال له: ((ما هذا يا معاذ؟)) فقال: يا رسول الله رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم فقال: ((يا معاذ إنه لا يصلح السجود إلا لله ولو كان آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها)) (4) .
فلهذا فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين زيارة أهل التوحيد وبين زيارة أهل الشرك: فزيارة أهل التوحيد لقبور المسلمين تتضمن السلام عليهم والدعاء لهم وهو مثل الصلاة على جنائزهم، وزيارة أهل الشرك تتضمن أنهم يشبهون المخلوق بالخالق: ينذرون له ويسجدون له ويدعونه ويحبونه مثل ما يحبون الخالق فيكونون قد جعلوه لله نداً وسووه برب العالمين.
وقد نهى الله أن يشرك به الملائكة والأنبياء وغيرهم فقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ


(1) حديث صحيح وسيأتي الكلام عليه تحت رقم 728 وانظر تخريجه موسعاً في تحقيقنا للواسطة بين الحق والخلق.
(2) حديث صحيح وسيأتي في الكلام عليه صفحة 338 حاشية (1)
(3) حديث صحيح وسيأتي الكلام عليه صفحة 338 حاشية (1) .
(4) حديث معاذ رواه أحمد 5/227، 228 وهو ضعيف لأنه جاء من طريق أبي ظبيان عن رجل عن معاذ فعلم أن الحديث يدور على مبهم. =
=لكن أصل الحديث رواه الترمذي من حديث أبي هريرة والحاكم عن بريدة وأحمد وابن ماجه وابن حيان عن عبد الله بن أبي طالب أوفي والحديث بمجموع طرقه ثابت.
(1/37)

وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران 079-080) وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء 056-057)
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الأنبياء كالمسيح وعزيز ويدعون الملائكة فأخبرهم الله تعالى أن هؤلاء عبيدة يرجون رحمة ويخافون عذابه ويتقربون إليه بالأعمال ونهى سبحانه أن يضرب له مثل بالمخلوق فلا يشبه بالمخلوق الذي يحتاج إلى الأعوان والحجاب ونحو ذلك، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة 186)
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ 022-023)
وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الشفعاء لديه، وشفاته أعظم الشفاعات (1) وجاهه عند الله أعظم الجاهات، ويوم القيامة إذا طلب الخلق الشفاعة من آدم، ثم من نوح، ثم من إبراهيم، ثم من موسى، ثم من عيسى كل واحد حيلهم على الآخر، فإذا جاءوا إلى المسيح يقول: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: ((فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، وأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقال: أي محمد ارفع رأسك، قل يسمع سل تعطه، واشفع تشفع قال: فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة)) (2) .
فمن أنكر شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر فهو مبتدع ضال كما ينكرها الخوارج والمعتزلة، ومن قال: إن مخلوقاً يشفع عند الله بغير إذنه فقد خالف إجماع المسلمين ونصوص القرآن، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البقرة 255) وقال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء 028) وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (النجم 26)


(1) قد ألف الشيخ مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله تعالى رسالة في الشفاعة وهي مطبوعة فلتراجع فإنها فريدة في بابها، فجزاه الله خيراً.
(2) في التوحيد لابن خزيمة ص253، ص300 وراجع الشفاعة للشيخ مقبل ص53-55.
(1/38)

وقال تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (طه 108-109) وقال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} (يونس 3) وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} (السجدة 4) ومثل هذا في القرآن كثير.
فالدين هو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يؤمر بما أمر به وينهي عما نهى عنه، ويحب ما أحبه الله ورسوله من الأعمال والأشخاص، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله من الأعمال والأشخاص، والله سبحانه وتعالى قد بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالفرقان ففرق بين هذا وهذا فليس لأحد أن يجمع بين ما فرق الله بينه، فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فصلى في مسجده، وصلى في مسجد قباء وزار القبور كما مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الذي عمل العمل الصالح، ومن أنكر هذا السفر هو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر، ولم يقصد الصلاة في مسجده وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده صلى الله عليه وسلم ولا سلم عليه في الصلاة، بل أتى القبر، ثم رجع فهذا مبتدع ضال مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع أصحابه ولعلماء أمته، وهو الذي ذكر فيه القولان: أحدهما: أنه محرم، والثاني أنه لا شيء عليه ولا أجر له، والذي يفعله علماء المسلمين، وفي الصلاة، وهذا مشروع باتفاق المسلمين، قد ذكرت هذا في المناسك وفي الفتيا وذكرت أنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، وهذا الذي لم أذكر فيه نزاعاً في الفتيا مطلقاً كما نقل ذلك عن إبراهيم النخعي والشعبي، ومحمد بن سرين، وهؤلاء من أجله التابعين، ونقل ذلك عن مالك (1) ، وعنه أنها مباحة ليست مستحبة، وأما إذا قدر من أتى المسجد فلم يصل فيه، ولكن أتى القبر، ثم رجع، فهذا هو الذي أنكر الأئمة كمالك وغيره، وليس هذا مستحباً عند أحد من العلماء، وهو محل النزاع هل هو حرام أو مباح، وما علمنا أحد من علماء المسلمين استحب مثل هذا والله أعلم.
قال المعترض
الحديث الثاني: ((من زرار قبلي حلت له شفاعتي)) رواه الإمام أبو بكر أحمد بن


(1) والصحيح أنها مستحبة بشرط خلوها من البدع والشركيات.
(1/39)

عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده قال: حدثنا قتيبة، حدثنا عبد الله بن إبراهيم، حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من زار قبري حلت له شفاعتي)) . قال وهذا هو الحديث الأول بعينه وكذلك عزاه عبد الحق إلى الدارقطني (1) والبزاز (2) جميعاً، إلا أن في الحديث الأول (وجبت) وفي هذا (حلت) ، فلذلك أفردته بالذكر، هكذا قال المعترض.
ثم ذكر كلاماً كثيراً لا حاجة إلى ذكره ليعظم حجم الكتاب (3) فقال: وقد نقلته من نسخة معتمدة سمعها الحافظ القاضي أبو علي الحسين بن محمد الصدفي على الشيخ الفقيه صاحب الإحكام أبي محمد عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن فورتش في سنة ثمانين وأربعمائة بسرقسطة، وعليها خط أبي محمد عبد الله بن فورتش بسماع الصدفي عليه، وأنه حدث بها عن الشيخ أبي عمر أحمد بن عمر بن أحمد بن محمد المقري الطلمنكي إجازة، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يحي بن مفرج، حدثنا أبو الحسن محمد بن أيوب بن حبيب بن يحي الرقي الصموت، حدثنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، وعلى هذه النسخة إنها قوبلت بأصل القاضي أبي عبد الله بن مفرج الذي فيه سماعه على الرقي محمد بن أيوب، وأكثر أصل ابن مفرج بخط الرقي، وقد حدث القاضي أبو علي الصدفي بهذه النسخة مرات، وعليها الطباق عليه، وممن قرأها على الصدفي محمد بن خلف بن سليمان بن فتحون في سنة ثلاث وخمسمائة، وقد حدث بهذه النسخة أيضاً الفقيه العالم المتقن أبو محمد بن حوط الله قرأها عليه محمد بن محمد بن سماعة في سنة ست وستمائة بمرسية، وفورتش بضم الفاء بعدها وأو ساكنة، ثم راء ساكنة، ثم تاء مثناة من فوق ثم شين معجمة.
وهكذا أطال المعترض عقب الحديث المذكور بمثل هذا الحشو الذي لا يحتاج إلى ذكره في هذا الموضع وله مثل هذا الفعل في هذا الكتاب الذي جمعه كثير ولو ذكر بدل هذا الحشو ما يتعلق بعلة الحديث وتحرير القول في إسناده لكان أحسن وأولى، وإنما ذكرت مثل هذا عن هذا المعترض، وإن كان فيه تطويل للتنبيه على أنه يطول بمثله الكلام على الأحاديث في كثير من المواضع.


(1) انظر سنن الدارقطني 2/278.
(2) انظر كشف الأستار للهيثمي 2/57.
(3) قلت وليلبس على من لا علم له بالحديث وعلله.
(1/40)

وأعلم أن هذا الحديث الذي ذكره من رواية البزار حديث ضعيف منكر ساقط الإسناد لا يجوز الاحتجاج بمثله عند أحد من أئمة الحديث وحفاظ الأثر كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى، وقتيبة شيخ البزار هو ابن المرزبان، روى عنه غير هذا الحديث، وأما عبد الله بن إبراهيم فهو ابن أبي عمرو الغفاري أبو محمد المدني يقال إنه من ولد أبي ذر الغفاري، وهو شيخ ضعيف الحديث جداً منكر الحديث وقد نسبه بعض الأئمة إلى الكذب ووضع الحديث (1) نعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو داود هو شيخ منكر الحديث، وقال الدارقطني: حديثه منكر، وقال الحاكم أبو عبد الله: يروي عن جماعة من الثقات أحاديث موضوعة لا يرويها عنهم غيره، وقال البزار عقب روايته حديثه هذا: وعبد الله بن إبراهيم حديث بأحاديث لا يتابع عليها (2) ، وقال أبو حاتم بن حبان البستي: عبد الله بن أبي عمر الغفاري شيخ يروي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأهل المدينة واسم أبيه إبراهيم.
روى عنه سلمة بن شبيب والناس كان ممن يأتي عن الثقات بالمقلوبات وعن الضعفاء بالملزوقات، روى عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما جزت ليلة أسري بي من سماء إلى سماء إلا رأيت اسمي مكتوباً محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، وهذا خبر باطل فليس أدري البلية فيه منه، أو من عبد الرحمن بن زيد بن أسلم على أن عبد الرحمن بن زيد، ليس هذا من حديثه بمشهور، فكأن القلب إلى أنه من عمل عبد الله بن إبراهيم بن أبي عمرو أميل (3) .
وقد ذكر ابن عدي في كتاب الكامل، هذا الحديث الذي ذكره ابن حبان أنه باطل وجعله من مسند أبي هريرة فقال: حدثنا موسى بن هارون النوزي، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عبد الله بن إبراهيم الغفاري، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرج بي إلى السماء فما مررت بسماء إلا وجدت فيها اسمي محمد رسول الله وأبو بكر الصديق خلفي)) قال ابن عدي: هذا الحديث عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لا يرويه عنه غير عبد الله بن إبراهيم.
وذكر ابن عدي لعبد الله بن إبراهيم أحاديث كثيرة منكرة، بل موضوعة، ثم قال: وعامة ما يرويه لا يتابعه عليه الثقات (4) .


(1) انظر كشف الأستار للهيثمي 2/57، قلت وهذا من معايب السبكي حيث أنه ينقل ما يوافقه ويترك ما لا يوافقه فهو قد نقل الحديث من البزار فلم ينقل البزار حول عبد الله بن إبراهيم هذا.
(2) انظر المجروحين لابن حبان 2/36، وراجع أيضاً الميزان للذهبي 2/288.
(3) 4/1506 – 1508.
(1/41)

وقال العقيلي: عبد الله إبراهيم الغفاري كان يغلب على حديثه الوهم.
وأما عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فهو ضعيف غير محتج به عند أهل الحديث، قال الفلاس: لم أسمع عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه، وقال أبو طالب عن أحمد بن حنبل: ضعيف، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين:ليس حديثه بشيء، وقال البخاري وأبو حاتم الرازي ضعفه علي بن المديني جداً؛ وقال أبو داود وأبو زرعة والنسائي والدارقطني: ضعيف، وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار؛ وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك (1) .
وقال الحاكم أبو عبد الله: روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه، وقال ابن خزيمة: عبد الرحمن بن زيد ليس ممن يحتج أهل الحديث بحديثه؛ وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: حدث عن أبيه لا شيء، وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم سمعت الشافعي يقول: ذكر رجل لمالك حديثاً فقال: من حدثك عن أبيه نوح.
وقال الربيع بن سليمان سمعت الشافعي يقول:؛ سأل رجل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، حدثك أبوك عن أبيه عن جده أن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت ركعتين؟ قال: نعم فقد تكلم في عبد الرحمن بن زيد جماعة آخرون غير من ذكرنا وسيأتي الكلام عليه مستوفي في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
وما ذكرناه في هذا المكان من كلام أئمة هذا الشأن في بيان حاله وحال عبد الله بن إبراهيم الغفاري فيه كفاية لمن له أدنى معرفة، فيكف يسوغ لأحد الاحتجاج بحديث فيه إسناده مثل هذين الضعيفين المشهورين بالضعف ومخالفة الثقات الذين لو كان أحدهم وجده في طريق الحديث لكان محكوماً عليه بالضعف وعدم الصحة، فكيف إذا كان مجتمعين في الإسناد.
وقد علم أن المستدل بالحديث عليه أن يبين صحته، ويبين دلالته على مطلوبه، وهذا المعترض لم يجمع في حديث واحد بين هذا وهذا، بل إن ذكر صحيحاً لم يكن دالاً على محل النزاع، وإن أشار إلى ما يدل لم يكن ثابتاً عند أهل العلم بالحديث، وقد


(1) 2/233.
(1/42)

صرح غير واحد من المتقدمين والمتأخرين من الشافعية وغيرهم بتضعيف الحديث المروي عن ابن عمر في هذا الباب، حتى أن الشيخ أبا ذكريا النووي في شرح المهذب لما ذكر قول أبي إسحاق: ويستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) قال النووي: أما حديث ابن عمر فرواه أبو بكر البزار والدارقطني (1) والبيهقي بإسنادين ضعيفين جداً يعني الإسناد الذي فيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري والإسناد المتقدم الذي فيه موسى بن هلال العبدي.
ولقد صدق الشيخ أبو زكريا فيما قاله في هذا الحديث، وأما هذا المعترض فإنه خالف من قبله من أهل العلم وأخذ يقوي حديث موسى بن هلال، ويرد على من وضعه، ثم أخذ يشير إلى تقوية حديث الغفاري وجملة شاهداً لحديث العبدي فقال: وعبد الله بن إبراهيم الغفاري، يقال إنه من ولد أبي ذر، روى له أبو داود والترمذي، ثم ذكر قول أبي داود وابن عدي والبزار فيه.
ثم قال: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى له الترمذي وابن ماجة وضعفه جماعة، وقال ابن عدي: إن له أحاديث حساناً وإنه ممن احتمله الناس وصدقه بعضهم، وإنه ممن يكتب حديثه وصحح الحاكم حديثاً من جهته سنذكره في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وإذا كان المقصود من هذا الحديث تقوية الأول به وشهادته له لم يضر ما قيل في هذا الرجلين، إذ ليس راجعاً إلى تهمة كذب. ولا فسق، ومثل هذا يحتمل فيه المتابعات والشواهد.
هذا كله كلام المعترض ولا يخفى ما فيه من الضعف والسقوط على أقل من له بصيرة؛ وإني لأتعجب منه كيف قلد الحاكم فيما صححه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم الذي رواه في التوسل، وفيه قول الله لآدم: لولا محمد ما خلفتك مع أنه حديث غير صحيح ولا ثابت، بل هو حديث ضعيف الإسناد جداً، وقد حكم عليه بعض الأئمة بالوضع وليس إسناده من الحاكم إلى عبد الرحمن بن زيد بصحيح، بل هو مفتعل على عبد الرحمن كما سنبينه، ولو كان صحيحاً إلى عبد الرحمن لكان ضعيفاً غير محتج به، لأن عبد الرحمن في طريقه.
وقد أخطأ الحاكم في تصحيحه وتناقض تناقضاً فاحشاً كما عرف له ذلك في مواضع فإنه قال في كتاب الضعفاء بعد أن ذكر عبد الرحمن منهم، وقال: ما حكيته عنه فيما تقدم


(1) انظر: سنن الدارقطني 2/278 وسنن البيهقي 15/245.
(1/43)

أنه روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه، قال في آخر هذا الكتاب: فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به، فإن الجرح لا استحله تقليداً، والذي اختاره لطالب هذا الشأن أن لا يكتب حديث واحد من هؤلاء الذين سميتهم، فالراوي لحديثهم دخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين)) (1) .
هذا كله كلام أبي عبد الله صاحب المستدرك، وهو متضمن أن عبد الرحمن بن زيد قد ظهر له جرحه بالدليل، وأن الراوي لحديثه داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)) .
ثم أنه رحمه الله لما جمع المستدرك على الشيخين ذكر فيه من الأحاديث الضعيفة والمنكرة بل والموضوعة جملة كثيرة، وروى فيه لجماعة من المجروحين الذين ذكرهم في كتابه في الضعفاء وذكر أنه تبين له جرحهم، وقد أنكر عليه غير واحد من الأئمة هذا الفعل، وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره فذلك وقع منه ما وقع وليس ذلك ببعيد، ومن جملة ما خرجه في المستدرك حديث لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في التوسل قال بعد روايته: هذا حديث صحيح الإسناد وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب (2) ، فانظر إلى ما وقع للحاكم في هذا الموضوع من الخطأ العظيم والناقض الفاحش.
ثم أن هذا المعترض المخذول (3) عمد إلى هذا الذي أخطأ فيه الحاكم وتناقض فقلده فيه واعتمد عليه، وأخذ في التشنيع على من خالفه فقال: والحديث المذكور لم يقف ابن


(1) رواه مسلم 1/12 متن وأحمد 4/252 و 5/20 من حديث المغيرة بن شعبة، وابن ماجه 1/14-15 من حديث المغيرة وعلى سمرة بن جندب.
(2) انظر المستدرك 2/615.
(3) قلت: هذا اللفظ في موضعه ولكن بعض الناس قد يقول: إن هذا من التشدد ومن الكلام القاسي والله تعالى قد قال لموسى وهارون: ((إذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً)) فأقول: هذا موسى الذي قال اله له هذا يقول لفرعون ((وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً)) ويقول لصاحبه ((إنك لقوين مبين)) بل الشدة في موضعها من الحكمة وهل الحكمة إلا وضع كل شيء في موضعه ولكل مقام مقال.
فإن هذا المعترض وأمثاله لا يصلح معهم إلا الشدة لأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه.
وقوله بعد هذا (ومناقشة المعترض على ما وقع منه من الكلام عليه بغير علم)
أوقل بل الظاهر أنه يعلم ولكن ليلبس على من لا علم له بالحديث.
(1/44)

تيمية عليه بهذا الإسناد، ولا بلغه أن الحاكم صححه، ولو بلغه أن الحاكم صححه لما قال ذلك، يعني أنه كذب ولتعرض للجواب عنه قال: وكأني به إن بلغه بعد ذلك يطعن في عبد الرحمن بن زيد بن أسلم رواي الحديث، ونحن قد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم، وذكر قبل ذلك بقليل أنه مما تبين له صحته.
فانظر رحمك الله إلى هذا الخذلان البين والخطأ الفاحش، كيف جاء هذا المعترض إلى حديث غير صحيح ولا ثابت، بل هو حديث موضوع فصححه واعتمد عليه وقلد في ذلك الحاكم مع ظهور خطئه وتناقضه ومع معرفة هذا المعترض بضعف رواية وجرحه واطلاعه على الكلام المشهور فيه، وأخذ مع هذا يشنع على من رد هذا الحديث المنكر ولم يقبله؛ ويبالغ في تخطئته وتضليله.
وليس المقصود هنا الكلام على هذا الحديث ومناقشة المعترض على ما وقع منه من الكلام عليه بغير علم؛ وإنما أشرنا إلى ذلك إشارة لما أخذ المعترض يقوي أمر عبد الرحمن بن زيد عند ذكر الحديث المروي عنه في الزيادة ويذكر أن الحاكم صحح له حديثاً في التوسل.
ولو فرض أن هذا الحديث المروي عن عبد الرحمن بن زيد في الزيارة من الأحاديث الصحيحة المشهورة لم يكن فيه دليل على غير الزيارة على الوجه المشروع، وقد علم أن الزيارة نوعان: شرعية وغير شرعية، فالشرعية لم يمنع منها شيخ الإسلام ولم ينه عنها في شيء من فتاويه ومؤلفاته ومناسكه، بل كتبه مشحونة بذكرها، ومن نسب إليه أنه منع منها أو نهى عنها، أو قال هي معصية بالإجماع مقطوع بها فقد كذب عليه وافترى وقال عنه ما لم يقله قط.
وقد قال الشيخ رحمه الله تعالى في منسك له صنفه في أواخر عمره:
فصل
وإذ دخل المدينة قبل الحج أو بعده فإنه يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي فيه الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ولا تشد الرحال إلا إليه، وإلى المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، هكذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد (1) ، وهو مروي من طرق أخرى، ومسجده كان أصغر مما هو اليوم؛ وكذلك


(1) تقدم ورواه أيضاً أحمد 1/184 و 2/277، 256، 416، 484 وله أيضاً عن طرق كثيرة وشواهد متعددة، أنظر تحذير الساجد ص135.
(1/45)

المسجد الحرام لكن زادفيهما الخلفاء الراشدون ومن بعدهم، وحكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام، ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه فإنه قد قال: ((ما من رجل يسلم علي إلا رد الله عليه روحي حتى أرد عليه السلام)) (1) رواه أبو داود وغيره، وكان عبد الله بن عمر إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف (2) .
وهكذا كان الصحابة يسلمون عليه.
وإذا قال في سلامه السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خيرة الله من خلقه، السلام عليك يا أكرم الخلق على ربه، السلام عليك يا إمام المتقين، فهذا كله من صفاته بأبي هو وأمي، وإذا صلى عليه مع السلام عليه، فهذا مما أمر الله به، ويسلم عليه مستقبل الحجرة مستدبر القبلة فمن أصحابه من قال: يستدبر الحجرة، ومنهم من قال: يجعلها عن يساره.
واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها ولا يطوف بها ولا يصلي إليها ولا يدعو وهناك مستقبلاً للحجرة؛ فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك والحكاية المروية عنه: أنه أمر المنصور أن يستقبل القبر وقت الدعاء كذب على مالك، بل ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه، ولكن كان يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده فإنه قال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)) وقال: ((لا تجعلوا قبري عيداً ولا تجعلوا


(1) رواه أبو داود 2/534 وإسناده حسن في سنده أبا حميد وهو صدوق يهم كما في التقريب ثم رجعت إلى تحفة الأشراف فإذا بالحافظ ابن حجر يقول في النكت الظراف: يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة: حديث ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) وغلى آخره.
قال: قلت: ادخل مهدي بن جعفر عن عبد الله بن يزيد الإسكندراني عن جده بين يزيد وأبي هريرة (رجلاً) وهو أبو صالح – أخرجه الطبراني في الأوسط في ترجمة جعفر بن سهل. أهـ.
(2) أخرجه مالك بإسناد صحيح أنه كان إذا قدم من سفر دخل المسجد..إلخ وأخرجه أيضاً البيهقي في سننه الكبرى 5/245.
(1/46)

بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) (1) .
وقال: ((أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي)) قالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي بليت قال: ((إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء)) (2) فأخبر أنه يسمع الصلاة من القريب وأنه يبلغ ذلك من البعيد.
وقال: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما فعلوا قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً أخرجاه في الصحيحين (3) ، فدفنته الصحابة في موضعه الذي مات فيه من حجرة عائشة وكانت هي وسائر الحجر خارج المسجد من قبلية وشرقية لكن لما كان في زمن الوليد بن عبد الملك عمر هذا المسجد وغيره وكان نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز فأمر أن تشتري الحجرة وتزاد في المسجد، فدخل الحجرة في المسجد من ذلك الزمان وبنيت منحرفة عن القبلة مسنمة لئلا يصلي أحد إليها فإنه قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) رواه مسلم عن أبي مرثد الغنوي (4) .
وزيارة القبور على وجهين زيارة شرعية، وزيارة بدعية.
فالشرعية: المقصود بها السلام على الميت والدعاء له كما يقصد بالصلاة على جنازته، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه،فالسنة فيها أن يسلم على الميت ويدعي


(1) رواه أحمد 2/246 راجع تحذير الساحد ص16.
من حديث أبي هريرة ((اللهم لا تجعل قبري وثناً)) وأما بقية الحديث فرواه أحمد أيضاً 2/367 من حديث أبي هريرة بسند حسن ورواه أبو داود 2/534 من حديث أبي هريرة أيضاً.
(2) رواه أحمد 4/8 وأبو داود 1/635، 2/184 وابن ماجه 1636 والنسائي 13/91 جميعاص عن أوس بن أوس والحديث من طريق الحسين بن علي الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر والصحيح أنه ابن تميم حيث كان يغلط في اسمه ولكن للحديث شواهد كما قال ابن القيم من حديث أبي هريرة وأبي الدرداء وأبي أمامة وأبي مسعود الأنصاري وأنس بن مالك والحسن بن علي راجع هذا كله. في جلاء الأنعام لابن القيم ص30 – 41.
(3) رواه البخاري 1/532 و 3/200 ن 255، 6/494 عن ابن عباس وعائشة و 10/277 عنها أيضاً ومسلم 1/376-377 من حديثهما أيضاً وكذلك من حديث أبي هريرة وأحمد 6/80 و121 و 255 وأبو عوانه 1/399 راجع أيضاً تحذير الساجد ص9، 16، 20، 51.
(4) رواه مسلم 2/688 راجع تحذير الساجد ص22.
(1/47)

له سواء كان نبياً أو غير نبي، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم)) (1) . وهكذا يقول إذا زار أهل البقيع، ومن به من الصحابة وغيرهم أو زار شهداء أحدوغيرهم.
وليس الصلاة عند قبورهم غير مستحبة عند أحمد من أئمة المسلمين بل الصلاة في المساجد التي ليس فيها قبل أحد من الأنبياء والصالحين وغيرهم أفضل من الصلاة في المساجد التي فيها ذلك باتفاق أئمة المسلمين، بل الصلاة في المساجد التي على القبور، إما محرمة (2) ، وإما مكروهة.
وأما الزيارة البدعية: فهي أن يكون مقصود الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت أو يقصد الدعاء عند قبره، أو يقصد الدعاء به فهذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا استحبه أحد من سلف الأمة، بل هو من البدع المنهي عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها، وقد كره مالك وغيره أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهذا اللفظ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بل الأحاديث المذكورة في هذا الباب مثل قوله: ((من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة)) وقوله ((من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ومن زارني بعد مماتي حلت عليه شفاعتي)) ونحو ذلك كلها أحاديث ضعيفة بل موضوعة ليس في شيء من دواوين المسلمين التي يعتمد عليها ولا نقلها إمام من أئمة المسلمين لا الأئمة الأربعة ولا نحوهم، ولكن روى بعضها البزار والدارقطني (3) ، ونحوها بإسناد ضعيف لأن من عادة الدارقطني وأمثاله أن يذكروا هذا في السنن ليعرف، وهو وغيره يبينون ضعف الضعيف من ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.


(1) تقدمت الإشارة إلى بعض أحاديث الزيارة صفحة 31 حاشية (1) .
(2) قد ألف الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رسالة في هذا وسماها (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)) طبعت عدة طبعات فراجعها فإنها نفيسة جداً واقرأها بتمعن: يجزاه الله خيراً.
(3) انظر سنن الدارقطني 2/278.
(1/48)

قال المعترض
الحديث الثالث: ((من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة)) . ذكر من حديث عبد الله بن محمد العبادي البصري عن مسلمة بن سالم الجهني عن عبيد الله بن عمر، عن نافع بن سالم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة)) (1) عن عبدان بن أحمد عن عبد الله بن محمد العبادي.
وقال الخلعي: أخبرنا أبو النعمان تراب بن عمر بن عبيد العسقلاني حدثنا أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني إملاء بمصر، حدثنا يحي بن محمد بن صاعد، حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد العبادي من بني عباد بن ربيعة في بني مرة بالبصرة سنة خمسين ومائتين، حدثنا مسلمة بن سالم الجهني إمام مسجد بني حرام ومؤذنهم، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سالم، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة)) .
قلت: هذا الحديث ليس في ذكر زيارة القبر، ولا ذكر الزيارة بعد الموت مع أنه حديث ضعيف الإسناد لا يصلح الاحتجاج به، ولا يجوز الاعتماد على مثله، ولم يخرجه أحمد من أصحاب الكتب الستة، ولا رواه الإمام أحمد في مسنده ولا أحد من الأئمة المعتمد على ما أطلقوه في روايتهم، ولا صححه إمام يعتمد على تصحيحه، وقد تفره به هذا الشيخ الذي لم يعرف ينقل العلم ولم يشتهر بحمله ولم يعرف من حاله ما يوجب قبول خبرة وهو مسلمة بن سالم الجهني (2) الذي لم يشتهر إلا برواية هذا الحديث المنكر، وحديث آخر موضوع ذكره الطبراني بالإسناد المتقدم ومتنه ((الحجامة في الرأس أمان من الجنون والجذام والبرص والنعاس والضرس)) (3) وروي عنه حديث آخر منكر من رواية غير العبادي.
وإذا تفرد مثل هذا الشيخ المجهول الحال القليل الرواية بمثل هذين الحديثين المنكرين عن عبيد الله بن عمر أثبتت آل عمر بن الخطاب في زمانه وأحفظهم عن نافع عن


(1) انظر معجم الطبراني الكبير 12/291 رقم 13149.
(2) انظر ترجمته في الميزان 4/104 واللسان 6/28، والكاشف 3/140، وانظر التقريب.
(3) انظر معجم الطبراني الكبير 12/292 رقم 13150.
(1/49)

سالم عن أبيه عن عبد الله بن عمر من بين سائر أصحاب عبيد الله الثقاب المشهورين والأثبات المتقين، علم أنه شيخ لا يحل الاحتجاج بخبره، ولا يجوز الاعتماد على روايته، هذا مع أن الراوي عنه وهو عبد الله بن محمد العبادي (1) أحد الشيوخ الذين لا يحتج بما تفردوا به قد اختلف عليه في إسناد الحديث فقيل عنه عن نافع عن سالم كما تقدم، وقيل عنه نافع وسالم.
وقد خالفه من هو أمثل منه وهو مسلم بن حاتم الأنصاري (2) ، وهو شيخ صدوق فرواه عن مسلمة بن سالم عن عبد الله، يعني العمري، عن نافع، عن سالم عن ابن عمر قال: قال رسول الله: ((من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة)) هكذا رواه الحافظ أبو نعيم عن أبي محمد بن حيان عن محمد بن أحمد بن سليمان الهروي عن مسلم بن حاتم الأنصاري.
وهذه الرواية رواية مسلم بن حاتم التي قال فيها عن عبد الله وهو العمري الصغير المكبر الضعيف أولى من رواية العبادي التي اضطرب فيها، وقال عن عبيد الله يعني العمري الكبير المصغر الثقة الثبت، وكلا الروايتين لا يجوز الاعتماد عليهما لمدارهما على شيخ واحد غير مقبول الرواية، وهو مسلمة بن سالم وهو شبية بموسى بن هلال صاحب الحديث المتقدم الذي يرويه عن عبد الله العمري، أو عن أخيه عبيد الله، وقد اختلف عليه في ذلك كما اختلف على مسلمة.
والأقرب أن الحديثين في هذا الحديث واحد برواية الصغير المتكلم فيه، وقد اختلف عليه شيخان غير معروفين بالنقل ولا مشهورين بالضبط في إسناد الحديث ومتنه فقال: أحدهما في روايته عن نافع عن سالم عن ابن عمر، وقيل: عنه عن نافع وسالم، عن ابن عمر، وقال الآخر: عن نافع عن ابن عمر ولم يذكر سالماً.
وذكر أحدهما في روايته زيارة قبره، ولم يذكر الأعمال إلى زيارته وذكر الآخر الأعمال إلى زيارته من خير ذكر القبر في روايته، ومثل هذا الحديث إذا تفرد به شيخان مجهولان الحال قليلاً الرواية عن شيخ سيئ الحفظ مضرب الحديث، واختلفا عليه واضطربا مثل هذا الاضطراب المشعر بالضعف وعدم الضبط لم يجز الاحتجاج به على


(1) انظر ترجمته في الأنساب للسمعاني 8/338 والإكمال 6/345.
(2) ترجمته في تهذيب التهذيب.
(1/50)

حكم من الأحكام الشرعية ولا الاعتماد عليه في شيء من المسائل الدينية، وكم من حديث له طرق كثيرة أمثل من طريق هذا الحديث وقد نص أئمة هذا الشأن على ضعفه وعدم الاحتجاج به واتفقوا على رده وعدم قبوله.
والمحفوظ عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه عنه أيوب السختياني، وعبيد الله بن عمر، وربيعة بن عثمان وغيرهم، وليس في ذكر الأعمال ولا ذكر زيارة القبل بل لفظ بعضهم: ((من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت فإنه من مات بها منت له شفيعاً أو شهيداً)) وفي لفظ من زارني إلى المدينة كنت له شفيعاً أو شهيداً، وهذا اللفظ غير محفوظ، ولفظ بعضهم ((لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)) (1) .
قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا علي بن عبد الله؛ حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل، فإني أشفع لمن مات بها)) (2) . وقال أبو عيسى الترمذي في جامعه حدثنا بندار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن يموت بها)) (3) .
قال: وفي الباب عن سبيعة بنت الحارث الأسلمية، هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث أيوب، حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن مولاة له أتته فقالت: اشتد علي الزمان وإني أريد أن أخرج إلى العراق فقال: فهلا إلى الشام أرض المنشر واصبري لكاع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صبر على شداها ولأوائها كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)) قال الترمذي وفي الباب عن أبي سعيد وسفيان بن أبي زهير وسبيعة الأسلمية هذا حديث حسن صحيح غريب (4) .
وقال أبو القاسم البغوي حدثنا صلت بن مسعود الجحدري حدثنا سفيان بن موسى


(1) رواه مسلم 2/1004.
(2) 2/74 وسنده صحيح.
(3) رواه الترمذي 5/719 وابن ماجة 2/1039 وسنده صحيح.
(4) الترمذي 5/719-720 بزيادة في آخر من حديث عبيد الله.
(1/51)

حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإن من مات بالمدينة شفعت له يوم القيامة)) وقال الهيثم بن كلب الشاشي حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا محمد ابن عبد الله الرقاشي حدثنا سيفان بن موسى عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل فإنه من مات بالمدينة شفعت له يوم القيامة)) .
وقد سئل الدارقطني في كتاب العلل عن حديث نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل فإني أشفع لمن مات بها فقال يرويه أيوب السختياني وأبو بكر بننافع وربيعة بن عثمان وعبيد الله بن عمر عن نافع واختلف عن أيوب وعن عبيد الله، فأما أيوب فرواه عنه سفيان بن موسى وهشام الدستوائي والحسن بن أبي جعفر فقالوا عن نافع عن ابن عمر، وخالفهم ابن علية فقال عن أيوب نيئت عن نافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا جعفر بن محمد الواسطي حدثنا موسى بن هارون حدثنا شجاع من مخلد عنه، وأما عبيد الله بن عمر فإن معتمر بن سليمان وسالم بن نوح والمفضل بن صدقة أبا حماد رووه عن عبيد الله عن قطن بن وهب بن عويمر بن محفوظين، حديث نافع وحديث قطن بن وهب لأن حديث نافع له أصل عنه رواه عنه أيوب وأبو بكر بن نافع وربيعة بن عثمان، وحديث قطن بن وهب محفوظ أيضاً حدث به عبيد الله بن عمر وقيل عن أبي ضمرة عن يحي بن سعيد الأنصاري عن قطن، وذلك وهم من قائله.
ورواه عبد الله بن عمر أخو عبيد الله ومالك بن أنس والضحاك بن عثمان والوليد بن كثير عن قطن بن وهب عن يحنس أبي موسى عن ابن عمر، حدثنا عبد الله بن محمد البغوي حدثنا الصلت بن مسعود حدثنا سفيان بن موسى حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإنه من مات بها شفعت له يوم القيامة)) .
حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد الجمال حدثنا محمد بن إسحاق أبو إسماعيل حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي حدثنا سفيان بن موسى عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت فإنه من مات بها كنت له شفيعاً أو شهيداً)) .
(1/52)

حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل السيوطي حدثني أبو زيد عمر بن شيبة حدثنا السيوطي أنبأنا أحمد بن زياد بن عبد الله الحداد قال حدثنا عفان بن مسلم حدثنا الحسن بن أبي جعفر حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإني أشفع لمن مات بها قال ابن شيبة عن أيوب وقال منكم أن يموت وقال لمن يموت بها)) .
حدثنا جعفر بن محمد الواسطي حدثنا موسى بن هارون حدثنا محمد بن الحسن الختلي حدثنا عبد الرحمن بن المبارك حدثنا عون بن موسى عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زارني إلى المدينة كنت له شفيعاً وشهيداً)) قيل للختلي إنما هو سفيان بن موسى؛ فقال اجعلوه عن ابن موسى قال موسى بن هارون ورواه إبراهيم بن الحجاج عن وهيب عن أيوب عن نافع مرسلاً عن النبي فلا أدري سمعته من إبراهيم بن الحجاج أم لا ووهيب وابن علية أثبت من الدستوائي ومن الجفري ومن سفيان بن موسى.
حدثنا أبو بكر أحمد بن عبد الله بن محمد الوكيل حدثنا زيد بن أخزم حدثنا سالم بن نوح حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يصبير على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)) .
حدثنا أبو محمد بن بزداذ بن عبد الرحمن الكاتب حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى حدثنا سالم بن نوع العطار، حدثنا عبيد الله عن نافع أن مولاة لا بن عمر استأذنته أن تأتي العراق وجزعت من شدة عيش المدينة، فقال لها: اصبري يالكاع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صبر على شدة المدينة ولأوائها كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)) .
حدثنا يحي بن محمد بن صاعد، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا أبو ضمرة عن عبيد الله عن قطن بن وهب عن مولاة لعبد الله بن عمر أنها أرادت الجلاء في الفتنة واشتد عليها الزمان فاستأذنت عبد الله بن عمر، فقال أين؟ فقالت: العراق، قال: فهلا إلى الشام إلى المحشر، اصبري لكاع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)) .
حدثنا ابن صاعد، حدثنا ابن محمد بن منصور بن سلمة الخزاعي،أنبأنا أبي حدثنا عبد الله بن عمر عن قطن بن وهب أن مولاة لابن عمر أتته تسلم عليه لتخرج من
(1/53)

المدينة وقالت: أخرج إلى الريف فقد اشتد علينا الزمان، فقال ابن عمر: اجلسي لكاع فإني سمعت رسول الله يقول: ((من صبر على لأوئها وشدتها كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)) .
حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن قطن بن وهب بن عويمر بن الأجدع، عن يحنس مولى الزبير أخبره أنه كان جالساً مع عبد الله بن عمر في الفتنة فأنته مولاة له تسلم عليه فقالت: إني أردت الخروج يا أبا عبد الرحمن اشتد علينا الزمان فقال
(1/54)

لها عبد الله: اقعدي لكاع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يصبر علي لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)) .
وحدثنا ابن رافع حدثنا ابن أبي فديك أخبرنا الضحاك عن قطن الخزاعي، عن يحنس مولى مصعب عن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شهيداً أو شفيعاً (1) . يعني المدينة.
وهذه الألفاظ التي رواها أصحاب الصحيح والسنن والمسانيد من رواية نافع وغيره عن عبد الله بن عمر بن الخطاب هي الصحيحة المشهورة المحفوظة عنه، وفيها البحث على الإقامة بالمدينة وترك الخرج منها والصبر على لأوئها وشدتها وأن من استطاع أن يموت بها فليفعل لتحصل له شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهذا الذي ثبت عن ابن عمر، قد روى نحوه أبو سعيد الخدري أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا حجاج،حدثنا ليث وثناه الخزاعي أنبأ ليث قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبي سعيد مولى المهري أنه جاء أبا سعيد الخدري ليالي الحرة فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عاليه، وأخبره أنه لا صبر له على جهد المدينة، فقال له: ويحك لا آمرك بذلك، إني سمعت رسول الله يقول: ((لا يصبر أحد على جهد المدينة ولأوائها فيموت إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة إذ كان مسلماً (2) .
هذا حديث صحيح رواه مسلم في صحيحة (3) عن قتيبة، عن ليث بن سعد، وروى مسلم (4) والترمذي (5) نحوه من حديث أبي هريرة، وقد روى أيضاً من حديث سعد بن أبي وقاص وجابر وأسماء بنت عميس وغيره، وقد كان المهاجرون إلى المدينة يكوهون أن يموتوا بغيرها ويسألون الله تعالى أن توافهم بها.
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث زيد بن أسلم، عن أبيه عن عمر بن


(1) رواها مسلم في صحيحه 2/1004 متن.
(2) 3/58.
(3) 2/1003.
(4) 2/1004.
(5) تقدم صفحة 51 حاشية (4) .
(1/55)

الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك (1) .
وقد ثبت في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها، وفي رواية عن سعد قال: مرضت فعادني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ادع الله أنلا يردني على عقبي، فقال: ((اللهم اشف سعداً وأتمم له هجرته)) وفي لفظ فقال ((اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم)) لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة (2) . وفي رواية لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على سعد يعوده بمكة فبكى فقال: ما يبكيك فقال: قد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اللهم اشف سعداً، ثلاث مرات)) (3) .
وليس في شيء من هذه الروايات الصحيحة التي تقدم ذكرها عن نافع وغيره، عن ابن عمر ذكر زيارة القبر ولا قوله من جاءني زائراً لا ينزعه حاجة إلا زيارتي، فعلم أن ما رواه مسلمة بن سالم الجهني وموسى بن هلال العبدي من ذلك شاذ غير محفوظ وكأن هذين الشيخين سمعا شيئاً أو بلغهما أمر فلم يحفظاه ولم يضبطاه لكونهما ليسا من أهل الحديث ولا من المشهورين بحمل العلم ونقله، ولو كان ما روياه محفوظاً عن نافع لبادر إلى روايته عنه أيوب السختياني، ومالك بن أنس وغيرهما من أعيان أصحابه المعتمد على حفظهم وضبطهم وأتقانهم، فلما لم يتابعهما على ما نقلاه مختلفين فيه ثقة يحتج به بل خالفهما فيما روياه الثقات المشهورين والعدول الحفاظ المتقنون، علم خطؤهما فيما حملاه ولم يجز الرجوع إليهما ولا الاعتماد عليهما فيما روياه والله الموفق.
فإن قيل: وقد ورد معنى الخبر الذي رواه مسلمة بن سالم الجهني من وجه آخر لم يذكره المعترض، قال بعض الحفاظ في زمن ابن مندة والحاكم في كتاب كبير له وقفت على بعضه، حدثنا أبو الحسن حامد بن حماد بن المبارك السر من رائي بنصيبين، حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن سيار بن محمد النصيبي، حدثنا أسيد بن زيد، حدثنا عيسى بن


(1) 4/1100 مع الفتح.
(2) أخرجه البخاري 10/120، 11/179، 3/164، 7/269، 11/179، ومسلم 30/1250 – 1253.
(3) 3/1253.
(1/56)

بشير عن محمد بن عمرو عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتبت له حجتان مبروتان)) .
فالجواب أن هذا الخبر ليس فيه ذكر زيارة القبر ولا قوله: من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي مع أن خبر موضوع، وحديث مصنوع لا يحسن الاحتجاج به، ولا يجوز الاعتماد على مثله، وفي إسناده ممن لا يحتج بحديثه ولا يعتمد على روايته غير واحد من الرواة منهم أسيد بن زيد الجمال الكوفي (1) قال: إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد: سألت يحيى بن معين عنه، فقال: كذاب أتيته ببغداد في الحذائين فسمعته يحدث بأحاديث كذب، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: وأسيد كذاب ذهبت إليه إلى الكرة، ونزل في دار الحذائين فأردت أن أقول له: يا كذاب ففرقت من شفار الحذائين وقال أبو حاتم الرازي (2) : (قدم الكوفة من بعض أسفاره فأتاه أصحاب الحديث ولم آته وكانوا يتكلمون فيه) وقال النسائي (3) : (متروك الحديث) وقال ابن حبان (4) : (يروي عن شريك والليث بن سعد وغيرهما من الثقات المناكير، ويسوق الحديث ويحدث به) ، وقال ابن عدي (5) : (يتبين على روايته الضعف، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه) ، وقال الدارقطني: ضعيف الحديث، وقال أبو نصر بن ماكولا (6) : (ضعفوه) وقال الخطيب (7) : (قدم بغداد وحدث بها وكان غير مرضي في الرواية) ولو فرض صحة هذا اللفظ الذي رواه أسيد بن زيد الجمال وقدر ثبوت ما رواه مسلمة بن سالم الجهني، وما رواه موسى بن هلال العبدي، لم يكن في شيء من ذلك دلالة على الزيارة على غير الوجه المشروع، وشيخ الإسلام لا ينهي عن الزيارة الشرعية ولا ينكرها.
وقد قال في أثناء كلامه في الجواب عما اعترض به عليه بعض قضاة المالكية في مسألة أعمال المطي إلى القبور بعد أن ذكر النزاع في السفر إلى مجرد زيارة القبور (8)


(1) انظر ترجمته في الميزان للذهبي 1/256 والضعفاء للعقلي 1/28 والتاريخ الكبير للبخاري 2/15.
(2) انظر الجرح والتعديل 2/318.
(3) انظر الضعفاء والمتروكين للنسائي ص55 الطبعة المحققة طبعة مؤسسة الكتب الثقافية.
(4) انظر المجروحين 1/171.
(5) انظر الكامل لابن عدي 1/391 – 392.
(6) انظر الإكمال لابن ماكولا 1/55
(7) انظر تاريخ بغداد 7/47.
(8) الرد على الاخنائي ص15-16.
(1/57)

قال: وهذا النزاع لم يتناول المعنى الذي أراده العلماء بقولهم: يستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا إطلاق القول بأنه يستحب السفر لزيارة قبره كما هو موجود في كلام كثير منهم، فإنهم يذكرون الحج ويقولون: يستحب للحاج أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن هذا إنما يمكن مع السفر، لم يريدوا بذلك زيارة القريب، بل أرادوا زيارة البعيد فعلم أنهم قالوا: يستحب السفر إلى زيارة قبرة، لكن مرادهم بذلك هو السفر إلى مسجده إذا كان المسافرون والزوار لا يصلون إلا إلى مسجده ولا يصل أحد إلى قبره ولا يدخل إلى حجرته، ولكن قد يقال هذا في الحقيقة ليس زيارة لقبره ولهذا كره من كره من العلماء أن يقول: زرت قبره،ومنهم من لم يكرهه، والطائفتان متفقون على أنه لا يزار قبره كما تزار القبور، بل إنما يدخل إلى مسجده.
وأيضاً فالنية في السفر إلى مسجده وزيارة قبره مختلفة، فمن قصد السفر إلى مسجدة للصلاة فيه، فهذا مشروع بالنص والإجماع وإن كان لم يقصد إلا القبر ولم يقصد المسجد فهذا مورد النزاع، وأما من كان قصده السفر إلى مسجده وقبره معاً فهذا قد قصد مستحباً مشروعاً بالإجماع، ولهذا لم يكن في الجواب تعرض لهذا، وقال الشيخ أيضاً (1) السفر المسمى زيارة له إنما هو سفر إلى مسجده، وقد ثبت بالنص والإجماع أن المسافر ينبغي له أن يقصد السفر إلى مسجده والصلاة فيه.
وعلى هذا فقد يقال: نهيه عن شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة لا يتناول شدها إلى قبره، فإن ذلك غير ممكن، لم يبق إلا شدها إلى مسجده وذلك مشروع بخلاف غيره فإنه يمكن زيارته فيمكن شد الرحل إليه، لكن يبقى قصد المسافر ونيته ومسمى الزيارة في لغته هل قصد مجرد القبر، أو المسجد، أو كلاهما، كما قال مالك لمن سأله عمن نذر أن يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن كان أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليأته وليصل فيه، وإن كان أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد.
فهذا السائل من عرفة أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم تناول من أتى المسجد وكان قصده القبر، ومن أتاه وقصده المسجد؛ وهذا عرف عامة الناس المتأخرين يسمون هذا كله زيارة واحدة، ولم يكن هذا لغة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، بل تغير الاصطلاح في مسمى اللفظ والمقصود به وهو صلى الله عليه وسلم لا يشرع للقريب من زيارته ما ينهي عنه المسافر


(1) الرد على الأخنائي ص16.
(1/58)

الذي يشد الرحل بخلاف غيره، فلا يقال إن زيارته بلا شد رحل مشروعة، ومع شد الرحل منهي عنها كما يقال في سائر المشاهد، وفي قبور الشهداء وغيرهم من أموات المسلمين، إذ لم يشرع للمقيمين بالمدينة من زيارته ما نهى عنه المسافرون بل جميع الأمة مشتركون فيما يؤمرون به من حقوق حيث كانوا، بل قد قيل: أن الأمر بالعكس، وأنه يستحب للمسافر م السلام عليه والوقوف على قبره ما لا يستحب لأهل البلد، وإذا كان لا يمكن إلا العبادة في مسجده، فهذا مشروع لمن شد الرحل ومن لم يشده.
تبقى النية كما ذكره، وهذه النية التي يقصد صاحبها القبر دون المسجد، وقد نص مالك وغيره على أنها مكروهة لأهل المدينة قصداً وفعلاً، فيكره لهم كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه أن يأتوا القبر، وقد ذكر مالك أن هذا بدعة لم تبلغه عن أحد من السلف، ونهي عنها وقال: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
فالذي يقصد مجرد القبر، ولا يقصد المسجد مخالف للحديث، فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أن السفر إلى مسجد مستحب، وأن الصلاة فيه يألف صلاة (1) ، وتفق المسلمون علي ذلك، وعلى أن مسجد أفضل المساجد بعد المسجد الحرام، قال بعضهم: إن أفضل من المسجد الحرام، ومسجده يستحب السفر إليه والصلاة فيه مفصله لخصوص كونه مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بناه هو وأصحابه، وكان يصلي فيه هو وأصحابه، فهذه الفضيلة للمسجد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يدفن في حجرة عائشة، وكذلك هي ثابتة بعد موته، ليست فضيلة المسجد لأجل مجاورة القبر، كما أن المسجد الحرام مفصل لا لأجل قبر، وكذلك المسجد الأقصى مفضل لا لأجل قبر، فكيف لا يكون مسجد النبي مفضلاً لا لأجل قبره، فمن ظن أن فضيلته لأجل القبر وأنه إنما يستحب السفر إليه لأجل القبر فهو جاهل مفرط في الجهل مخالف لإجمال المسلمين ولما علم من سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
وقال الشيخ أيضاً في موضع آخر من الجواب: ومما يوضح هذا أنه لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم باسم زيارة قبره لا ترغيباً في ذلك، ولا غير ترغيب، فعلم مسمى هذا الاسم لم يكن له حقيقة عندهم، ولهذا كره من مره من العلماء إطلاق هذا


(1) يشير إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه البخاري ومسلم 2/1012-1014 والترمذي 2/147 والنسائي 2/35.
(1/59)

الاسم، والذين أطلقوا هذا الاسم من العلماء إنما أرادوا به اتيان مسجده والصلاة فيه والسلام عليه فيه، إما قريباً من الحجرة الاسم، والذين أطلقوا هذا الاسم من العلماء إنما أرادوا به إتيان مسجده والصلاة والسلام عليه فيه إما قريباً من الحجرة وإما بعيداً عنها وإما مستقبلاً القبرة وإما مستقبلاً للحجرة وليس في أئمة المسلمين لا الأربعة ولا غيرهم من احتج على ذلك بلفظ روي في زيارة قبره، إنما يحتجون بفعل ابن عمر مثلاً وهو أنه كان يسلم أو بما يروي عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) (1) وذلك احتاج بلفظ اللام، لا بلفظ الزيادة؛ وليس في شيء من مصنفات المسلمين التي يعتمدون عليها في الحديث والفقه أصل عن الرسول ولا عن أصحابه في زيارة القبر.
أما أكثر مصنفات جمهور العلماء فليس فيها استحباب شيء من ذلك بل يذكرون المدينة وفضائلها وإنما حرم، ويذكرون مسجده وفضله وفضل الصلاة فيه والسفر إليه وإلى المسجد الحرام ونذر ذلك نحو ذلك من المسائل، ولا يذكرون استحباب زيارة قبره لا بهذا اللفظ ولا بغيره، فليس في الصحيحين وأمثالها شيء من ذلك ولا في عامة السنن مثل النسائي والترمذي وغيرهما ولا في مسند الشافعي، وأحمد وإسحاق ونحوهم من الأئمة.
وطائفة أخرى ذكروا ما يتعلق بالقبر لكن بغير لفظ زيارة قبره كما روى مالك في الموطأ عن ابن عمر (2) أنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر، كما قال أبو داود في سننه (باب ما جاء في زيارة قبره) وذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) (3) ولهذا أكثر كتب الفقه المختصرة التي تحفظ


(1) تقدم في ص19 حاشية (1)
(2) هذا الأثر رواه مالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن ص334 حديث رقم أخبرنا عبد الله بن دينار أن ابن عمر فذكروه ورواه البيهقي 5/245 بلفظ.. يقف على قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم ويدعو ثم يدعو لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ورواه أيضاً إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي ص83 برقم 98، 99، 100.
(3) تقدم صفحة 46 وصفحة 63 من طريق إسحاق بن محمد بن عبد الله العمري بلفظ (فيضع يده اليمني على قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويستدبر القبلة ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم ثم على أبي بكر وعمر.
وهذا الأثر ضعيف ولفظة يضع يده اليمنى على القبر منكرة تفرد بها عبد الله بن عمر عن نافع وهو المكبر الاسم المصغر الرواية والراوي عن العمري هذا هو إسحاق بن محمد الفروي وهو وإن كان روى له البخاري ففيه ضعف قال أبو حاتم: ((كان صدوقاً ولكن ذهب بصره فربما لقن وكتبه صحيحه وقال مرة (يضطرب) ووهاء أبو داود جداً فهذه الزيادة المنكرة منه أو من شيخه.
(1/60)

ليس فيها استحباب زيارة قبره مع ما يذكرون من أحكام المدينة، وإنما يذكر ذلك قليل منهم، والذين يذكرون ذلك يفسرون بإتيان المسجد كما تقدم.
ومعلوم أنه لو كان هذا من سنته المعروفة عند أمته المعمول بها من زمن الصحابة والتابعين لكان ذكر ذلك مشهوراً عند علماء الإسلام في كل زمان كما اشتهر ذكر الصلاة عليه والسلام عليه، وكما اشتهر عندهم ذكر مسجده وفضل الصلاة فيه، فلا يكاد يعرف مصنف للمسلمين في الحديث والفقه إلا وفيه ذكر الصلاة والسلام عليه، وذكر فضل مدينته والصلاة في مسجده.
ولهذا لما احتاج المنازعون في هذه المسألة إلى ذكر سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه وما كان عليه أصحابه لم يقدر أحد منهم على أن يستدل في ذلك بحديث منقول عنه إلا وهو حديث ضعيف بل موضوع مكذوب، وليس معهم بذلك نقل عن الصحابة ولا عن أئمة المسلمين فلا يقدر أحد أن ينقل عن إمام من أئمة المسلمين أنه قال: يستحب السفر إلى مجرد زيادة القبور ولا السفر إلى مجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ولا السفر لمجرد زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بدون الصلاة في مسجده.
بل كثير من المصنفات ليس فيها إلا ذكر المسجد والصلاة فيه، وهي الأمهات كالصحيحين ومساند الأئمة وغيرها وفيما ذكر السلام عند الحجرة كما جاء عن ابن عمر، وكما فهموه من قوله، وفيها ما يذكر فيه لفظ زيارة قبره والصلاة في مسجده، وفيها ما يطلق فيه زيادة قبره ويفسر ذلك بإتيان مسجده والصلاة فيه والسلام عليه فيه.
وأما التصريح بالسفر لاستحباب زيارة قبره دون مسجده، فهذا لم أره عن أحد من أئمة المسلمين ولا رأيت أحداً من علمائهم صرح به، وإنما غاية الذي يدعي ذلك أنه يأخذه من لفظ مجمل قاله بعض المتأخرين، مع أن صاحب ذلك اللفظ قد يكون صرح بأنه لا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة، أو أن السفر إلى غيرها منهي عنه، فإذا جمع كلامه علم أن الذي استحبه ليس هو السفر لمجرد القبر بل للمسجد.
ولكن قد يقال إن كلام بعضهم ظاهر في استحباب السفر لمجرد الزيارة فيقال، هذا الظهور إنما كان لما فهم المستمع من زيارة قبره ما يفهم من زيارة سائر القبور، فمن قال
(1/61)

إنه يستحب زيارة قبره، كما يستحب زيارة سائر القبور، وأطلق هذا كان ذلك متضمناً لاستحباب السفر لمجرد القبر، فإن الحجاج وغيرهم لا يمكنهم زيارة قبره إلا بالسفر إليه لمن قد علم أن الزيارة المعهودة من القبور ممتنعة في قبره، فليست من العمل المقدور ولا المأمور، فامتنع أن يكون أحد من العلماء يقصد بزيارة قبره هذه الزيارة، وإنما أرادوا السفر إلى مسجده والصلاة والسلام عليه والثناء عليه هناك، لكن سموا هذا زيارة لقبره كما اعتادوه.
ولو سلكوا مسلك التحقيق الذي سلكه الصحابة ومن اتبعهم لم يسموا هذا زيارة لقبره، وإنما هو زيارة لمسجده وصلاة وسلام عليه ودعاء له، وثناء عليه في مسجده، سواء كان القبر هنالك أولم يكن.
ثم كثير من المتأخرين لما رويت أحاديث في زيارة قبره ظن أنها أو بعضها صحيح فتركب من إجمال اللفظ ورواية هذه الأحاديث الموضوعة غلط من غلط في استحباب السفر لمجرد زيارة القبر، وإلا فليس هذا قولاً منقولاً عن إمام من أئمة المسلمين، وإن قدر أنه قاله بعض العلماء كان هذا قولاً ثالثاً في المسألة.
فإن الناس في السفر لمجرد زيارة القبور لهم قولان: النهي والإباحة، فإذا كان قولاً من عالم مجتهد ممن يعتد به في الإجماع أن ذلك مستحب صارت الأقوال ثلاثة ثم ترجع إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء59)
قال المعترض
الحديث الرابع: ((من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي)) رواه الدارقطني في سننه وغيرها ورواه غيره أيضاً، ثم ذكره من حديث أبي الربيع الزهراني عن حفص بن أبي داود، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي)) وفي لفظ ((من حج فزارني بعد وفاتي كان كمن زارني وصحبتي)) هكذا في هذه الرواية بزيادة صحبتي.
وأعلم أنه هذا الحديث لا يجوز الاحتجاج به، ولا يصلح الاعتماد على مثله، فإنه حديث منكر المتن، ساقط الإسناد، لم يصححه أحد من الحفاظ ولا احتج به أحد من
(1/62)

الأئمة، بل وضعفوه وطعنوا فيه، وذكر بعضهم أنه من الأحاديث الموضوعة والأخبار المكذوبة، ولا ريب في كذب هذه الزيادة فيه.
وأما الحديث بدونها فهو منكر جداً ورواية حفص بن أبي داود وهو حفص ابن سليمان أبو عمر الأسدي الكوفي البزارز القارئ الغاضري؛ وهو صاحب عاصم بن أبي النجود في القراءة وابن امرأته، وكان مشهوراً بمعرفة القراءة ونقلها، وأما الحديث فإنه لم يكن من أهله، ولا ممن يعتمد عليه في نقله، ولهذا جرحه الأئمة وضعفوه وتركوه واتهمه بعضهم.
قال عثمان بن سعيد الدارمي وغيره عن يحي بن معين: ليس بثقة، وذكر العقيلي عن يحي أنه سئل عنه فقال ليس بشيء، وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: حفص بن سليمان أبو عمر القارئ متروك الحديث.
وقال البخاري (1) : (تركوه) وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزياني (2) : قد فرغ منه من دهر، وقال مسلم بن الحجاج: متروك، وقال علي بن المديني: ضعيف الحديث، وتركته على عمد، وقال النسائي (3) : ((ليس بثقة ولا يكتب حديثه، وقال مرة: متروك الحديث)) وقال صالح بن محمد البغدادي: لا يكتب حديثه وأحاديثه كلها مناكير، وقال زكريا الساجي: يحدث عن سماك وعلقمة بن مرثد وقيس بن مسلم وعاصم أحاديث بواطيل، وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، وقال ابن أبي حاتم (4) : ((سألت أبي عنه فقال: لا يكتب حديث هو ضعيف الحديث لا يصدق متروك الحديث، قلت: ما حاله في الحروف؟ قال أبو بكر بن عياش: أثبت منه وقال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش: كذاب متروك، بضع الحديث.
وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث، وقال الدارقطني (5) : ضعيف، وقال أبو حاتم بن حيان (6) : كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، وكان يأخذ كتب الناس فينسخها ويرويها من غير سماع، وقال ابن عدي (7) : أخبرنا الساجي حدثنا أحمد بن محمد


(1) انظر الضعفاء الصغير للبخاري، ص357، الطبعة الهندية والتاريخ الكبير له 3/313.
(2) انظر أحوال الرجال له رقم 174.
(3) انظر الضعفاء والمتروكين للنسائي ص82.
(4) انظر الجرح والتعديل 3/173-174
(5) انظر الضعفاء والمتروكين للدارقطني، بتحقيق موفق بن عبد الله بن عبد القادر ص185
(6) انظر المجروحين لابن حبان 1/250.
(7) انظر الكامل لابن عدي 2/788-791.
(1/63)

البغدادي، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: كان حفص بن سليمان وأبو بكر بن عياش من أعلم الناس بقراءة عاصم، وكان حفص أقرأ من أبي بكر، وكان أبو بكر صدوقاً، وكان حفص كذاباً، وروى ابن عدي لحفص أحاديث منكرة غير محفوظة منها هذا الحديث الذي رواه في الزيارة ثم قال: وهذه الأحاديث يرويها حفص بن سليمان، ولحفص غير ما ذكرت من الحديث وعامة حديثه عمن روى عنهم غير محفوظ.
وقال العقيلي (1) : حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني ابي،قال: حدثنا يحيى القطان قال: ذكر شعبة حفص بن سليمان فقال: كان يأخذ كتب الناس وينسخها، وقال شعبة: أخذ مني حفص بن سليمان كتاباً فلم يرده، وقال العقيلي:أيضاً حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن علي، حدثنا شبابة قال: قلت لأبي بكر بن عياش: أبو عمر رأيته عند عاصم، قال: قد سألتني عن هذا غير واحد ولم يقرأ على عاصم أحد إلا وأنا أعرفه ولم أر هذا عند عاصم قط؛ وقال أبو بشر الدولابي في كتاب الضعفاء والمتروكين حفص بن سليمان متروك الحديث.
وقد روى البيهقي (2) في كتاب السنن الكبير حديث حفص الذي رواه في الزيارة وقال تفرد به حفص وهو ضعيف، وقال في كتاب (شعب الإيمان) وروى حفص بن أبي داود وهو ضعيف عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعاً ((من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن في حياتي)) أخبرناه أبو سعد الماليني أنبأنا أبو أحمد بن عدي، حدثنا عبد الله بن أحمد البغوي، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حفص بهذا الحديث.
وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان،أنبأنا أحمد بن عبيد حدثني محمد بن إسحاق الصفار، حدثنا ابن بكار، حدثنا حفص بن سليمان فذكره وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال البيهقي: تفرد به حفص وهو ضعيف في رواية الحديث.
هكذا ضعف البيهقي حفصاً في كتاب السنن الكبير، وفي كتاب (شعب الإيمان) وذكر أنه تفرد برواية هذا الحديث، فإذا كانت هذه حال حفص عند أئمة هذا الشأن فيكف يحتج بحديث رواه، أو يعتمد على خبر نقله، مع أنه قد اختلف عليه في رواية هذا


(1) انظر الضعفاء للمقبلي 1/270 وميزان الاعتدال للذهبي 1/558.
(2) انظر السنن الكبرى للبيهقي 5/246.
(1/64)

الحديث، فقيل عنه عن ليث بن أبي سليم، كما تقدم، مع أن ليثاً مضطرب عندهم، وقيل عنه عن كثير من شظير عن ليس.
قال أبو يعلي: أحمد بن علي بن المثنى الموصلي، حدثنا يحي بن أيوب المقابري، حدثنا حسان بن إبراهيم، حدثنا حفص بن سليمان عن كثير بن شنظير عن ليس بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج فزارني بعد وفاتي عند قبري فكأنما زارني في حياتي)) .
واعلم أن هذا المعترض على شيخ الإسلام قد ارتكب من الكلام على هذا الحديث الذي رواه حفص أمراً يدل على جهله، أو على أنه رجل متبع لهواه، وهو أنه توقف في كون حفص بن أبي داود راوي هذا الحديث هو حفص بن سليمان القاري، بل يحتمل أن يكون حفصاً آخر عنده ويكون قد تابع حفصاً على رواية هذا الحديث، ويكون الحفصان قد اتفقا في اسم الأب وكنيته وجعل ذلك من مواضيع النظر، فقال: قد ذكر ابن حبان في كتاب الثقات ما يقتضي التوقف في ذلك فإنه قال: حفص بن سليمان البصري المنقري يروي عن الحسن مات سنة ثلاثين ومائة، وليس هذا بحفص بن سليمان البزاز أبي عمر القاري ذاك ضعيف وهذا ثبت (1) .
ثم قال في الطبقة التي بعدها هذه: حفص بن أبي داود يروي عن الهيثم بن حبيب عن عون بن أبي جحيفة، روى عنه أبو الربيع الزهراني.
هذا كلام ابن حبان ومقتضاه أن حفص بن أبي داود المذكور في الطبقة الأخيرة ثقة وأنه غير القاري الضعيف المذكور في الطبقة التي قبله على سبلي التمييز بينه وبين المتقري البصري، ولعل أبا الربيع الزهراني روى عنهما جميعاً، أعني حفص بن سليمان المقري، وحفص بن أبي داود، وإن اختلفت طبقتهما: وقد ذكر ابن حبان (2) حفص بن سليمان المقري في كتاب المجروحين وذكر ضعفه، وقال: إنه ابن أبي داود، ويبعد القول بأن اشتبه عليه ويجعلهما اثنين أحدهما ثقة والآخر ضعيف.
على أن هذا الاستبعاد مقابل بأن ابن عدي (3) ذكر في ترجمة حفص القاري حديثاً


(1) انظر كتاب الثقات لابن حبان 6/195.
(2) تقدم صفحة 63 حاشية (6)
(3) تقدم صفحة 63 حاشية (7) .
(1/65)

من رواية أبي الربيع الزهراني، عن حفص بن أبي داود، عن الهيثم بن حبيب، عن عون بن أبي حجيفة عن أبيه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يصلي قد سدل ثوبه فعطفه عليه.
ويبعد أيضاً أن يكونا اثنين ويشتبه على ابن عدي فيجعلهما واحداص، والموضع موضع نظر، فإن صح مقتضى كلام ابن حبان زال الضعف فيه، ولا ينافي هذا كونه جاء مسمى في رواية هذا الحديث لجواز أن يكون قد وافق حفصاً القاري في اسم أبيه وكنيته وإن كان هو القارئ كما حكم به ابن عدي وغيره وهو ابن امرأة عاصم فقد أكثر الناس الكلام فيه وبالغوا في تضعيفه حتى قيل عن عبد الرحمن بن يوسف بن خراش: أنه كذاب متروك يضح الحديث.
وعندي أن هذا القول سرف، فإن هذا الرجل إمام قراءة، وكيف يعتقد أنه يقدم على وضع الحديث والكذب، ويتفق الناس على الأخذ بقراءته، وإنما غايته أنه ليس من أهل الحديث (1) ، فذلك وقعت المنكرات والغلط الكثير في روايته.
هذا كله كلام المعترض وهذا الذي ذكره هو خلاصة نظره ونهاية تحقيقه وغاية بحثه وتدقيقه، وهو كما ترى مشتمل على الوهم والإبهام والخبط والتخطيط والتلبيس، لإن راوي هذا الحديث هو حفص بن سليمان القاري الضعيف وهو حفص بن أبي داود بلا شك ولا ريب (2) ، وإن أدنى من يعد من طلبة علم الحديث بعرف ذلك ولا بجهله ولا يشك فيه، ومن ادعى أن هذا الحديث رواه رجلان كل منهما يقال له حفص بن أبي داود وحفص بن سليمان وأحدهما ثقة والآخر ضعيف، فهو جاهل مخطئ بالإجماع أو معاند صاحب هوى متبع لهواه مقصود الترويج والتلبيس، وخلط الحق بالباطل {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور 040)
ومن نظر من آحاد الناس في كتب الحديث واطلع على كلام أئمة الجرح والتعديل، وعنى بذلك بعض العناية تبين له أن راوي هذا الحديث هو حفص بن سليمان القارئ وأنه حفص بن أبي داود وأنه لم يتابعه على روايته حفص آخر غيره قد وافقه في اسمه


(1) قلت: هذا هو العدل والإنصاف.
(2) ذكر الخطيب البغدادي في (موضع أوهام الجمع والتفريق) أن حفص بن سليمان البزار أبا عمر الفاري وحفص بن داود وحفص الغافري هو واحد 2/47-48.
(1/66)

واسم أبيه وكنيته، وهو مع هذا من جملة الثقات، وها أنا أسوق هذا الحديث من كتب بعض من ذكره من الأئمة وأشير إلى ما يتبين به من كلامهم من رواية حفص بن سليمان القاري الذي يقول فيه بعض الرواة: حفص بن أبي داود.
قال البيهقي: في كتاب السنن الكبير حدثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف أملاء، أنبأنا أبو الحسن محمد بن نافع بن إسحاق الخزاعي بمكة، حدثنا المفضل بن محمد الجندي حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا حفص بن سليمان أبو عمر عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج فزار قبري بعد موتي كأن كمن زارني في حياتي)) .
قال البيهقي: وأخبرنا أبو سعد الماليني، أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا علي بن حجر، حدثنا حفص بن سليمان، وأنبأنا أبو أحمد بن عدي، حدثنا عبد الله بن محمد البغوي، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حفص بن أبي داود فذكره، قال البيهقي: تفرد به حفص وهو ضعيف (1) .
فهذا البيهقي قد نص على أن حفصاً تفرد به وحكم عليه بالضعف، وسماه في رواية حفص بن سليمان، وفي أخرى حفص بن أبي داود، فدل على أن راوي هذا الحديث المسمى بحفص عنده رجل واحد وهو ضعيف.
وقال الحافظ أبو أحمد بن عدي في كتاب الكامل (2) الذي روى البيهقي هذا الحديث منه ولم يسبق متنه أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا علي بن حجر، وحدثنا عبد الله بن محمد البغوي، حدثنا أبو الربيع الزهراني، قال علي: حدثنا حفص بن سليمان، وقال أبو الربيع: حدثنا حفص بن أبي داود وقالا: عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج فزار قبري بعد موتي كأن كمن زارني في حياتي وصحبتي)) . والفظ لابن سفيان قال ابن عدي: وهذا الحديث عن ليس لا يرويه عنه غير حفص، قال وحفص بن سليمان، هو حفص بن أبي داود، وقال: كذا يسميه أبو الربيع الزهراني لضعفه.


(1) انظر السنن الكبرى للبيهقي 5/246.
(2) انظر الكامل لابن عدي 2/790.
(1/67)

وما نقله هذا المعترض عن كتاب الثقات لابن حبان وأنه ذكر فيه حفص بن أبي داود، يروي عن الهيثم بن حبيب، ويروي عنه أبو الربيع الزهراني لم أره في النسخة التي عندي (1) بكتاب الثقات لابن حبان، ولعل المعترض رآه حاشية في كتاب فظن أنها من الأصل، فإن صح أن ابن حبان ذكر حفص بن أبي داود في كتاب الثقات، وزعم أنه غير القاري الضعيف، بل هو من جملة الثقات فقد أخطأ في ظنه ووهم في زعمه، فإن حفص بن أبي داود الذي يروي عن الهيثم، ويروي عنه أبو الربيع هو حفص بن سليمان القاري بلا شك، ولكن كان أبو الربيع يسميه حفص بن أبي داود لما اشتهر من ضعفه وعرف من جرحه.
وقد قال ابن عدي في كتاب الكامل (2) ، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا سليمان بن نافع، حدثنا أبو معشر الدارمي البصري أنا سألته، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حفص بن أبي داود الأسدي، حدثنا الهيثم بن حبيب الصراف، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الجنة ليتراؤن أهل عليين كما ترون الكوكب الدري في السماء، وإنا أبا بكر وعمر منهم وأنعما)) .
قال ابن عدي عقب روايته هذا الحديث، وهذا الحديث عن الهيثم الصراف لا يرويه غير حفص بن سليمان بن أبي داود الأسدي، كذا يسميه أبو الربيع الزهراني لضعفه وهو حفص بن سليمان.
وقال ابن عدي أيضاً (3) حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حفص بن أبي داود عن الهيثم بن حبيب، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: مر النبي برجل يصلي قد سدل ثوبه فعطفه عليه، قال ابن عدي، وهذا الحديث أيضاً لا يريوه عن الهيثم بن حبيب غير حفص هذا.
فهذا ابن عدي قد نص على أن حفص بن أبي داود الذي زعم المعترض أن ابن حبان ذكره في الثقات هو حفص بن سليمان القاري وهذا لا شك فيه.


(1) وهو كما قال: حديث لم أره أنا كذلك في النسخة التي بين يدي.
(2) صوابه كما في الكامل 2/789، ثنا الحسن بن سليمان بن نافع أبو معشر الدارمي البصري أنا سألته.. إلخ فزيادة (عرفة حدثنا) خطأ.
(3) سقط في الأصل الذي بين أيدينا شيخ ابن عدي وشيخ شيخه وهما (عبد الله بن محمد وأبو الربيع الزهراني) .
(1/68)

وقد قال ابن حبان في كتاب (المجروحين) (1) حفص بن سليمان الأسدي القاري أبو عمر البزاز، وهو الذي يقال له حفص بن أبي داود الكوفي، وكان من أهل الكوفة، سكن بغداد يروي عن علقمة بن مرثد وكثير بن شظير، روى عنه هشام بن عمار ومحمد بن بكار كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، وكان يأخذ كتب الناس فينسخها ويرويها من غير سماع.
سمعت محمد بن محمود يقول: سمعت الدارمي يقول: سألت يحيى بن معين عن حفص بن سليمان الأسدي فقال: ليس بثقة، هكذا ذكر.
وذكر ابن حبان: (حفص بن سليمان في كتاب الضعفاء وقال: إنه هو الذي يقال له حفص بن أبي داود) وهذا الذي قاله صحيح لا شك فيه، وهو الذي قاله غيره من الأئمة الحفاظ، فإن صح عنه مع هذا أنه ذكر حفص بن أبي داود في كتاب الثقات، فقد تناقض تناقضاً بيناً وأخطأ خطاً ظاهراً؛ ووهم وهماً فاحشاً، وقد وقع له مثل هذا التناقض والوهم في مواضع كثيرة.
وقد ذكر الشيخ أبو عمر بن الصلاح أنه غلط الغلط الفاحش في تصرفه، ولو أخذنا في ذكر ما أخطأ فيه وتناقض من ذكره الرجل الواحد في طبقتين متوهماً كونه رجلين، وجمعه بين ذكر الرجل في الكتابين، كتاب الثقات وكتاب المجروحين ونحو ذلك من الوهم والإيهام لطال الخطاب.
وليس ببدع من هذا الرجل المعترض على شيخ الإسلام المتبع لهواه أن يأخذ يقول أخطأ فيه قائله، ولم يوافق عليه، ويدع قولاً أصاب قائله وتويع عليه والله الموفق.
وقال أبو القاسم الطبراني (2) : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حفص بن أبي داود، عن ليس، عن مجاهد، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حج فزار قبري بعد وفاتي كمن زارني في حياتي)) .
وقال أبو الحسن الدارقطني (3) : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا أبو الربيع، حدثنا حفص بن أبي داود، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد قال: قال رسول الله: ((من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي)) رواه أبو يعلي الموصلي عن أبي الربيع.


(1) تقدم ص 63 حاشية (6) .
(2) انظر المعجم الكبير للطبراني 12/406 حديث رقم 13497.
(3) انظر سنن الدارقطني 2/278 حديث رقم 192.
(1/69)

وقال بعض الحفاظ في زمن أبي عبد الله بن منده،حدثنا أبو الحسن حامد بن حماد بن المبارك السر من رائي بنصبيين، حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن سيار بن محمد النصيبي، حدثنا عامر بن سيار بمصر، حدثنا حفص بن سليمان عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج فزارني في مسجدي بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي)) .
هكذا رواه بهذا اللفظ وقال: وقد روى هذا الخبر عن حفص بن سليمان محمد بن بكار وسعيد بن منصور، وقد ذكرناه بأسانيده في الكتاب الكبير، وقد رواه أيضاً حفص بن سليمان عن كثير من شظير عن ليس، ثم ذكره كما تقدم من رواية أبي يعلي الموصلي.
وقال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: أخبرنا أبو الفضل الحافظ عن أبي علي الفقه قال: أنبأنا أبو القاسم الأزهري أنبأنا القاسم بن الحسن، حدثنا الحسن بن الطيب حدثنا علي بن حجر، حدثنا حفص بن سليمان، عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصبحتي)) . هكذا رواه بهذه الزيادة وقد تقدمت من وجه آخر.
والحديث من أصله ليس بصحيح، وهذه الزيادة فيه منكرة جداً وقال البخاري في (كتاب الضعفاء) (1) له: حفص بنت سليمان الأسدي أبو عمر القاري عن علقمة بن مرشد وعاصم تركوه وهو ابن أبي داود الكوفي، ثم قال ابن أبي القاضي حدثنا سعيد بن منصور،حدثنا حفص بن سليمان، عن ليث،عن مجاهد، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج وزارني بعد موتي كان كمن زارني في حياتي)) هكذا ذكره البخاري تعليقاً في مناكير حفص.
وقال في كتاب التاريخ (2) : حفص بن سليمان الأسدي أبو عمر القارئ تركوه وهو حفص بن أبي داود، وقال ابن أبي حاتم في كتاب (الجرح والتعديل) (3) حفص بن سليمان الأسدي أبو عمر المقري، وهو البزاز، وهو ابن أبي داود صاحب عاصم في القراءات سمعت أبي يقول ذلك؛ ثم قال: سئل أبو زرعة عن حفص بن أبي داود فقال: هو حفص بن سليمان وهو ضعيف الحديث، وقال الحاكم أبو أحمد في كتاب (الكنى) : أبو


(1) تقدمت الترجمة ص 63 حاشية (1)
(2) انظر التاريخ الكبير للبخاري 2/363.
(3) تقدم برقم صفحة 63 حاشية (4) .
(1/70)

عمر حفص بن سليمان الأسدي المقري الكوفي، وسليمان الأسدي المقري الكوفي، وسليمان يكنى أبا دود، ذاهب الحديث.
فقد تبين بما ذكرناه من هذه الروايات وكلام أئمة الجرح والتعديل أن حفص بن سليمان راوي هذا الحديث هو حفص بن أبي داود وهو حفص القاري صاحب عاصم، وأنه لا يصلح الاحتجاج به ولا الاعتماد على روايته، وإن من توهم أن هذا الحديث رواه رجلان مشتركان في الاسم، واسم الأب وكنيته أحدهما ثقة والآخر ضعيف، فقد أخطأ بيناً، وارتكب أمراً منكراً لم يتابعه أحد عليه ولم يسبقه أحد إلى توهمه.
وإني لأتعجب من هذا الرجل المعترض كيف يرتكب مثل هذا التخليط في الكلام والتلبيس في القول بعد التعب العظيم والكدح الكثير، ثم يزعم مع هذا أن كلام شيخ الإسلام مشتمل على التخليط وعدم البيان وتبعيد المعنى عن الأفهام، فإنه قال في أثناء كلامه في كتابه الذي ألفه في الرد على الشيخ، وقد وقفت له على كلام طويل في ذلك يعني في التوسل والاستغاثة رأيت في الرأي القويم، أن أميل عنه إلى الصراط المستقيم ولا أتبعه بالنقض والإبطال، فإن دأب العلماء القاصدين لإيضاح الدين وإرشاد المسلمين، تقريب المعنى إلى أفهامهم، وتحقيق مرادهم وبيان حكمه، ورأيت كلام هذا الشخص بالضد من ذلك فالوجه الإضرار عنه.
هذا كله قول المعترض على شيخ الإسلام في كلامه المتضمن لتجريد التوحيد وسد ذرائع الشرك دقيقة وجليلة وقد علم الخاص والعام أن كلام شيخ الإسلام في سائر أنواع علوم الإسلام فيه من التحرير والتحقيق وغاية البيان والإيضاح وتقريب المعاني إلى الأفهام وحسن التعليم والإرشاد إلى الطريق القويم ما يضيق هذا الموضع من ذكره.
ويمكن الإنسان أن يقابل هذا المعترض على ما في كلامه من الكذب وسوء الأدب بأضعاف ما قاله ويكون صادقاً في قوله مصيباً في عمله، وليس المقصود هنا مقابلته على ما في كلامه هذا من الجور والعدوان والظلم، وإنما المراد تبين خطئه في الكلام على حديث حفص بن سليمان المذكور، وما وقع منه من التخليط والتلبيس وقد حصل ذلك ولله الحمد.
فإن قيل: قد روي هذا الحديث من وجه آخر عن ليث بن أبي سليم.
قال أبو بكر محمد بن خلف بن زنبور الكاعدي: أخبرنا أبو بكر محمد بن السري بن
(1/71)

عثمان التمار، حدثنا نصر بن شعيب مولى العبدين، حدثنا أبي، حدثنا جعفر بن سليمان الضيعي، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله: ((من حج بعد وفاتي وزار قبري كان كمن زارني في حياتي)) والجواب أن يقال هكذا وقع في هذه الرواية جعفر بن سليمان الضبعي، وذلك خطأ قبيح ووهم فاحش، والصواب حفص بن سليمان، وهو حفص بن أبي داود القاري، والحديث حديثه وبه يعرف ومن أجله يضعف ولم يتابعه عليه ثقة ويحتج به، وهذا التصحيف الذي وقع في هذا الإسناد هو من بعض هؤلاء الشيوخ الذين لا يعتمد على نقلهم ولا يحتج بروايتهم.
وابن زنبور هو محمد بن عمر بن علي بن خلف بن محمد بن زنبور أبو بكر الوراق وهو شيخ تكلم فيه الحافظ أبو بكر الخطيب، وقال: كان ضعيفاً جداً (1) . وقال العتيقي كان فيه تساهل، وشيخ ابن زنبور هو أبو بكر محمد بن السري التمار صاحب الجزء وهو معروف برواية المناكير والموضوعات، ونصر بن شعيب وأبوه ليسا ممن يحتج بخبرهما ولا يعتمد علي حديثهما، ولا يحتج بمثل هذا الإسناد من عقل شيئاً من علم الحديث والله أعلم.
فإذا قيل: قد روي هذا الحديث من غير رواية حفص بن سليمان عن ليس بن أبي سليم قال المعترض: ولو ثبت ضعفه يعني حفص بن سليمان، فإنه لم ينفرد بهذا الحديث، وقول البيهقي: أنه تفرد به بحسب ما أطلع عليه، وقد جاء في معجم الطبراني الكبير والأوسط متابعته، ثم ذكر عن طريق الطبراني (2) قال: حدثنا أحمد بن رشدين، حدثنا علي بن الحسن بن هارون الأنصاري، حدثنا الليث ابن بنت الليث بن أبي سليم قال: حدثتني جدتي عائشة بنت يونس امرأة الليث، عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله: ((من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي)) .
فالجواب أن يقال ليس هذا الإسناد بشيء يعتمد عليه، ولا هو مما يرجع إليه، بل هو إسناد مظلم ضعيف جداً، لأنه مشتمل على ضعيف لا يجوز الاحتجاج به، ومجهول


(1) قلت:هو محمد بن عمر بن علي بن خلف بن محمد بن زنيور بن عمرو بن تميم أبو بكر الوراق انظر تاريخ بغداد للخطيب 3/35 والميزان للذهبي 3/671.
(2) انظر معجم الطبراني الكبير 12/406 حديث رقم 13496، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/2 بعد ذكره الحديث وفيها عائشة بنت يونس ولم أجده من ترجمها.
(1/72)

لم يعرف من حاله ما يوجب قبول خبرة، وابن رشدين (1) ، شيخ الطبراني قد تكلموا فيه، وعلي بن الحسن الأنصاري (2) ليس هو ممن يحتج بحديثه والليث ابن بنت الليث بن أبي سليم (3) ، وجدته عائشة (4) مجهولان لم يشتهر من حالهما عند أهل العلم ما يوجب قبول روايتهما، ولا يعرف لهما ذكر في غير هذا الحديث، وليث بن أبي سليم (5) مضطرب الحديث، قاله الإمام أحمد بن حنبل.
قال ابو معمر القطيعي: كان ابن عيينة يضعف ليث بن أبي سليم، وقال يحي بن معين والنسائي (6) : ضعيف، وقال السعدي: يضعف حديث وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: حدثنا يحي بن معين عن يحي بن سعيد القطان أنه كان لا يحدث عن ليس بن أبي سليم.
وقال أحمد بن سليمان الرهاوي، عن مؤمل بن الفضل، قلنا لعيسى بن يونس ألم تسمع من ليث بن أبي سليم؟ قال: قد رايته، وكان قد اختلط وكان يصعد المنارة بارتفاع النهار فيؤذن، وقال ابن أبي حاتم (7) سمعت أبي، وأبا زرعة يقولان: ليث لا يشتغل به هو مطرب الحديث، وقال أيضاً: سمعت أبا زرعة يقول: ليث بن أبي سليم لين الحديث لا تقوم به الحجة عند أهل العلم بالحديث.
والحاصل أن هذا المتابع الذي ذكره المعترض من رواية الطبراني لا يرتفع به الحديث عن درجة الضعف والسقوط، ولا ينهض إلى رتبة تقتضي الاعتبار والاستشهاد لظلمة اسناده وجهالة رواته، وضعف بعضهم واختلاطه، واضطراب حديثه، ولو كان الإسناد صحيحاً إلى ليث بن أبي سليم لكان فيه ما فيه، فكيف والطريق إليه ظلمات بعضها فوق بعض والله أعلم؟


(1) هو أحمد بنرشدين قال فيه الهيثمي في المجمع 10/26 ضعيف.
(2) لم أعثر على ترجمته فيما لدي من كتب الرجال.
(3) لم أعثر على ترجمته فيما لدي من المراجع.
(4) قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/2 بعد ذكره حديث ابن عمر التي هي في مسنده، ولم أجد من ترجمها.
(5) انظر الميزان للذهبي 3/420 والمجروحين لابن حبان 2/230 والكبير للبخاري.
(6) انظر الضعفاء للنسائي ص209 رقم 536.
(7) انظر الجرح والتعديل 7/177.
(1/73)

فإذا قيل قد روي هذا الخبر من وجه آخر غير طريق ليث بن أبي سليم قال بعض الحفاظ المتأخرين، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن بكار بن كرمون بإنطاكية حدثناأبو عمر وعثمان بن عبد الله بن خرزاذ البغدادي، حدثنا النعمان بن شبل، حدثنا محمد بن الفضل، عن جابر، عن محمد بن علي، عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن حج ولم يزر قبري فقط جفاني))
فالجواب أن يقال: هذا خبر منكر جداً، ليس له أصل، بل هو حديث مفتعل موضوع وخبر مختلق مصنوع لا يجوز الاحتجاج به، ولا يحسن الاعتماد عليه لوجوه:
إحداهما: أنه من رواية النعمان بن شبل وقد اتهمه موسى بن هارون الحمال وقال أبو حاتم بن حبان البستي (1) : يأتي عن الثقات بالطامات، وعن الأثبات بالمقلوبات.
والثاني: أن في إسناده محمد بن الفضل بن عطية (2) ، وكان كذاباً قاله يحي بن معين، وقال الإمام أحمد بن حنبل: ليس بشيء، حديثه حديث أهل الكذب، وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني (3) ، كان كذاباً سألت ابن حنبل عنه فقال: ذاك عجب يجيئك بالطامات وقال الفلاس: متروك الحديث كذاب، وقال أبو حاتم (4) الرازي: ذاهب الحديث ترك حديثه.
وقال مسلم بن الحجاج وابن خراش والنسائي (5) : متروك الحديث، وقال النسائي في موضع آخر: كذاب، وقال ابن عدي (6) : عامة حديثه مما لا يتابعه الثقات عليه، وقال صالح بن محمد الحافظ، كان يضع الحديث، وقال ابن حبان (7) : كان ممن يروي


(1) انظر المجروحين 3/73.
(2) انظر المجروحين لابن حبان 2/278.
(3) أحوال الرجال للجوزجاني ص202، رقم الترجمة 372، وراجع الأباطيل للجوزجاني 1/94 والتقريب للحافظ ابن حجر والضعفاء للذهبي وسلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني 2/423 ,
(4) انظر الجرح والتعديل 8/56.
(5) انظر الضعفاء للنسائي ص220 رقم 569 ز
(6) انظر الكامل لابن عدي 6/2170.
(7) انظر المجروحين لابن حبان تقدم برقم 133 وانظر التاريخ الصغير للبخاري ص226 من الطبعة الهندية والتاريخ الكبير للبخاري أيضاً 1/208 والضعفاء للعقيلي 4/120 والكاشف للذهبي 3/89 والميزان للذهبي 4/6 وراجع تهذيب التهذيب.
(1/74)

الموضوعات عن الإثبات، لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل الاعتبار، كان أبو بكر بن أبي شيبة شديد الحمل عليه.
الثالث: أن في طريقة جابر وهو الجعفي لم يكن بثقة، قال أبو حاتم الرازي (1) عن أحمد بن حنبل: تركه يحيى وعبد الرحمن، وقال أبو حنيفة (2) : ما رأيت أحداً أكذب من جابر الجعفي.
وقال يحيى بن معين: كان جابر الجعفي كذاباً لا يكتب حديثه ولا كرامة ليس بشيء، وقال السعدي: كذاب، سألت عنه أحمد بن حنبل: فقال: تركه ابن مهدي فاستراح،وقال النسائي (3) : متروك الحديث، وقال في موضع آخر ليس بثقة، ولا يكتب حديث، وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث، وقال ابن حبان (4) : كان سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان يقول أن علياً يرجع إلى الدنيا، ثم روى عن سفيان بن عيينة أنه قال: كان جابر الجعفي يؤمن بالرجعية، وقال زائدة: أما جابر الجعفي، فكان والله كذاباً يؤمن بالرجعة.
الرابع: أن محمد بن علي (5) الذي روى عنه جابر هو أبو جعفر الباقر، ولم يدرك جد أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وفي الجملة ليس هذا الخبر مما يصلح الاستشهاد به ولا الاعتبار ولا يحتج به إلا من هو أجهل الناس بالعلم.
وقد قال شيخ الإسلام في أثناء كلامه على حديث حفص بن سليمان بعد أن ذكر ضعف حفص وكلام أئمة الجرح والتعديل فيه قال: ونفس المتن باطل فإن الأعمال التي فرضها الله تعالى ورسوله لا يكون الرجل بها مثل الواحد من الصحابة، بل في الصحيحين


(1) انظر الجرح والتعديل 2/497.
(2) انظر الضعفاء للعقيلي 1/196.
(3) انظر الضعفاء والمتروكين للنسائي ص71 رقم 100.
(4) انظر المجروحين لابن حبان 1/202، قلت وانظر كذلك التاريخ الكبير للبخاري 2/210 نقل عن الشعبي أنه قال: يا جابر لا تموت حتى تكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال إسماعيل بن أبي خالد ما مضى من الأيام والليالي حتى اتهم بالكذب والصغير ص255 ضمن الطبعة الهندية والميزان 1/379 والتكاشف 1/177 والمغني 1/126 وراجع تهذيب التهذيب.
(5) انظر تهذيب التهذيب 9/350.
(1/75)

عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو اتفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) (1) فالجهاد والحج ونحوهما أفضل من زيارة قبره باتفاق المسلمين ولا يكون الرجل بهما كمن سافر إليه في حياته ورآه.
وكان الشيخ قد بحث قبل هذا مع بعض من اعترض عليه من المالكية، واحتج في زيارة قبره بالقياس على زيارة الحي بعد أن ذكر الشيخ ما استدل به فقال: قال المعترض المناقض: وروى مسلم في صحيحه في الذي سافر لزيارة أخ له في الله، ولفظ الحديث: أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في تلك القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا إلا أني أحببته في الله، فقال: إن رسول الله إليك بأن الله أحبك كما أحببته فيه (2) ، وفي موطأ مالك عن معاذ بن جبل في حديث ذكر فيه سمعت رسول الل صلى الله عليه وسلم هـ يقول: أي عن الله ((ووجبت محبتي للمتحابين في، والمتجلسين في والمتزاورين في والمتباذلين في)) (3) .
قال: فقد علمت أيها الأخ بهذا فضيلة زيارة الإخوان وما أعد الله بها للزائرين من الفضل والإحسان، فكيف بزيارة منهو حي الدارين وإمام الثقلين الذي جعل الله حرمته في حال مماته كحرمته في حال حياته، ومن شرفه الحق بما أعطاه من جميع صفاته ومن هدانا ببركته إلى الصراط المستقيم وعصمنا به من الشيطان الرجيم، ومن هو آخذ بحجرنا أن تقتحم في نار الجحيم ومن هو بالمؤمنين رؤوف رحيم؟
قال الشيخ: والجواب أما زيارة الأخ الحي في الله كما في الحديث فهذا نظير زيارته في حياته يكون الإنسان بذلك من أصحابه وهم خير القرون، وأما جعل زيارة القبل كزيارته حياً كما قاسه هذا المعترض، فهذا قياس ما علمت أحداً من علماء المسلمين قاسه، ولا علمت أحداً منهم احتج في زيارة قبره بالقياس على زيارة الحي المحبوب


(1) رواه البخاري 7/21 من حديث أبي سعيد الخدري ومسلم 4/1967-1968 منحديث أبي سعيد وأبي هريرة وأبي داود 5/45 حديث رقم 4658 والترمذي 5/695 حديث رقم 3861 من حديث أبي سعيد أيضاً، وابن ماجة في المقدمة 1/57 حديث رقم 161 من حديث أبي هريرة.
فائدة: هذا الحديث الصواب فيه أنه من حديث أبي سعيد راجع الكلام على هذا الحديث في تحفة الأشراف 3/343 وفتح الباري 7/34-36.
(2) رواه مسلم 4/1988 وأحمد 2/292 و 408 و 462 و 482 و 508.
(3) أخرجه مالك (الجزء الثاني ص127 مع شرح السيوطي) ما جاء في المتحابين في الله وأحمد 5/223 و 247 وسنده صحيح. انظر صحيح الجامع 1911.
(1/76)

في الله، وهذا من أفسد القياس، فإنه من المعلوم أن من زار الحي حصل له بمشاهدته وسماع كلامه ومخاطبته وسؤاله وجوابه وغير ذلك مما لا يحصل لمن لم يشاهده ولم يسمع كلامه.
وليس رؤية قبره أوريؤة الجدار الذي بنى على بيته بمنزلة رؤيته ومشاهدته ومجالسته وسماع كلامه، ولو كان هذا مثل هذا لكان كل من زار قبره مثل واحد من أصحابه ومعلوم أن هذا من أباطل الباطل.
وأيضاً فالسفر إليه في حياته إما أن يكون لما كانت الهجرة إليه واجبة كالسفر قبل الفتح فيكون المسافر إليه مسافراً للمقام عنده بالمدينة مهاجراً من المهاجرين إليه، وهذا السفر انقطع بفتح مكة، فقال: ((لا هجرة بعد الفتح ولمن جهاد ونية)) (1) ولهذا لما جاء صفوان بن أمية مهاجراً امره أن يرجع إلى مكة، وكذلك سائر الطلقاء كانوا بمكة لم يهاجروا.
وإما أن يكون المسافر إليه وافداً إليه ليسلم ويتعلم منه ما يبلغه قومه كالوفود الذين كانوا يفيدون عليه، لا سيما سنة تسع وعشر سنة الوفود، وقد أوصى في مرضه بثلاث فقال: ((أخرجوا النصارى من جزيرة العرب وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم)) (2) ومن الوفود وفقد عبد القيس لما قدموا عليه ورجعوا إلى قومهم بالبحرين (3) ، لكن هؤلاء أسلموا قديماً قبل فتح مكة وقالوا: لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام لأن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وهم أهل نجد كأسد وغطفان وتميم وغيرهم فإنهم لم يكونوا قد أسلموا بعد.
وكان السفر إليه في حياته لتعلم الإسلام والدين ولمشاهدته، وسماع كلامه، وكان خير محضاً، ولم يكن أحد من الأنبياء والصالحين عبد في حياته بحضرته، فإنه كان ينهى


(1) أخرجه البخاري 6/37 ومسلم 3/1487 وأبو داود 3/8 حديث رقم 2480 والترمذي 4/148 حديث رقم 1590 والنسائي في الكبرى 84/1 قاله المزي 5/26 تحفة والدارمي 2/239 وأحمد 1/226، 26، 355 و 5/187 كلهم من حديث ابن عباس.
(2) أخرجه البخاري 6/170، 270 وكذلك في المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم ووفاته، ومسلم 3/1388 – 1258، وأبو داود 3/423 -424 وأحمد 1/222 جميعاً عن ابن عباس، وانظر السلسلة الصحيحة 1132 ومسلم عن جابر 3/1388 والترمذي 4/156 وأبو داود 3/424.
(3) يشير إلى ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس، رواه البخاري 1/129 و 2/7 و 6/208 ومسلم 1/46 ورواه مسلم أيضاً من حديث أبي سعيد.
(1/77)

من يفعل ما هو دون ذلك من المعاصي، فكيف بالشرك، كما نهى الذين سجدوا (1) له، ونهى الذين صلوا خلفه قياماً، وقال: ((إن كدتم تفعلون فعل فارس والروم فلا تفعلوا)) (2) رواه مسلم.
وفي المسند بإسناد صحيح عن أنس قال: ((لم يكن شخص أحب إليهم من (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك)) وفي الصحيح أن جارية قالت عنده ((وفينا نبي يعلم ما في غده)) فقال صلى الله عليه وسلم: ((هذا وقولي الذي كنت تقولين)) (4) ، ومثل هذا كثير من نهيه عن المنكر بحضرته، فكل من رآه في حياته لم يتمكن أن يفعل بحضرته منكراً يقر عليه.
إلى أن قال: ومعلوم أنه لو كان حياً في المسجد من أفضل العبادات وقصد القبر الذي اتخذ مسجداً مما نهى عنه، ولعن أهل الكتاب على فعله (5) : وأيضاً فليس عند قبره مصلحة من مصالح الدين، وقربة إلى رب العالمين إلا وهي مشروعة في جميع البقاع (6) ، فلا ينبغي أن يكون صاحبها غير معظم للرسول صلى الله عليه وسلم التعظيم التام والمحبة والتامة إلا عند قبره، بل هو مأمور بهذا في كل مكان.
وزيارته في حياته مصلحة راجحة لا مفسدة فيها، والسفر إلى القبر بمجردة بالعكس مفسدة راجحة، وهناك بفعل من حقوقه ما يشرع في سائر المساجد، وهذا مما يتبين به كذب الحديث الذي يقال فيه: ((من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي)) وهذا الحديث هو معروف من رواية حفص بن سليمان الغاضري صاحب عاصم، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن


(1) كأنه يشير إلى حديث معاذ بن جبل عندما قدم من الشام وسجد له فنهاه، عن ذلك والحديث أخرجه ابن ماجة وغيره وهو ضعيف إلا أنه بمجموع طرقه صالح للحجة انظر كلام شيخنا مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله.
(2) رواه مسلم 1/309 وأبو داود في الصلاة 1/403 حديث 602 وابن ماجة 1/393 حديث رقم 1240 جميعاً عن جابر ورواه غيرهم.
(3) رواه أحمد في مسنده 3/143 وسنده صحيح.
(4) رواه البخاري 9/202 وأحمد – 360 والبيهقي 7/288-289 من حديث الربيع بنت معوذ بنغفران.
(5) تقدم صفحة 47 حديث (3)
(6) يريد الصلاة والسلام عليه وقد مر الحديث صفحة 47 حاشية (1)
(1/78)

ابن عمر قال: قال رسول الله: ((من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي)) (1) وقد رواه عنه غير واحد وعندهم معروف من طريقة وهو عندهم ضعيف في الحديث إلى الغاية، حجة في القرآن قال يحيى بن معين: حفص ليس بثقة، وقال البخاري: تركوه.
ثم سرد الشيخ كلام الأئمة فيه، وقال (2) : وقد رواه الطبراني في المعجم من حديث الليث بن بنت ليث بن أبي سليم عن زوجة جده عائشة عن ليس، وهذا الليث وزوجه جده مجهولان، ونفس المتن باطل، فإن الأعمال التي فرضها الله ورسوله لا يكون الرجل بها مثل الواحد من الصحابة، بل في الصحيحين (3) عنه أنه قال: ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) فالجهاد والحج ونحوهما أفضل من زيارة قبره باتفاق المسلمين، ولا يكون الرجل بهما كمن سافر إليه في حياته ورآه، كيف وذاك إما أن يكون مهاجراً إليه كما كانت الهجرة قبل الفتح، أو من الوفود الذين كانوا يفدون إليه يتعلمون الإسلام ويبلغونه عنهم إلى قومهم، وهذا عمل لا يمكن أحداً بعدهم أن يفعل مثله.
ومن شبه من زار قبر شخص بمن كان يزوره في حياته فهو مصاب في عقله ودينه، والزيارة الشرعية لقبر الميت مقصودها الدعاء له والاستغفار كالصلاة على جنازته والدعاء المشروع المأمور به في حق نبينا كالصلاة عليه والسلام عليه، وطلب الوسيلة له مشروع في جميع الأمكنة لا يختص بقبره عمل صالح تمتاز به تلك البقعة، بل كل عمل صالح يمكن فعله هناك يمكن فعله في سائر البقاع.
لكن مسجده أفضل من غيره فالعبادة فيه فضيلة يكونها في مسجده كما قال: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)) (4) والعبادات المشروعة فيه بعد دفنه، مشروعة فيه قبل أن يدفن النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته، وقبل أن تدخل حجرته في المسجد، ولم يتحدد بعد ذلك فيه عبادة غير العبادات التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وغير ما شرعه هو لأمته، ورغبهم فيه ودعاهم إليه، وما يشرع للزائر من صلاة وسلام ودعاء له وثناء عليه، كل ذلك مشروع في مسجده في حياته، وهي مشروعة في


(1) تقدم الكلام عليه.
(2) الرد على الأخنائي ص144.
(3) تقدم صفحة 76 حاشية (1)
(4) تقدم في صفحة 59 حاشية (1)
(1/79)

سائر المسجد بل وفي سائر البقاع التي تجوز فيها الصلاة،وهو صلى الله عليه وسلم قد جعلت له ولأمته الأرض مسجداً وطهوراً، فحيث ما أدركت أحداً الصلاة فليصل فإنه مسجد،كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم (1) .
وفي ظن أن زيارة القبر تختص بجنس من العبادة لم تكن مشروعة في المسجد وإنما شرعت لأجل القبر فقد أخطأ، لم يقل هذا أحد من الصحابة والتابعين، وإنما غلط في هذا بعض المتأخرين، وغاية ما نقل عن بعض الصحابة كابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر يقف عن القبر ويسلم (2) ،وجنس السلام عليه مشروع في المسجد وغير المسجد قبل السفر وبعده.
وأما كونه عند القبر فهذا كان يفعله ابن عمر إذا قدم من سفر، وكذلك الذين استحبوه من العلماء استحبوه للصادر والوارد من المدينة وإليها من أهلها، وللوارد والصادر من المسجد من الغرباء،مع أن أكثر الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك ولا فرق أكثر السلف بني الصادر والوارد، بل كلهم ينهون عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال أوب الوليد الباجي: إنما فرق بين أهل المدينة وغيرها، لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها، ولم يقصدوها من أجل القبر والتسليم، قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) وقال: ((لا تجعلوا قبري عيداً)) (3) .
وهذا الذي ذكره من أدلة سوى في النهي، فإنه قوله لا تجعلوا ولا تتخذوا بيتي عيداً، نهي لكل أمة أهل المدينة والقادمين إليها، وكذلك نهيه عن اتخاذ القبور مساجد وخبرة بأن غضب الله اشتد على من فعل ذلك، هو متناول للجميع وكذلك دعاؤه بأن لا يتخذ قبره وثناً، عام.
وما ذكره من أن الغرباء قصدوا لذلك تعليق على العلة ضد مقتضاها فإن القصد


(1) رواه البخاري 1/435-533 ومسلم 1/370 من حديث جابر بن عبد الله ولمسلم عن أبي هريرة وحذيفة، والترمذي 4/133 حديث رقم 1553 وابن ماجه 1/187 حديث رقم 567 من حديث أبي هريرة إلا أنه عند ابن ماجة مختصراً.
(2) تقدم.
(3) تقدم صفحة 47 حاشية (1) .
(1/80)

لذلك منهي عنه، كما صرح به مالك وجمهور أصحابه، وكما نهى عنه، وإذا كان منهياً عنه أو ليس بقربه لم يشرع الإعانة عليه، وابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يسافر إلى المدينة لأجل القبر، بل المدينة وطنه، فكان يخرج منها لبعض الأمور، ثم يرجع إلى وطنه فيأتي المسجد، فيصلي فيه ويسلم،ـ فأما السفر لأجل القبور فلا يعرف عن أحد من الصحابة، بل ابن عمر كان يقدم إلى بيت المقدس ولا يزور قبل الخليل صلى الله عليه وسلم: وكذلك أبوه عمر رضي الله عنه ومن معه من المهاجرين والأنصار قدموا إلى بيت المقدس، ولم يذهبوا إلى قبر الخليل عليه السلام، وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وسائر أهل الشام لم يعرف عن أحد منهم أنه سفر إلى قبر الخليل عليه السلام ولا غيره كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وما كان قربه للغرباء فهو قربة لأهل المدينة كإتيان قبور الشهداء وأهل البقيع، وما لم يكن قربة لأهل المدينة لم يكن قربة لغيرهم كاتخاذ بيته عيداً واتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً، وكالصلاة إلى الحجرة والتمسح بها وإلصاق البطن بها والطواف بها وغير ذلك مما يفعله جهال القادمين، فإن هذا بإجماع المسلمين ينهي عنه الغرباء، كما ينهىلا عنه أهل المدينة ينهون عنه صادرين وواردين باتفاق المسلمين.
وبالجملة: فجنس الصلاة والسلام عليه والثناء عليه صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك مما استحبه بعض العلماء عند القبر للواردين والصادرين هو مشروع في مسجده وسائر المساجد، وأما ما كان سؤالاً له فهذا لم يستحبه أحد من السلف لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ثم بعض من يستحب هذا من المتأخرين يدعونه مع البعد فلا يختص هذا عندهم بالقبر، وأما نفس داخل بيته عند قبره فلا يمكن أحد الوصول إلى هناك ولم يشرع هناك عمل يكون هناك أفضل منه في غيره، ولو شرع لفتح باب الحجرة للأمة، بل قد قال: ((لا تتخذوا بيتي عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم)) (1) صلوات الله وسلامه عليه.
وقد تقدم ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن عبد العزيز الداروردي، عن سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فناداني فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، قم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا بيتي عيداً وصلوا علي


(1) الحديث تقدم تخريجه ص47 والشيخ رحمه الله غالباً ما يروي الأحاديث بالمعنى لأنه أكثر ما ألف كتبه في السجن فالحديث لفظه ((لا تتخذوا قبري عيداً)) .
(1/81)

حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) (1) ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء، وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وغيرها من الشام مثل معاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجراح وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء وغيرهم لم يعرف عن أحد منهم أنه سافر لقبر من القبور التي بالشام لا قبر الخليل، ولا غيره، كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وكذلك الصحابة الذين كانوا بالحجاز والعراق وسائر البلاد، كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.
فإن قيل: الزائر في الحياة إنما أحبه لله لكونه يحبه في الله، والمؤمنون يحبون الرسول أعظم، وكذلك يحبون سائر الأنبياء والصالحين، فإذا زارهم أثيبوا على هذه المحبة، قيل حب الرسول من أعظم واجبات الدين وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)) (2) وفي الحديث الصحيح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) (3) رواه البخاري عن أبي هريرة قال: والذي نفسي بيده.
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخر بيد عمر فقال: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك)) فقال عمر، فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي قال الآن يا عمر (4) ، وتصديق ذلك في القرآن قوله: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة 024)
وقال: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} (المجادلة 022)


(1) تقدم.
(2) الحديث رواه البخاري 1/60، 72، 10/463 و 12/315 ومسلم 1/66 جميعاً عن أنس
(3) أخرجه البخاري 1/58 عن أبي هريرة وانس ومسلم 1/67 عن أنس.
(4) رواه البخاري 11/523 و 7/43 و 11/54 و 523.
(1/82)

وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة)) اقرأوا إن شئتم {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} (1) (الأحزاب 006)
وذكر الحديث، وفي حديث آخر: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) (2) لكن حبه وطاعته وتعزيزه وتوقيره، وسائر ما أمر الله به من حقوقه مأمور به في كل مكان لا يختص بمكان دون مكان، وليس من مكان في المسجد عند القبر بأولى بهذه الحقوق ووجوبها عليه ممن كان في موضع آخر.
ومعلوم أن مجرد زيارة قبره كالزيارة المعروفة للقبور غير مشروعة ولا ممكنة ولو كان في زيارة قبره عبادة زائدة للأمة لفتح باب الحجرة ومكنوا من فعل تلك العبادة عند قبره، وهم لم يمكنوا إلا من الدخول إلى مسجده والذي يشرع في مسجده يشرع في سائر المساجد، لكن مسجده أفضل من سائرها إلا المسجد الحرام على نزاع في ذلك وما يجده مسلم في قلبه من محبته والشوق إليه والأنس بذكره وذكر أحواله فهو مشروع له في كل مكان، ,ليس في مجرد زيارة ظاهرة الحجرة ما يوجب عبادة لا تفعل بدون ذلك، بل نهى عن أن يتخذ ذلك المكان عيداً وأمر أن يصلي عليه حيث كان العبد ويسلم عليه، فلا يخص بيته وقبره لا بصلاة عليه ولا تسليم عليه، فكيف بما ليس كذلك (3) .
وإذا خص قبره بذلك صار ذلك في سائر الأمكنة دون ما هو عند قبره بنقص حبه


(1) رواه البخاري 5/61.
(2) هذا الحديث ضعيف، فيه نعيم بن حماد، وقد قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص365، وقد اختلف على نعيم في إسناده فروى عنه عن الثقفي عن هشام وروى عنه عن الثقفي حدثنا بعض مشيختنا حدثنا هشام أو غيره وعلى هذه الرواية يكون شيخ الثقفي غير معروف عنه وروى عن الثقفي حدثنا بعض مشيختنا حدثنا هشام أو غيره فعلى هذه الرواية فالثقفي رواه عن شيخ مجهول وشيخه رواه عن غير معنى فتزداد الجهالة في إسناده، ومنها أن في إسناده عقبة بن أوس الدوس البصري، ويقال فيه يعقوب بن أوس أيضاً، وقد خرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة حديثاً عن عبد الله بن عمر ويقال عبد الله بن عمر، وقد اضطرب في إسناده وقد وثقه العجلي وابن سعد وابن حبان، وقال ابن خزيمة، روى عنه ابن سيرين مع جلالته وقال ابن عبد البر، هو مجهول وقال الغلابي في تاريخه: يزعمون أنه لم يسمع من عبد الله بن عمرو وإنما يقول: قال عبد الله بن عمر فعلى هذا تكون رواياته عن عبد الله بن عمرو منقطعة والله أعلم. أهـ.
(3) يشير إلى الأحاديث المتقدمة.
(1/83)

وتعظيمه وتعزيزه ومولاته والثناء عليه عند غيره قبره عما يفعل عند قبره ما يجده الناس في قلوبهم إذا رأوا من يحبونه ويعظمونه يجدون في قلوبهم عند قبره مودة له ورحمة ومحبة أعظم مما يكون بخلاف ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بينهم وبين الله في كل مكان وزمان فلا يؤمرون بما يوجب نقص محبتهم وإيمانهم في عامة البقاع والأزمنة، مع أن ذلك لو شرع لهم لأشتغلوا بحقوقهم عن حقه واشتغلوا بطلب الحوائج منه كما هو الواقع فيدخلون في الشرك بالخالق،وفي ترك حق المخلوق فينقص تحقيق الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.
وأما ما شرعه لهم من الصلاة والسلام عليه في كل مكان وأن لا يتخذوا بيته عيداً ولا مسجداً، ومنعهم من أن يدخلوا إليه ويزوروه، كما تزار القبور، فهذا يوجب كمال توحيدهم للرب تبارك وتعالى وكمال إيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته وتعظيمه حيث كانوا واهتمامهم بما أمروا به من طاعته، فإن طاعته هي مدار السعادة، وهي الفارقة بين أولياء الله وأعدائه، وأهل الجنة وأهل النار فأهل طاعته هم أولياء الله المتقون وجنده المفلحون وحزبه الغالبون، وأهل مخالفته ومعصيته بخلاف ذلك.
والذين يقصدون الحج إلى قبره وغبر غيره ويدعونهم ويتخذونهم أنداداً من أهل معصيته ومخالفته لا من أهل طاعته وموافقته، فهم في هذا الفعل من جنس أعدائه لا من جنس أوليائه، وإن ظنوا أن هذا من مولاته ومحبته، كما يظن النصارى أن ما هم إلا من الغلو في المسيح والتربك به من جنس محبته ومولاته، وكذلك دعائهم للأنبياء الموتى كإبراهيم وموسى وغيرهم عليهم السلام، ويظنون أن هذا من محبتهم ومولاتهم، وإنما هو من جنس معاداتهم، ولهذا يتبرؤن منهم يوم القيامة.
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يتبرأ ممن عصاه، وإن كان قصده تعظيمه والغلو فيه، قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (الشعراء 215-216)
فقد أمر الله المؤمنين أن يتبرؤا من كل معبود غير الله ومن كل من عبده قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (الممتحنة 004)
وكذلك سائر الموتى ليس في مجرد رؤية قبروهم ما يوجب لهم زيادة المحبة إلا لمن عرف أحوالهم بدون ذلك فيتذكر أحوالهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يذكر المسلمون أحواله ومحاسنه
(1/84)

وفضائله،وما من الله به عليه، وما من على أمته، فبذلك يزداد حبهم له وتعظيمهم له، لا بنفس رؤية القبر.
ولهذا تجد العاكفين على قبور الأنبياء والصالحين من أبعد الناس عن سيرتهم ومتابعتهم، وإنما قصد جمهورهم التأكل والترأس بهم، فيذكرون فضائلهم ليحصل لهم بذلك رئاسة أو مأكلة، لا ليزدادوا هم حباً وخيراً.
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وإن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد)) (1) .
وما ذكره هذا من فضائله فبعض ما يستحقه صلى الله عليه وسلم، والأمر فوق ما ذكره أضعافاً مضاعفة، لكن هذا يوجب إيماننا به وطاعتنا له، واتباع سنته والتأسي به، والاقتداء به ومحبتنا له وتعظيمنا له، موالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، فإن هذا هو طريق النجاة والسعادة، وهو سبيل الحق ووسيلتهم إلى الله تعالى، ليس في هذا ما يوجب معصيته ومخالفة أمره، والشرك بالله واتباع غير سبيل المؤمنين السابقين الأولين والتابعين لهمبإحسان، وهو صلى الله عليه وسلم قد قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) (2) ، وقال: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (3) يحذر ما فعلوا، وقال: لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني (4) ، وقال: خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) (5) رواه مسلم، وقال ((إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كبيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة


(1) رواه أحمد 1/405 و 435 و 454 والطبراني في الكبير 10/232 حديث رقم 10413، فالحديث بطرقه صحيح، قال الهيثمي في مجتمع الزوائد 2/27 رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن، رواه ابن حبان انظر الموارد ص104 وأبو نعيم من أخبار أصبهان 1/142 بإسناد حسن، وأصل الحديث في البخاري 13/14 حديث رقم 7067 وانظر تحذير الساجد ص19.
(2) تقدم صفحة 19 حاشية (1)
(3) تقدم صفحة 47 حاشية (3)
(4) تقدم صفحة 47 حاشية (1) .
(5) قطعة من خطبة الحاجة التي كان يفتتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها خطبة ومواعظه وللألباني حفظه الله تعالى بحيث قيم فيها وقد نشرت هذه الرسالة فالتراجع وسماها (خطبة الحاجة التي كان يعلمها الرسول للصحابة)) .
(1/85)

ضلالة (1) إلى غير ذلك من الأدلة التي تبين أن الحجاج إلى القبور هم من المخالفين للرسول صلى الله عليه وسلم الخارجين عن شريعته وسنته، لا من الموافقين له المطيعين له، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
قال المعترض
الحديث الخامس: ((من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)) رواه عدي في الكامل وغيره، قم قال: أخبرناه أدنا ومشافهة عبد المؤمن وآخرون عن ابي الحسن بن المقير البغدادي، عن أبي الكرم بن الشهرزوري، أنبأنا إسماعيل بن مسعدة الاسماعيلي، أنبأنا حمزة بن يوسف السهمي، أنبأنا أبو أحمد بن عدي، حدثنا علي بن إسحاق، حدثنا محمد بن محمد بن النعمان، حدثني جدي، قال: حدثي مالك عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)) (2) .
وذكر ابن عدي أحاديث للنعمان ثم قال: هذه الأحاديث عن نافع عن ابن عمر يحدث بها النعمان بن شبل عن مالك، ولا أعلم رواه عن مالك غير النعمان بن شبل؟ ولم أر في أحاديثه حديثاً غريباً، قد جاوز الحد فأذكره، وروى في صدر ترجمته عن عمران بن موسى الزجاجي أنه ثقة، وعن موسى بن هارون أنه منهم، وهذه التهمة غير مفسرة فالحكم بالتوثيق مقدم عليها، وذكر أبو الحسن الدارقطني هذا الحديث في أحاديث مالك بن أنس الغرائب التي ليست في الموطأ، وهو كتاب ضخم، قال: حدثنا أبو عبد الله الأأبلي وعبد الباقي، قال: حدثنا محمد بن محمد بن النعمان بن شبل، حدثنا جدي حدثنا مالك عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)) قال الدارقطني: نفرد به هذا الشيخ وهو منكر، هذه عبارة الدارقطني، والظاهر أن هذا الإنكار منه بحسب تفرد به هذا الشيخ وهو منكر، هذه عبارة الدارقطني، والظاهر أن هذه الإنكار منه بحسب تفرده وعدم احتماله له بالنسبة إلى الإسناد المذكور؛ ولا يلزم من ذلك أن يكون المتن في نفسه منكراً، ولا موضوعاً، وقد ذكر ابن الجوزي في الموضوعات (3) ، وهو سرف منه، ويكفي في الرد عليه ما قاله ابن عدي، وقال ابن الجوزي عن الدارقطني، أن الحمل فيه على محمد بن محمد بن النعمان لا على جدة، وكلام


(1) رواه أبو داود 5/13 حديث رقم 4608 والترمذي 5/44 حديث رقم 2676 وابن ماجة في المقدمة 1/15 حديث رقم 42.
(2) انظر الكامل 7/2480.
(3) 2/217.
(1/86)

الدارقطني الذي ذكرناه محتمل لذلك، ولأن يكون المراد تفرد النعمان كما قاله ابن عدي.
وأما قول ابن حبان أن النعمان يأتي عن الثقات بالطامات، فهو مثل كلام الدارقطني إلا أنه بالغ في الإنكار،وقد روى ابن حبان في كتاب (المجروحين) عن أحمد بن عبيد عن محمد بن محمد، وقول ابن الجوزي في كتاب (الضعفاء) أن الدارقطني طعن في محمد بن محمد بن النعمان، فالذي حكيناه من كلام الدارقطني هو الإنكار لا التضعيف، فيحصل من هذا إبطال الحكم عليه بالوضع، لكن غريب كما قال الدارقطني، وهو لأجل كلام ابن عدي صالح لأن يعتضد به غيره.
وهذا الحديث كان ينبغي تقديمه على الأول لكونه من طريق نافع، ولكن أخرناه لأجل ما وقع من الكلام.
ومما يجب أن ينتبه له أن حكم المحدثين بالإنكار والاستغراب قد يكون بحسب تلك الظروف فلا يلزم من ذلك رد متن الحديث بخلاف إطلاق الفقيه أن الحديث موضوع، فإن حكم على المتن من حديث الجملة، فلا جزم قبلنا كلام الدارقطني، ورددنا كلام ابن الجوزي والله أعلم.
انتهى كلام المعترض على هذا الحديث وهو كما ترى ملفق مزوق غير محقق ولا مصدق، بل فيه من الوهم والإبهام والتلبيس والخبط والتخليط ودفع الحق وقبول الباطل ما سننبه على بعضه إن شاء الله تعالى.
واعلم أن هذا الحديث المذكور منكر جداً لا أصل له، بل هو من المكذوبات والموضوعات، وهو كذب موضوع على مالك مختلق عليه، لم يحدث به قط ولم يروه إلا من جمع الغرائب والمناكير والموضوعات،ولقد أصاب الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في ذكره في الموضوعات (1) ، وأخطأ هذا المعترض في رده وكلامه، والحمل في هذا الحديث على محمد بن محمد بن النعمان لا على جده، كما ذكره الدارقطني في الحواشي على كتاب (المجروحين) لأبي حاتم بن حبان البستي.
هذا المعترض لم يقف على كلام الدارقطني الذي نحكيه عنه، قال ابن حبان في كتاب الضعفاء: النعمان بن شبل أبو شبل من أهل البصرة يروي عن أبي عوانة ومالك


(1) انظر الموضوعات لابن الجوزي 2/217.
(1/87)

والبصريين والحجازيين، روى عنه ابن أبنه محمد بن محمد بن النعمان بن شبل، حدثنا مالك عن نافع، عن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)) حدثنا أحمد بن عبيد (1) بهمذان، حدثنا محمد بن محمد (2) بن النعمان بن شبل أبو شبل حدثنا جدي حدثنا مالك (3) .
هذا جميع ما ذكره ابن حبان في ترجمة النعمان بن شبل، وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني في الحواشي، على كتابه: هذا حديث غير محفوظ عن النعمان بن شبل إلا من رواية ابن ابنه، عن ابنه، والطعن فيه عليه لا على النعمان، ولقد صدق الحافظ أبو الحسن في هذا القول، فإن النعمان بن شبل إنما يعرف برواية هذا الحديث عن محمد بن الفضل بن عطية المشهور بالكذب، ووضع الحديث عن جابر الجعفي عن محمد بن علي عن علي بن أبي طالب، هكذا رواه الحافظ أبو عمر وعثمان بن خزاذ عن النعمان بن شبل كما تقدم ذكره.
هذا الحديث الموضوع لا يليق أن يكون إسناده إلا مثل هذا الإسناد الساقط ولم يروه عن النعمان بن شبل عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر إلا ابن ابنه محمد بن محمد بن النعمان، وقد هتك محمد في رواية هذا الحديث ستره وأبدى عن عورته وافتضح بروايته حيث جعله عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر (4) ، ومن المعلوم أن أدنى من له علم ومعرفة بالحديث أن تفرد مثل محمد بن محمد بن النعمان بن شبل المتهم بالكذب والوضع عن جده النعمان بن شبل الذي لم يعرف بعدالة ولا ضبط ولم يوثقه إمام يعتمد عليه، بل اتهمه موسى بن هارون الحمال أحد الأئمة الحفاظ المرجوع إلى كلامهم في الجرح والتعديل الذي قال فيه عبد الغني بن سعيد المصري الحافظ هو أحسن الناس كلاماً على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقته عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر بمثل هذا الخبر المنكر الموضوع من أبين الأدلة وأوضح البراهين على فضيحته وكشف عورته وضعف ما


(1) الصواب (بهمذان) بالتحريك وبالذال كما في معجم البلدان وهي بلد وأما (همدان) فقبيلة
(2) في كتاب المجروحين لابن حبان (محمد بن محمود) والظاهر أن الصواب كما هنا.
(3) انظر المجروحين 3/73.
(4) جزى الله ابن عبد الهادي خيراص. حقيقة تبين تلفيقه وكذبه حيث لم يوافقه الله تعالى لأنه نسب حديثه هذا إلى سلسلة من أصح الأسانيد لأن مالك عن نافع عن ابن عمر أصح الأسانيد عند البخاري رحمه الله تعالى.
(1/88)

تفرد به وكذبه ورده وعدم قبوله، ونسخه مالك عن نافع عن ابن عمر محفوظة معروفة مضبوطة رواها عن أصحابه رواة الموطأ وغير رواة الموطأ، وليس هذا الحديث منها، بل لم يروه مالك قط ولا طرق سمعه.
ولو كان من حديثه لبادر إلى روايته عنه بعض أصحابه الثقات المشهورين، بل لو تفرد بروايته عنه ثقة معروف من بينسائر أصحابه لأنكره الحفاظ عليه، ولعدوه من الأحاديث المنكرة الشاذة، فكيف وهو حديث لم يروه عنه ثقة قط، ولم يخبر عنه عدل.
وما ذكره المعترض عن عمران بن موسى أنه وثق النعمان بن شبل ليس بصحيح عنه، وعمران ليس م أئمة الجرح والتعديل المرجوع إلى أقوالهم، فلو ثبت عنه ما حكاه المعترض لم يرجع إلى قوله فكيف وهو لم يثبت عنه، فإنه ابن عدي قال في كتاب الكامل (1) حدثنا صالح بن أحمد بن أبي مقاتل، حدثنا عمران بن موسى، حدثنا النعمان بن شبل وكان ثقة، هذا هو الذي حكاه ابن عدي من توثيق النعمان، ومنه نقل المعترض كما ذكره، وصالح بن أحمد بن أبي مقاتل شيخ ابن عدي يعرف بالقيراطي، وهو متهم بالكذب والوضع وسرقة الأحاديث فإن كان هو الموثق للنعمان بن شبل لم يقبل توثيقه، لأنه ضعيف في نفسه، فكيف يقبل توثيقه لغيره؟
وإن كان الموثق هو عمران بن موسى كما ذكره المعترض لم تقبل رواية صالح بن أحمد بن أبي مقاتل عنه ذلك، لأنه غير ثقة.
وقال الدارقطني (2) هو متروك كذاب دجال أدركناه ولم نكتب عنه يحدث بما لم يسمع، وقال ابن عدي (3) يسرق الأحاديث ويرفع الموقوف ويصل المرسل وهو بين الأمر جداً وقال ابن حبان (4) كتبنا عنه ببغداد يسرق الحديث ويقلبه،ولعله قد قلب أكثر من


(1) انظر الكامل لابن عدي 4/2480.
(2) قال الدارقطني رحمه الله تعالى في الضعفاء والمتروكين حدثونا عنه 249 رقم الترجمة 293، وقال رحمه الله تعالى في سؤالات الحاكم له، متروك ص140 رقم الترجمة 113.
وقال المعلق على كتاب الضعفاء والمتركوين للدارقطني وهو:موفق بن عبد الله بن عبد القادر حفظه الله تعالى في الحاشية نقلاً عن سؤالات السلمي للدارقطني، وسألته عن صالح القيراطي، فقال: كذاب دجال يحدث بما لم يسمع.
(3) انظر ترجمته في الكامل لابن عدي 4/1390.
(4) انظر المجروحين لابن حبان 1/368.
(1/89)

عشرة آلاف حديث لا يجوز الاحتجاج به بحال، وقال البرقاني (1) : هو ذاهب الحديث وقال الخطيب (2) ، كان يذكر بالحفظ غير أن حديثه كثير المناكير.
فإذا كانت هذه حال صالح بن أحمد بن أبي مقاتل عن أئمة الجرح والتعديل فكيف يقبل توثيقه لرجل غير ثقة أو بصار إلى روايته التوثيق لغير عدل عمن لا يرجع إلى قوله ولا يلتفت إلى كلامه؟ فكيف يقدم مثل هذا التوثيق للنعمان بن شبل على قوم موسى بن هارون الحمال؟ إنه منهم وقد عرف أنه أراد تهمة الكذب، مع العلم بأن موسى بن هارون من كبار أئمة الصنعة وعلماء هذا الشأن العارفين بعلل الأحاديث المرجوع إلى قولهم وجرحهم وتعديلهم ولم يخالفه أحد في قوله هذا، بل وافقه عليه أبو حاتم بن حبان وغيره كما تقدم.
ولو ثبت أن النعمان بن شبل وثقة من يعتمد على توثيقه ويرجع إلى تعديله لميكن في ذلك ما يتقضي قبول ما روى عنه في الزيادة، ولا قوته، فإن الحمل فيه على غيره والطعن فيه على ابن ابنه محمد بن محمد بن النعمان، كما ذكر ذلك شيخ الصنعة إمام عصره وفريد دهره ونسيج وحده الحافظ الكبير أبو الحسن الدارقطني، ولم يخالفه أحد يعتمد على قوله (3) .
ومن العجب قول هذا المعترض في آخر كلامه على الحديث: فلا جرم قبلنا كلام الدرقطني ورددنا كلام ابن الجوزي مع أن كلام الدارقطني، وكلام ابن الجوزي متفق غير مختلف. فإن الدارقطني ذكر أن الحديث منكر، وأن الطعن والعمل فيه على محمد بن محمد بن النعمان وابن الجوزي ذكره في الموضوعات، وحكى قول الدارقطني محتجاً به، ومعتمداً عليه فقبول المعترض قول أحدهما ورده قول الآخر مع اتفاقهما في المعنى من باب الخبط والتخبيط وليس ذلك ببدع في كلامه وتصرفاته.
والحاصل أن هذا الحديث الذي تفرد به محمد بن محمد بن النعمان عن جده عن مالك لا يحتج به ويعتمد عليه إلا من أعمى الله قبله، وكان من أجهل الناس بعلم المنقولات، ولو فرض أنه خبر صحيح وحديث مقبول لم يكن فيه حجة إلا على الزيارة


(1) انظر ترجمته في الميزان للذهبي 2/278 قال الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه المغني في ترجمته دجال كذبة الدارقطني 1/302.
(2) انظر التاريخ للخطيب 9/329.
(3) انظر الميزان للذهبي 4/26.
(1/90)

الشرعية وقد ذكرنا غير مرة أن شيخ الإسلام لا ينكر الزيارة الشرعية وإنما ذكر في جواب السؤال المشهور في السفر مجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين قولين لأهل العلم (1) ، وذكر أن قوله من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء فيه احتراز عن السفر المشروع كالسفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، إذا سافر السفر المشروع فساف إلى مسجده، فصلى فيه وصلى عليه وسلم عليه ودعا، وأثنى كما يحبه الله ورسوله، فهذا سفر مشروع مستحب باتفاق المسلمين، وليس فيه نزاع فإن هذا لم يسافر لمجرد زيارة القبور،بل للصلاة في المسجد،فإن المسلمين متفقون على أن السفر الذي يسمى زيارة لابد فيه من أن يقصد المسجد ويصلي فيه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لقوله صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)) (2) ولقوله: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا)) (3) .
والسؤال والجواب لم يكن المقصود فيه خصوص السفر إلى زيارة قبر النبي، فإن هذا السفر على هذا الوجه مشروع مستحب باتفاق المسلمين ولم يقل أحد من المسلمين أن السفر إلى زيارة قبر محرم مطلقاً، بل من سافر إلى مسجده وصلى فيه وفعل ما يؤمر به من حقوق الرسول كان هذا مستحباً مشروعاً باتفاق المسلمين، لم يكن هذا مكروهاً عند أحد منهم، لكن السلف لم يكونوا يسمون هذا زيارة لقبره، وقد كره من كره من أئمة العلماء أن يقال: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وآخرون يسمون هذا زيارة لقبره لكن هم يعلمون ويقولون: إنه إنما يصلي إلى مسجده، وعلى اصطلاح هؤلاء من سافر إلى


(1) في الرد على الأخنائي ص161 -165.
(2) تقدم في ص 59 حاشية (1) .
(3) تقدم في ص19 حاشية (1) .
فائدة: قال الشيخ ناصر الدين الألباني في السلسة الضعيفة 1/61 حديث رقم 45 في الكلام على حديث (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني) ومما يدل على وضعه أن جفاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من الذنوب والكبائر إن لم يكن كفراً، وعليه فمن ترك زيارته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يكون مرتكباً لذنب كبير وذلك يستلزم أن الزيارة واجبة كالحج وهذا مما لا يقوله مسلم، ذلك لأن زيارته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإن كانت من القربات فإنها لا تتجاوز عند العلماء حدود المستحبات فكيف يكون تاركها مجافياً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومعرضاً عنه؟ أ. هـ فجزاء الله خيراً.
قلت: وهذا المعترض يدافع عن الحديث ويحاول التلبيس على الناس ولكن كما قال الشاعر:
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل
(1/91)

مسجده وصلى فيه وزار قبره الزيارة الشرعية لم يكن هذا محرماً عند أئمة المسلمين بخلاف السفر إلى زيارة قبر غيره من الأنبياء والصالحين، فإنه ليس عنده مسجد يسافر إليه.
فالسؤال والجواب كان من جنس السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين كما يفعل أهل البدع ويجعلون ذلك حجاً أو أفضل من الحج أو قريباً من الحج، حتى روى بعضهم حديثاً ذكره بعض المصنفين في زماننا في فضل من زار الخليل قال فيه: وقال وهب بن منبه إذا كان آخر الزمان حيل بين الناس وبين الحج فمن لم يحج ولحق ذلك ولحق بقبر إبراهيم، فإن زيارته تعدل حجة، وهذا كذب على وهب بن منبه كما أن قوله من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة، كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذا الحديث إنما افتراه الكذابون لما فتح بيت المقدس واستنفذ من أيدي النصارى على يد صلاح الدين سنة بضع وثمانين وخمسمائة فإن النصارى نقبوا قبل الخليل، وصار الناس يتمكنون من الدخول إلى الحضرة، وأما على عهد الصحابة والتابعين وهب بن منبه وغيره فلم يكن هذا ممكناً، ولا عرف عن أحد من الصحابة والتابعين أنه سفر إلى قبل الخليل عليه السلام، ولا إلى قبر غيره من الأنبياء، ولا من أهل البيت، ولا من المشايخ ولا غيرهم، ووهب بن منبه كان باليمن لم يكن بالشام ولكن كان من المحدثين عن بني إسرائيل والأنبياء المتقدمين مثل كعب الأحبار ومحمد بن إسحاق ونحوهما.
وقد ذكر العلماء ما ذكره وهب في قصة الخليل وليس فيه شيء من هذا ولكن أهل الضلال افتروا آثاراً مكذوبة على الرسول وعلى الصحابة والتابعين توافق بدعهم، وقد رووا عن أهل البيت وغيرهم من الأكاذيب ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وغرض أولئك الحج إلى قبر علي، أو الحسين أو إلى قبور الأئمة كموسى والجواد وغيرهما من الأئمة الأحد عشر، فإن الثاني عشر دخل السرداب وهو عندهم حي إلى الآن ينتظر، ليس لهم غرض في الحج إلى قبر الخليل وهؤلاء من جنس المشركين الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعاً، فالكل قوم هدى يخالف هدي الآخرين قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا


(1) الحديث أيضاً من الموضوعات راجع الكلام عليه في السلسلة الضعيفة للشيخ ناصر1/61.
(1/92)

فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ () مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ () مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم 030)
وهؤلاء تارة يجعلون الحج إلى قبورهم أفضل من الحج وتارة نظير الحج، وتارة بدلاً عن الحج.
فالجواب كان عن مثل هؤلاء، ولكن كان ذكر قبر نبينا لشمول الأدلة الشرعية، فإنه إذا احتج بقوله: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، كان مقتضى هذا أنه لا يسافر إلا إلى المسجد لا إلى مجرد القبر، كما قال مالك للسائل الذي سأله من نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن كان أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليأته وليصل فيه، وإن كان أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء ((لا تعمل المطي، إلا إلى ثلاثة مساجد)) وهذا كما لو نهى الناس أن يحلفوا بالمخلوقات، وذكر لهم قول النبي: ((من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)) (1) وقوله: لا تحلفوا بالله ونحوه، وقيل: إنه لا يجوز الحلف بالملائكة ولا الكعبة ولا الأنبياء ولا غيرهم، فإذا قيل: ولا بالنبي لزم طرد الدليل، فقيل: ولا يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما قاله جمهور العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين، ومن الناس من يستثني نبينا كما استثناه طائفة من الخلف فجوز الحلف به وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه كالقاضي أبي يعلي وأتباعه وخصوه بذلك، وبعضهم طرد ذلك من الأنبياء، وهو قول ابن عقيل في كتابه المفردات، لكن قول الجمهور أصح لأن النهي هو عن الحلف بالمخلوقات كائناً من كان كما وقع الني عن عبادة المخلوق، وعن تقواه وخشيته والتوكل عليه وجعله نداً لله، وهذا متناول لكل مخلوق، نبينا وسائر الأنبياء والملائكة وغيرهم، فكذلك الحلف بهم والنذر لهم أعظم من الحلف بهم، والحج إلى قبورهم أعظم من الحلف بهم والنذر لهم وكذلك السفر إلى زيارة القبور وقصر الصلاة فيه.,
ولأصحاب أحمد فيه أربعة أقوال قيل تقصر الصلاة مطلقاً في كل سفر لزيارة القبور، وقيل:لا تقصر في شيء من ذلك: وقيل: تقصر في السفر لزيارة قبر نبينا خاصة وقيل: بل لزيارة قبره وسائر قبور الأنبياء، فالذين استثنوا نبينا قد يعللون ذلك بأن السفر هو إلى مسجده، وذلك مشروع مستحب بالاتفاق، فتقصر فيه الصلاة بخلاف السفر إلى قبر


(1) رواه البخاري 10/516 ومسلم 3/1267.
(1/93)

غيره،فإنه سفر لمجرد القبر، وقد يستنونه من العموم كما استثناه من استثناه منهم في الحلف، ثم ظن بعضهم أن العلة هي النبوة فطرد ذلك في الأنبياء.
والصواب أن السفر إلى قبره إنما يستثنى لأنه سفر إلى مسجده ثم إن الناس أقسام منهم من يقصد السفر الشرعي إلى مسجده، ثم إذا صار إلى مسجده المجاور لبيته الذي فيه قبره فعلى ما هو مشروع، فهذا سفر مجمع على استجابة وقصر الصلاة فيه، ومنهم من لا يقصد إلا مجرد القبر ولا يقصد الصلاة في المسجد أولا يصلي فيه، فهذا لا ريب أنه ليس بمشروع ومنهم من يقصد هذا وهذا، فهذا لم يذكر في الجواب، إنما ذكر في الجواب من لم يسافر إلا لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ومن الناس من لا يقصد إلا القبر، لكن إذا أتى المسجد صلى فيه، فهذا أيضاً يثاب على ما فعله من المشروع كالصلاة في المسجد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام عليه ونحو ذلك من الدعاء والثناء عليه ومحبته وموالاته والشهادة له بالرسالة والبلاغ وسؤال الله الوسيلة له ونحو ذلك مما هو من حقوقه المشروعة في مسجده بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ومن الناس من لا يتصور ما هو الممكن المشروع من الزيارة حتى يرى المسجد والحجرة فلا يسمع لفظ زيارة قبره فيظن ذلك كما هو المعروف المعهود من زيارة القبور أنه يصل إلى القبر ويجلس عنده، ويفعل ما يفعله من زيارة شرعية أو بدعية فإذا رأى المسجد والحجرة تبني له أنه لا سبيل لأحد أن يزور قبره كالزيارة المعهودة عند قبر غيره وإنما يمكن الوصول إلى مسجده والصلاة فيه وفعل ما يشرع للزائر في المسجد لا في الحجرة عند القبر بخلاف قبر غيره والله أعلم.
قال المعترض
وحديث آخر من رواية ابن عمر ذكره الدارقطني في العلل في مسند ابن عمر في حديث: ((من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل)) قال: حدثنا جعفر بن محمد الواسطي حدثنا موسى بن هارون، حدثنا محمد بن الحسن الختلي، حدثنا عبد الرحمن بن المبارك، حدثنا عون بن موسى، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زارني إلى المدينة كنت له شفيعاً وشهيداً)) قيل للختلي إنما هو سفيان بن موسى، قال: اجعلوه عن ابن موسى، قال موسى بن هارون: ورواه إبراهيم بن الحجاج عن وهيب، عن أيوب، عن نافع مرسلاً عن النبي فلا أدري سمعه من إبراهيم بن الحجاج أم لا
(1/94)

وإنما لم أفرد الحديث بترجمة، لأن نسخة العلل للدارقطني التي نقلت منها سقيمة انتهى ما ذكره المعترض على هذا الحديث.
والجواب أن يقال: هذا اللفظ المذكور غلط في هذا الحديث، حديث نافع عن ابن عمر ولفظ الزيارة فيه غير محفوظة (1) ، ولو كان محفوظاً لم يكن فيه حجة على محل النزاع، والمحفوظ في هذا عن أيوب السختياني ما رواه هشام الدستوائي وسفيان بن موسى عنه، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت فإنه من مات بها كنت له شفيعاً أو شهيداً)) هذا هو حديث أيوب عن نافع ليس فيه ذكر الزيارة أصلاً، وكذلك رواه الحسن بن أبي جعفر الجعفري، وهو ضعيف عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر ورواه وهيب عن أيوب، عن نافع مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه إسماعيل بن علية عن أيوب قال: نبئت عن نافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال موسى بن هارون، ووهيب وابن علية أثبت من الدستوائي، ومن الجعفري، ومن سفيان بن موسى، وقد ذكرنا ألفاظ هذا الحديث فيما تقدم، وذكرنا من رواه عن نافع من أصحابه، وحكينا ما ذكره الدارقطني وغيره في ذلك.
وقد وقف على هذا المعترض على ما ذكره الدارقطني في كتاب العلل من الاختلاف في إسناد الحديث ومتنه، ولم ينقل منه إلا طريقاً واحدة أخطأ فيه الراوي ولفظاً واحداص وهم فيه الناقل وأعرض عن ذكر الطرق الواضحة والألفاظ الصحيحة، وهل هذا إلا عين الخذلان أن ينظر الرجل في ألفاظ الحديث، وطرقه في موضع واحد، فينقل منها الضعيف السقيم، ويدع القوي الصحيح من غير بيان لذلك، ثم يعتل بأن النسخة التي نقل منها سقيمة، وهذا الحديث الذي نقله المعترض من كتاب العلل للدارقطني أخطأ رواية في إسناده ووهم في متنه.
أما خطؤه في إسناده فقوله عن عون بن موسى: وإنما هو سفيان بن موسى وهو شيخ من أهل البصرة، روى له مسلم في صحيح حديثاً واحداً متابعة يرويه عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أقيمت الصلاة ووضع العشاء فابدوا بالعشاء، وقد


(1) انظر ترجمة عون بن موسى في لسان الميزان لابن حجر لزاماً.
(1/95)

ذكر ابن أبي حاتم أنه سأل عنه أباه فقال: مجهول (1) ، وذكره ابن حبان في كتاب (2) الثقات.
وأما وهمه في متنه فقوله: من زارني إلى المدينة، ولفظ الزيارة في حديث أيوب عن نافع ليس بصحيح، والمعروف من حديثه عنه: من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل، وأصح منه اللفظ الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة، وقد سبق هذا الحديث وذكر ألفاظه والكلام على معناه بما فيه كفاية وبالله تعالى التوفيق.
قال المعترض
الحديث السادس: ((من زار قبري أومن زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً)) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (3) ، قال: وقد سمعت المسند المذكور كله متفرقاً على أصحاب ابن حنبل، ثم أطال بذكر إسناده إلى أبي داود الطيالسي، قال: حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي، قال: حدثني رجل من آل عمر، عن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: من زار قبري أو قال: من زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله عز وجل من الآمنين يوم القيامة.
والجواب أن يقال: هذا الحديث ليس بصحيح لانقطاعه وجهالة إسناده واضطرابه، ولأجل اختلاف الرواة في إسناده واضطرابهم فيه جعله المعترض ثلاثة أحاديث، وهو حديث واحد ساقط الإسناد، لا يجوز الاحتجاج به، ولا يصلح الاعتماد على مثله، كما سنبين إن شاء الله تعالى، وقد خرجه البيهقي في كتاب شعب الإيمان، وفي كتاب السنن الكبير.
وقال في كتاب السنن بعد تخريجه، هذا إسناد مجهول (4) ، قلت وقد خالف أبا


(1) قال ابن أبي حاتم سألت ابي عنه فقال: هو مجهول: انظر الجرح والتعديل 4/229، انظر الميزان أيضاً، 2/172.
(2) كتاب الثقات 8/288.
(3) انظر مسند الطيالسي حديث رقم 65 وقال في السند نوار بن ميمون وهو تصحيف والصواب كما هنا.
(4) انظر السنن الكبرى للبيهقي 5/245.
(1/96)

داود غيره في إسناده ولفظه، وسوار بن ميمون شيخه يقلبه بعض الرواة، ويقول ميمون بنسوار وهو شيخ مجهول لا يعرف بعدالة ولا ضبط ولا يشتهر بحمل العلم ونقله، وأما شيخ سوار في هذه الرواية، رواية ابي داود فإنه شيخ مهم،وهو أسوأ حالاً من المجهول، وبعض الرواة يقول فيه عن رجل من آل عمر كما في هذه الرواية، وبعضهم يقول عن رجل من ولد حاطب، وبعضهم يقول من آل الخطاب.
وقد قال البخاري في تاريخه ميمون بن سوار العبدي عن هارون أبي قزعة عن رجل من ولد حاطب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات في أحد الحرمين)) قاله يوسف بن راشد.
حدثنا وكيع حدثنا ميمون، هكذا سماه البخاري ميمون من رواية وكيع عنه ولم يذكر فيه عمر، وزاد فيه ذكر هارون وقال عن رجل من ولد حاطب، وفي هذا مخالفة لرواية أبي داود من وجوه.
وقال في حرف الهاء من التاريخ (1) : هارون أبو قزعة عن رجل من ولد حاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من مات في أحد الحرمين)) روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه.
وقال العقيلي في كتاب الضعفاء (2) : هارون بن قزعة مدني، روى عنه سوار بن ميمون حدثني آدم قال: سمعت البخاري يقول: هارون بن قزعة مدني لا يتابع عليه هكذا ذكر العقيلي هارون بن قزعة والذي في تاريخ البخاري هارون أبو قزعة، وقد يكون اسم أبي هارون قزعة وهارون يكنى بأبي قزعة.
ثم قال العقيلي: حدثنا محمد بن موسى، حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي، حدثنا عبد الملك بن إبراهيم الجدي، حدثنا شعبة عن سوار بن ميمون، عن هارن بن قزعة عن رجل من آل الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنين يوم القيامة)) .
قال العقيلي بعد ذكر هذا الحديث: والرواية في هذا لينة (3) . قلت هكذا في هذه


(1) لم أجده في الطبعة التي بين يدي ولكن يحتمل أن يكون فيها سقط فإن أكثر المتقدمين يثبتون تلك.
(2) الترجمة كالمصنف وابن عدي وابن حجر، والله أعلم.
انظر الضعفاء للعقيلي 4/361.
(3) الضعفاء للعقيلي 4/361.
(1/97)

الرواية عن رجل من آل الخطاب، وهو يوافق رواية الطيالسي، عن رجل من آل عمر وكأنه تصحيف من حاطب، والذي في تاريخ البخاري عن رجل من ولد حاطب، وليس في هذه الرواية التي ذكرها العقيلي ذكر عمر كما في رواية الطيالسي، وكذلك رواية وكيع التي ذكرها البخاري ليس فيها ذكر عمر أيضاً، فالظاهر أن ذكر وهم من الطاليسي وكذلك إسقاطه هارون من روايته وهم أيضاً، ومدار الحديث على هارون وهو شيخ مجهول لا يعرف له ذكر إلا في هذا الحديث، وقد ذكره أبو الفتح الأزدي، وقال: هو متروك الحديث لا يحتج به.
وقال أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي (1) في كتاب الضعفاء والمتروكين له هارون أبو قزعة: روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه قاله البخاري.
وقال أبو أحمد عدي في كتاب الكامل في معرفة الضعفاء وعلل الأحاديث (2) : هارون أبو قزعة سمعت ابن حماد يقول: قال البخاري: هارون أبو قزعة روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه، قال ابن عدي، وهارون أبو قزعة لم ينسب، وإنما روى الشيء الذي أشار إليه البخاري.
هذا جميع ما ذكره ابن عدي في ترجمة هارون، ولو كان عنده شيء من أمره غير ما قاله البخاري لذكره، كما هي عادته، فقد تبين أن مدار هذا الحديث على هارون أبي قزعة وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث الضعيف ولم يشتهر من حاله ما يوجب قبول خبره، ولم يذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل، ولا ذكره الحاكم أبو أحمد في كتاب الكنى، ولم يذكره النسائي في كتاب الكنى أيضاً: وقد تفرد بهذا الحديث عن هذا الرجل المبهم الذي لا يدري من هو ولا يعرف أين من هو، ومثل هذا لا يحتج به أحد ذاق طعم الحديث أو عقل شيئاً منه، هذا مع أن رواية عن هارون شيخ مختلف في أسمه غير معروف يحتمل العلم ولا مشهور بنقله ولم يوثقه أحد من الأئمة ولا قوى خبره أحد منهم، بل طعنوا فيه وردوه ولم يقبلوه.


(1) راجع ترجمته في الميزان 32/459 قال حمزة السهمي سألت الدارقطني عن الدولابي فقال:تكلموا فيه لما تبين من أمره الأخير، وأما في ترجمته من سؤالات السهمي للدارقطني رقم الترجمة 83: تكلموا فيه ما تبني من أمره إلا خير.
(2) انظر الكامل لابن عدي 7/2588 قال الذهبي في الميزان 4/288 هارون أبو قزعة، لا يعرف. قال الأزدي: متروك، وانظر أيضاً لسان الميزان للحافظ ابن حجر 6/183.
(1/98)

وقد خلط المعترض في هذه المواضع تخليطاً كثيراً، وجعل هذا الحديث الضعيف المضطرب ثلاث أحاديث، وأخذ يقويه على عادته في تقوية الضعيف، ثم أخذ يناقش من تكلم فيه ويبين حاله من الأئمة الحفاظ، وهذا دأب هذا المعترض يقوي الضعيف ويضعف القوي.
قال: وسوار بن ميمون روى عنه شعبة، وروايته عنه دليل على ثقته عنده فلم يبق في الإسناد من ينظر فيه إلا الرجل الذي من آل عمر، والأمر فيه قريب لا سيما في هذه الطبقة التي هي طبقة التابعين.
فيقال: لا نعرف رواية شعبة عن سوار إلا في هذا الحديث الضعيف المضطرب الإسناد، وقد زاد في روايته عنه على رواية الطيالسي ذكر هارون بن قزعة الجهول الذي لم يتابع على ما رواه، وأسقط ذكر عمر الذي ذكره الطيالسي، فإن كانت رواية شعبة عن سوار هي المحفوظة فالحديث غير صحيح لانقطاعه وجهالة رواته، فهو على التقديرين غير صحيح ولا ثابت، سواء صحت رواية شعبة عن سوار، أولم تصح، ولو روى شعبة خبراً عن شيخ له لم يعرف بعدالة ولا جرح عن تابعي ثقة عن صحابي كان لقائل أن يقول هو خبر جيد الإسناد، فإن رواية شعبة عن الشيخ مما يقوي أمره، وليس في إسناد خبره من يحتاج إلى النظر غيره، فأما إذا كان في إسناد الخبر الذي رواه شعبة من الرواة من لا يحتج به غير شيخه، كما في هذا الخبر الذي رواه عن سوار لم يلزم أن يكون صحيحاً ولا قوياً.
على أن الغالب على طريقة شعبة الرواية عن الثقات، وقد يروي عن جماعة من الضعفاء الذين اشتهر جرحهم والكلام فيهم الكلمة والشيء والحديث والحديثين وأكثر من ذلك، وهذا مثل روايته عن إبراهيم بن مسلم الهجري (1) وجابر الجعفي (2) وزيد بن الحواري


(1) قال النسائي في الضعفاء: ضعيف، كوفي، انظر الضعفاء الصغير للبخاري والكبير له أيضاً 1/326 والمجروحين لابن حبان 1/86 والجرح والتعديل 2/131 والكامل لابن عدي 1/214 وكذلك انظر الكاشف والمغني والميزان والتهذيب.
(2) تقدمت ترجمة جابر الجعفي.
(1/99)

العمي (1) وثوير بن أبي فاختة (2) ومجالد بن سعيد (3) وداود بنيزيد الأودي (4) ، وعبيدة بن معتب الضبي (5) ،ومسلم الأعور (6) ، وموسى بن عبيدة الربذي (7) ، ويعقوب بن عطاء بن أبي رباح (8) ،


(1) قال النسائي في الضعفاء: زيد العمي، ضعيف وانظر الجرح والتعديل 3/560 قال ابن حبان في المجروحين 1/306 لا يجوز الاحتجاج بخبره ولا كتبه إلا للاعتبار وانظر الميزان للذهبي 2/102 وترجمته في الكاشف والمغني والتهذيب واللسان.
(2) قال النسائي في الضعفاء: ليس بثقة انظر المجروحين لابن حبان 1/196 والجرح والتعديل 2/472 والتاريخ الكبير للبخاري 2/183 والميزان 1/375 والكاشف المغني والتهذيب.
(3) قال النسائي رحمه الله تعالى: مجالد بن سعيد كوفي ضعيف، وقال البخاري في الصغير: كان يحي القطان يضعفه وكان الشعبي لا يروي عنه عن الشعبي وقيس بن أبي حازم، وقال أحمد: يرفع كثيراً مما لا يرفعه الناس، انظري الميزان 3/438 والتاريخ الكبير للبخاري 8/9 وقال ابن جان في المجروحين 3/10 وكان رديء الحفظ يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل لا يجوز الاحتجاج به. انظر أيضاً الكاشف والتهذيب، وقال الدارقطني في الضعفاء، ليس بقوي.
(4) صوابه: (دارد بن يزيد) كما في المجروحين لابن حبان.
قال ابن حبان في المجروحين 1/284 كان ممن يقول بالرجعة وكان الشعبي يقول له ولجابر الجعفي لو كان لي عليكما سلطان ثم لم أجد إلا إبراً لشككتكما ثم غللتكما بها، قال: وكان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن داود بن يزيد. ونقل عن يحي بن معين وذكروا عنده داود الأودي فقال ضعيف، انظر التاريخ الكبير للبخاري 3/239 والضعفاء الكبير للعقيلي 2/40 والجرح والتعديل 2/437 والكامل 2/947.
(5) قال النسائي في الضعفاء: عبيدة بن معتب، ضعيف وكان قد تغير أنظر التاريخ الكبير للبخاري 6/137 والجرح والتعديل 6/94 والميزان 3/25 قال أحمد: تركوا حديثه أنظر أيضاً الكاشف والمغني والتهذيب واللسان.
(6) قال النسائي رحمه الله: مسلم بن كيسان الأعور الملائي: متروك الحديث. وقال البخاري في الكبير 7/271 يتكلمون فيه، انظر المجروحين لابن أبي حاتم 3/8 وقال تركه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والجرح والتعديل 8/192 والكيزان 4/106 راجع أيضاً الكاشف والمغني واللسان والتهذيب.
(7) قال النسائي رحمه الله تعالى: موسى بن عبيدة: أبو عبد العزيز الربذي، ضعيف، وقال ابن أبي حاتم 8/151-152 قال أحمد: لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة، وقال ابن معين: موسى بن عبيدة لا يحتج بحديثه، انظر المجروحين لابن أبي حاتم 2/234 والميزان 4/213، والضعفاء والمتروكين للعقيلي 4/160 والكامل لابن عدي 6/2333.
(8) قال الذهبي رحمه الله في الميزان 4/453 ضعفه أحمد وقال أبو حاتم، ليس بالقوي وعند ابن معين: ضعيف انظر ترجمته في الجرح والتعديل 9/211 والضعفاء والمتروكين للعقيلي 4/445 والكامل لابن عدي 7/2601 وترجم له البخاري في الكبير 8/398 وسكت عنه.
(1/100)

وعلي بن زيد بن جدعان (1) ، وليث بن أبي سليم (2) ، وفرقد السخي (3) ، وغيرهم ممن تكلم فيه ونسب إلى الضعف وسوء الحفظ وقلة الضبط ومخالفة الثقات.
وسوار بن ميمون إن صحت رواية شعبة عنه من هذا النمط، بل هو دون كثير من هؤلاء الذين سميناهم ممن روى عنهم، وهو متكلم فيه، فإن بعض هؤلاء له حديث كثير وروايته تصلح للمتابعة والاعتضاد والاستشهاد (4) .
وأما سوار بن ميمون فإنه شيخ مجهول الحال قليل الرواية، بل لا يعرف له رواية إلا هذا الحديث الضعيف المضطرب، ومع هذا قد اختلف الرواة في أسمه ولم يضبطوه فبعضهم يقول ميمون بن سوار وبعضهم يقول: بالقلب سوار بن ميمون، والله أعلم هل كان اسمه سواراً أو ميموناً، فكيف يحسن الاحتجاج بخبر منقطع مضطرب نقلته غير معروفين وروائه في عداد المجهولين والله الموفق.
ثم قول المعترض، ((فلم يبق في الإسناد من ينظر فيه إلا الرجل الذي من آل عمر والأمر فيه قريب)) كلام ساقط جداً، وقد بينا الاضطراب في هذا الرجل والاختلاف


(1) قال الذهبي رحمه الله تعالى في الميزان 3/127، قال شعبة: حدثنا علي بن زيد وكان رافعاً وقال الغلاس كان يحيى القطان يتقن الحديث عن علي بن زيد وقال أحمد ضعيف، وعن يحي: ليس بذاك القوي، وقال ابن أبي حاتم في المجروحين 2/103 وكان يهم في الأخبار ويخطئ في الآثار حتى كثر ذلك في أخباره وتبين فيها المناكير التي كان يرويها عن المشاهير فاستحق ترك الاحتجاج به، وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 6/186، سألت أبي عن علي بن زيد فقال ليس بقوي يكتب حديثه ولا يحتج به وهو أحب إلى من يزيد بن أبي زياد وكان ضريراً أو كان يتشيع، وسألت أبا زرعة عن علي بن زيد بن جدعان فقال ليس بقوي انظر أيضاً الضعفاء والمتروكين للعقيلي 2/229 والكامل لابن عدي 5/1840 والبخاري في الكبير 6/275.
(2) تقدمت ترجمته برقم 129 إلى 132.
(3) صوابه: فرقد السبخي:
قال النسائي رحمه الله تعالى: فرقد السبخي: ضعيف وقال البخاري في الصغير ص192، عن سعيد بن جبير في حديثه مناكير انظر أيضاً ترجمته في الكبير له 7/131 وقال أبو حاتم: ليس بالقوي انظر الجرح والتعديل 7/81-82 والميزان 3/345 وقال الدارقطني ضعيف عن مرة الطيب والنخعي كما في الضعفاء والمتروكين له والمجروحين لابن حبان 2/204 والضعفاء والمتروكين للعقيلي 3/458 والكامل لابن عدي 6/2053.
(4) قلت قد يروي التابعي عن التابعي مثله والآخر عن مثله إلى ستة أو سبعة كما هو الحال في فضل سورة (قل هو الله أحد))
(1/101)

في إسناد حديثه، وقول من قال فيه عن رجل م ولد حاطب وكون الرجل المبهم الذي هو أسوأ حالاً من المجهول في إسناد الحديث هو من بعض أسباب ضعفه.
والحاصل أن هذا الحديث الذي رواه هذا الرجل المبهم حكم عليه بالضعف وعدم الصحة لأمور متعددة وهي: الاضطراب والاختلاف والانقطاع والجهالة والإبهام، فقول المعترض عن الرجل المبهم: ((والأمر فيه قريب)) كلام لا ينفعه ولا يحصل غرضه، بل لو ناقضه غيره، وقال، والأمر فيه بعيد لكان كلامه أقرب إلى الصحة وأبعد عن الخطأ من كلامه والله أعلم.
ثم قال المعترض: وأما قول البيهقي هذا إسناد مجهول، فإن كان سببه جهالة الرجل الذي من آل عمر فصحيح، وقد بينا قرب الأمر فيه، وأن كان سببه عدم علمه بحال سوار بن ميمون فقد ذكرنا رواية شعبة عنه وهي كافية.
والجواب أن يقال: هذا الذي ذكره البيهقي هو أحد أسباب رد الحديث وضعفه وعدم قبوله، وهو جهالة إسناده، وهذه الجهالة ثابتة للإسناد، محكوم بها عليه من جهة الرجل المبهم، ومن جهة الراوي عنه هارون بن أبي قزعة، ومن جهة سوار بن ميمون أيضاً فالإسناد محكوم عليه بالجهالة لإجماع هؤلاء المجهولين في سنده، مع أن الرجل المبهم فيه يكفي في الحكم عليه بالجهالة، فكيف إذا كان معه مجهول غيره.
وقول المعترض: أنه قد بين قرب الأمر فيه، دعوى مجردة غير مطابقة فتقابل بالمنع والرد وعدم القبول، وقد تكلمنا على رواية شعبة عن سوار بما فيه كفاية وبينا أن الحديث ليس بصحيح سواء ثبتت روايته عنه أولم تثبت ونبهنا على أن شعبة قد يروي عمن لا يحتج به من الرواة الكلمة والشيء والخبر والخبرين وأكثر من ذلك والله أعلم.
ثم قال المعترض
الحديث السابع: ((من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة)) رواه أبو جعفر العقيلي وغيره من رواية سوار بن ميمون المتقدم على وجه آخر غير ما سبق، أخبرنا الحافظ أبو محمد إذناً قال: أنبأنا ابن الشبرازي في كتابه، أنبأنا ابن عساكر سماعاً، أنبأنا الشحامي، أنبأنا البيهقي، أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني علي بن عمر الحافظ، حدثنا أحمد بن محمد الحافظ، حدثني داود بن يحي، قال ابن عساكر، وأخبرنا أبو البركات بن الأنماطي، أنبأنا أبو بكر الشامي، أنبأنا أبو الحسن العتيقي، أنبأنا ابن الدخيل، حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو العقيلي، حدثنا محمد بن موسى، قالا: حدثنا
(1/102)

أحمد بن الحسن الترمذي، حدثنا عبد الملك بن إبراهيم الجدي، حدثنا شعبة عن سوار بن ميمون عن. .
وفي حديث الشاحمي حدثنا هارون بن قزعة عن رجل من آل الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة)) زاد الشحامي، ومن سكن المدينة وصبر على بلائها كنت بلائها كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة، وقالا: ((ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنين)) وقال الشحامي: من الأمنين يوم القيامة.
قال: وهارون بن قزعة ذكره ابن حبان في الثقات، والعقيلي لما ذكره في كتابه لم يذكر فيه أكثر من قول البخاري أنه لا يتابع عليه فلم يبق فيه إلا الرجل المبهم وإرساله وقوله فيه من آل الخطاب، كذا وقع في هذه الرواية وهو يوافق قوله في رواية الطيالسي من آل عمر، وقد أسنده الطيالسي عن عمر كما سبق، لكن أخشى أن يكون الخطاب تصحيفاً من حاطب، فإن البخاري لما ذكره في التاريخ قال: هارون أبو قزعة، عن رجل من ولد حاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من مات في أحد الحرمين)) روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه، وقال ابن حبان: إن هارون بن قزعة يروي عن رجل من ولد حاطب المراسيل، وعلى كلا التقديرين، فهو مرسل جيد، وأما قول الأذدي أن هارون: متروك الحديث لا يحتج به فلعل مسنده فيه ما ذكره البخاري والعقيلي وبالغ في إطلاق هذه العبارة، لأنها إنما تطلق حيث يظهر من حال الرجل ما يستحق به الترك وقد عرفت أن ابن حبان ذكره في الثقات، وابن حبان أعلم من الأزدي وأثبت، انتهى ما ذكره المعترض.
والجواب أن يقال: هذا الحديث السابع الذي ذكره هو الحديث السادس بعينه فجعل المعترض له حديثين بل ثلاثة أحاديث، وهو حديث واحد ضعيف مضطرب مجهول الإسناد من أوهى المراسيل وأضعفها هو من باب التهويل والتكثير بما لا يحتج به، وما كفاه هذا حتى أخذ يقويه ويناقش من رده ويتكلم فيه، وقد علم أن ضعفه حصل بأمور متعددة وأشياء مختلفة، وهي: الاضطراب والاختلاف والجهالة والإرسال والانقطاع، وبعض هذه الأمور تكفي في ضعف الحديث ورده وعدم الاحتجاج به عند أئمة هذا الشأن فكيف باجتماعها في خبر واحد.
وقوله: إن هارون بن قزعة ذكره ابن حبان في الثقات، ليس فيه ما يقتضي صحة الحديث الذي رواه ولا قوته، وقد علم أن ابن حبان ذكر في هذا الكتاب الذي جمعه في الثقات عدداً كبيراً وخلقاً عظيماً من المجهولين الذين لا يعرف هو ولا غيره أحوالهم،وقد
(1/103)

صرح ابن حبان بذلك في غير موضع من هذا الكتاب، فقال في الطبعة الثالثة (1) : سهل يروي عن شداد بن الهاد، روى عنه أبو يعقوب ولست أعرفه، ولا أدري من أبوه، هكذا ذكر هذا الرجل في كتاب الثقات، ونص على أنه لا يعرفه.
وقال أيضاً حنظلة (2) شيخ يروي المراسيل لا أدري من هو؛ روى ابن المبارك عن إبراهيم بن حنظلة عن أبيه، وهكذا ذكره لم يزد، وقال أيضاً: الحسن أبو عبد الله (3) شيخ يروي المراسيل، روى عنه أيوب النجار لا أدري من هو ولا ابن منهو، وقال أيضاً جميل (4) شيخ يروي عن أبي المليح بن أسامة، روى عنه عبد الله بن عون، لا أدري من هو ولا ابن من هو.
وقد ذكر ابن حبان في هذا الكتاب خلفاً كثيراً من هذا النمط، وطريقته فيه أنه يذكر من لم يعرفه بجرح، وإن كان مجهولاً لم يعرف حاله، وينبغي أن ينبه لهذا ويعرف أن توثيق ابن حبان للرجل بمجرد ذكره في هذا الكتاب من أدنى درجات التوثيق، على أن ابن حبان قد اشترط في الاحتجاج بخبر من يذكره في هذا الكتاب شروطاً ليست موجودة في هذا الخبر الذي رواه هارون، فقال في أثناء كلامه، والعدل: من لم يعرف منه الجرح،إذ الجرح ضد التعديل، فمن لم يعرف بجرح فهو عدل يتبين ضده (5) ، إذ لم يكلف الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم، وإنما كلفوا الحكم بالظاهر من الاشياء غير المغيب عنهم (6) .
هذه طريقة ابن حبان في التفرقة بين العدل وغيره، وقد وافقه عليها بعضهم وخالفه الأكثرون، وليس المقصود هنا تحرير الكلام على هذا، وإنما المراد التنبيه على إصلاح ابن حبان وطريقته، قال (7) : فكل ن أذكر في الكتاب فهو صدوق يجوز الاحتجاج بخبره إذا


(1) انظر كتاب الثقات له 6/406.
(2) انظر كتاب الثقات أيضاً 6/226.
(3) انظر الثقات أيضاً 6/170.
(4) انظر الثقات 6/146.
(5) قلت بل يزاد مع العدالة الحفظ.
(6) هذه القاعدة انتقدها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه لسان الميزان، ورد عليه وذكر هنالك أن ابن عبد الهادي ذكرها في ” في الصارم المنكي ” انظر لسان الميزان 1/14-15 وكلام ابن حبان هذا ذكره في مقدمة كتابه الثقات 1/13.
(7) انظر مقدمة الثقات 1/11-12.
(1/104)

تعرى خبره عن خصال خمس، فإذا وجد خبر منكر عن واحد ممن ذكرته في كتابي هذا فإن ذلك الخبر لا ينفك من إحدى خمس خصال إما أن يكون فوق الشيخ الذي ذكرت اسمه في كتابي هذا في الإسناد رجل ضعيف لا يحتج بخبره، أو يكون دونه رجل واه لا يحتج بخبره، أو الخبر يكون مرسلاً لا يلزمنا به الحجة، أو يكون منقطعاً لا تقوم بمثله الحجة، أو يكون في الإسناد رجل مدلس لم يبين سماعه في الخبر من الذي سمعه منه.
هذا كله كلام ابن حبان في كتاب الثقات، ثم أنه قال (1) : فيه هارون أبو قزعة يروي عن رجل من ولد حاطب المراسيل، كذا قال، ولم يذكر لهارون شيخاً غير هذا الرجل ولد حاطب، فلو قدرنا الرجوع إلى توثيق ابن حبان لهارون لم يلزم من ذلك الحكم بصحة خبره المذكور لفقد أكثر الشروط التي ذكرها ابن حبان في جواز الاحتجاج بالخبر فإن الشيخ الذي فوق هارون مبهم لا يحتج بخبره، والشيخ الذي دونه أيضاً لا يحتج بخبره والخبر مع هذا من أوهى المنقطعات، وأضعف المراسيل، فلو كان توثيق ابن حبان لهارون مقبولاً لم يكن في ذلك ما يقتضي صحة خبره المذكور فكيف وطريقة ابن حبان في هذا قد عرف ضعفها مع أنه قد ذكر في كتاب الثقات خلقاً كثيراً، ثم أعاد ذكرهم في المجروحين وبين ضعفهم وذلك من تناقضه وغفلته، أو من تغير اجتهاده وقد ذكر الشيخ أبو عمر بن الصلاح عنه أنه غلط الغلط الفاحش في تصرفه.
وأما قول المعترض في أثناء كلامه على الحديث: وعلى كلا التقديرين فهو مرسل جيد فإن قوله ساقط، بل هو من أضعف المراسيل وأسقطها، وكيف يكون مرسلاً جيداً ومرسله مجهول العين والحال واسم الأب، غير معروف بنقل العلم ولا مشهور بحمله، بل لم يأت ذكره إلا في هذا الحديث الضعيف المضطرب.
ولو اطلع هذا المعترض على بعض كلام الشافعي وغيره من الأئمة في الاحتجاج ببعض المراسيل وترك الاحتجاج ببعضها لم يقل مثل هذا القول الساقط الذي يعرف بطلانه أدنى من يعد من طلبة الحديث.
وها أنا أذكر طرفاً من كلام الأئمة على حكم المراسيل ليطلع عليه من أحب الوقوف عليه، ويتبين له أن قول المعترض على هذا الخبر أنه مرسل جيد، من أظهر الكلام بطلاناً. قال ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل.


(1) انظر الثقات لابن حبان 7/580
(1/105)

باب ما ذكر في الأسانيد المرسلة أنها لا تثبت بها الحجة
حدثنا أحمد بن سنان قال: كان يحي بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً ويقول، هو بمنزلة الربح، ويقول: هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشيء عقلوه، حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل، حدثنا علي بن المديني، قال: قلت ليحيى بن سعيد سعيد بن المسيب عن أبي بكر قال: ذاك شبه الريح، وبه قال: حدثنا علي بن المديني قال: مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء بكثير،، كان عطاء يأخذ عن كل ضرب.
وبه قال: حدثنا علي يعني ابن المديني قال: سمعت يحيى يقول: مرسلات سعيد بن جبير أحب إلي من مرسلات عطاء قلت: مرسلات مجاهد أحب إليك أو مرسلات طاووس؟ قال: ما أقربهما، وبه قال: سمعت يحيى يقول: مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلى من سفيان عن إبراهيم، قال يحيى: وكل ضعيف.
حدثنا صالح حدثنا علي قال: سمعت يحيى يقول: سفيان عن إبراهيم شبه لا شيء، لأنه لو كان فيه إسناد لصاح به، وبه قال: سمعت يحيى يقول: مرسلات أبي إسحاق يعني الهمداني عندي شبه لا شيء، والأعمش والتيمي، ويحيى بن أبي كثير يعني مثله، وبه قال: سمعت يحيى يقول: مرسلات ابن أبي خالد يعني إسماعيل بن أبي خالد ليس بشيء ومرسلات عمرو بن دينار أحب إلى، وبه قال: سمعت يحي يقول: مرسلات معاوية بن قرة أحب إلي من مرسلات زيد بن أسلم وبيه قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: مرسلات ابن عيينة شبه الريح، ثم قال: أي والله وسيفان بن سعيد، قلت: مرسلات مالك بن أنس، قال: هي أحب إلي، ثم قال: ليس في القوم أصح حديثاً من مالك، وبه قال: سمعت يحي يعني ابن سعيد القطان يقول: كان شعبة يضعف إبراهيم عن علي.
(1/106)

وقال ابن أبي حاتم:سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: لا يحتج بالمراسيل، ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة (1) ، وروى الفضل بن زياد عن الإمام أحمد بن حنبل قال: مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، فإنهما كان يأخذان عن كل أحد وروى عباس الدوري، عن يحي بن معين،قال: مراسيل الزهري ليس شيء.
وقال البيهقي في كتاب المدخل: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب يقول: سمعت العباس الدوري يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: أصح المراسيل مراسيل سعيد بن المسيب، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا حنبل بن إسحاق، قال: سمعت عمي أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول: مرسلات سعيد بن المسيب صحاح، لا ترى أصح من مرسلاته أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبوالعباس محمد بن يعقوب، أنبأنا الربيع بن سليمان أنبأنا الشافعي قال (2) .
والمنقطع مختلف فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التابعين فحدث حديثاً منقطعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر عليه بأمور منها أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث، فإن شركه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معنى ما روى، كانت هذه دلالة على صحة ما قيل عنه وحفظه، وإن الفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما يتفرد به من ذلك ويعتبر عليه بأن ينظر هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم من غير رجاله الذين قبل عنهم، فإنه وجد ذلك كانت دلالة تقوي له مرسله وهي أضعف من الأولى، وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً له، فإن وجد يوافق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كان هذا دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله تعالى، وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمي من روي عنه لم يسم مجهولاً، ولا مرغوباً عن الرواية عنه فيستدل بذلك على صحته فيما روي عنه، ويكون إذا أشرك أحد من الحفاظ في حديث لم يخالفه، فإن خالفه ووجد حديثه أنقص كتاب في هذه دلائل


(1) انظر مقدمة كتاب المراسيل لابن أبي حاتم ص13-15.
(2) كلام الشافعي إلى منتهاه في الرسالة من ص461 – 465.
(1/107)

على صحة مخرج حديثه، ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه حتى لا يسع أحداً قبول مرسله.
قال: وإذا وجدنا الدليل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة ثبتت بها ثبوتها بالمتصل، وذلك أن معنى المنقطع مغيب يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب عن الرواية عنه إذا سمي، وإن بعض المنقطعات وإن وافقه مرسل مثله فقد يحتمل أن يكون مخرجها واحداً من حيث لو سمي لم يقبل، وإن قول بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال برأيه: لو وافقه لم يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نظرنا فيها، ويمكن أن يكون إنما غلط به حين سمع قول بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوافقه ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من بعض الفقهاء.
قال الشافعي: فأما من بعد كبار التابعين فلا أعلم واحداً منهم يقبل مرسله لأمور:
أحدها: أنهم تجوزوا فيمن يروون عنه.
والآخر: أنهم تؤخذ عليهم الدلائل فيما أرسلوا لضعف مخرجه، والآخر كثرة الإحالة في الأخبار، وإذا كثرت الإحالة كان أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه.
هذا كله كلام الشافعي وقد تضمن أموراً:
أحدها:أن المرسل إذا أسند من وجه آخر دل ذلك على صحة المرسل.
الثاني: أنه إذا لم يسند من وجهة آخر نظر هل يوافقه مرسل آخر أم لا، فإن وافقه مرسل آخر قوي، لكنه يكون أنقص درجة من المرسل الذي أسند من وجه آخر.
الثالث: أنه إذا لم يوافقه مرسل آخر ولا أسند من وجه لكنه وجد عن بعض الصحابة قول له يوافق هذا المرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم دل على أن له أصلاً ولا يطرح.
الرابع: أنه إذا وجد خلق كثير من أهل العلم يفتون بما يوافق المرسل دل على أن له أصلاً.
الخامس: أن ينظر في حال المرسل، فإن كان إذا سمي شيخه سمي ثقة وغير ثقة لم يحتج بمرسله، وإن كان إذا سمى لم يسم إلا ثقة لم يسم مجهولاً، ولا ضعيفاً مرغوباً الرواية عنه كان ذلك دليلاً على صحة المرسل، وهذا فصل النزاع في المرسل وهو من أحسن ما يقال فيه.
(1/108)

السادس: أن ينظر إلى هذا المرسل له، فإن كان إذا شرك غيره من الحفاظ في حديث وافقه فيه، ولم يخالف، دل ذلك على حفظه، وإن خالفه ووجد حديثه أنقص، إما نقصان رجل يؤثر في اتصاله أو نقصان رفعه بأن يقفه، أو نقصان شيء من متنه كان في هذا دليل على صحة مخرج حديثه، وإن له أصلاً، فإن هذا يدل على حفظه وتحريه بخلاف ما إذا كانت مخالفته بزيادة، فإن هذا يوجب التوقف والنظر في حديثه.
وهذا دليل من الشافعي رضي الله عنه على أن زيادة الثقة عنده لا يلزم أن تكون مقبولة مطلقاً، كما يقوله كثير من الفقهاء من أصحابه وغيرهم، فإنه اعتبر أن يكون حديث هذا المخالف أنقص من حديث من خالفه ولم يعتبر المخالف بالزيادة وجعل نقصان هذا الرواي من الحديث دليلاً على صحة مخرج حديثه، وأخبر أنه متى خالف ما وصف أضر ذلك بحديثه، ولو كانت الزيادة عنده مقبولة مطلقاً لم يكن مخالفته بالزيادة مضراً بحديثه.
السابع: أن المرسل العاري عن هذه الاعتبارات والشواهد التي ذكرها ليس بحجة عنده.
الثامن: أن المرسل الذي حصلت فيه هذه الشواهد أو بعضها يسوغ الاحتجاج به ولا يلزم لزوم الحجة بالمتصل وكأنه رضي عنه سوغ الاحتجاج به ولم ينكر على مخالفه.
التاسع: أن مأخذ رد المرسل عنده إنما هو احتمال ضعف الواسطة، وأن المرسل لو سماه لبان أنه لا يحتج به، وعلى هذا المأخذ، فإذا كان المعلوم من عادة المرسل أنه إذا سمي لم يسم إلا ثقة، ولم يسم مجهولاً كان مرسله حجة، وهذا أعدل الأقوال في المسألة وهو مبني على أصل وهو أن رواية الثقة عن غيره هل هي تعديل له أم لا.
وفي ذلك قولان مشهوران هما:روايتان عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، والصحيح: حمل الروايتين على اختلاف حالين، فإن الثقة إذا كان من عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كانت روايته عن غير تعديلاً له،إذ قد علم ذلك من عادته، وإن كان يروي عن الثقة وغيره لم تكن روايته تعديلاً لمن روى عنه وهذا التفصيل اختيار كثير من أهل الحديث والفقه والأصول،وهو صحيح.
العاشر: إن المرسل من بعد كبار التابعين لا يقبل ولم يحك الشافعي عن أحد قبوله لتعدد الوسائط ولأنه لو قبل لقبل مرسل المحدث اليوم وبينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرة، وهذا لا يقوله أحد من أهل الحديث.
(1/109)

إذا عرفت هذا ظهر لك خطأ المعترض في قوله عن خبر هارون أبي قزعة عن رجل من ولد حاطب أنه مرسل جيد، وتبين لك أن مثل هذا القول لم يقله أحد من أئمة أهل الحديث، ويكف يكون مرسلاً جيداً، ومرسله ليس بمعروف أصلاً، بل هو مجهول العين، والحال، والبلد، والاسم، واسم الأب، وراويه عنه مجهول لم يتابع على ما رواه، وراويه عنه أيضاً مجهول لم يعرف من حاله ما يوجب قبول روايته، بل قد اختلف الرواة في اسمه، واسم أبيه، ولا يعرف ذكره في غير هذا الخبر المرسل الضعيف المضطرب الذي رده الأئمة وطعنوا فيه ولم يقبلوه، ولم نعلم أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين قوي هذا الخبر واحتج به غير هذا المعترض على شيخ الإسلام، وجميع ما تفرد به خطأ فاعلم ذلك والله الموفق.
ثم قال المعترض
وقد روى عن هارون بن قزعة أيضاً مسنداً بلفظ آخر: وهو الحديث الثامن: ((من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حاتي)) رواه الدارقطني وغيره، أخبرنا الحافظ أبو محمد الدمياطي سماعاً عليه في كتاب السنن للدارقطني، قال: أنبأنا الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل، أنبأنا الويرج، أنبأنا الأخشيد، أنبأنا إبراهيم بن عبد الرحيم، أنبأنا الدارقطني، حدثنا أبو عبيد والقاضي أبو عبد الله، وابن مخلد قالوا: حدثنا محمد بن الوليد البسري، حدثنا وكيع، حدثنا خالد بن أبي خالد، وأبو عون، عن الشعبي والأسود بن ميمون، عن هارون أبي قزعة عن رجل من آل حاطب، عن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن مات بأحد الحرمين بعث من الأمنين يوم القيامة)) .
هكذا هو في سنن الدارقطني، وأنبأنا به أيضاً عبد المؤمن، أنبأنا ابن الشيرازي أنبأنا ابن عساكر، أنبأنا قراتكين التركي، أنبأنا الجوهري، أنبأنا علي بن محمد بن لؤلؤ، أنبأنا زكريا الساجي، قال ابن عساكر: وأنبأ أحمد بن محمد البغدادي، أنبأ ابن شكرويه، ومحمد بن أحمد السمسار، قالا: أنبأنا إبراهيم بن عبد الله، أنبأنا المحاملي قال: حدثنا محمد بن الوليد البسري، حدثنا وكيع، حدثنا خالد بن أبي خالد وابن عون عن الشعبي والأسود بن ميمون، عن هارون أبي قزعة، وأنبأ عبد المؤمن أيضاً أنبأ أبو نصر، أنبأ ابن عساكر، أنبأ علي بن إبراهيم الحسيني، أنبأنا رشاء بن نظيف المقري، أنبأنا المحسن بن إسماعيل الضراب، أنبأنا أحمد بن مروان المالكي، حدثنا زكريا بن عبد الرحمن البصري، حدثنا محمد بن الوليد، حدثنا وكيع بن الجراح، عن خالد
(1/110)

وابن عون، عن هارون بن أبي قزعة، مولى حاطب، عن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات في أحد الحرمين يبعث يوم القيامة من الآمنين)) .
كذا وقع في رواية أحمد بن مروان المالكي، وهو صاحب المجالسة: عن هارون عن حاطب، والذين رووا عن رجل، عن حاطب كما تقدم أولى بأن يكون الصواب معهم، انتهى ما ذكره المعترض.
والجواب أن يقال: هذا الحديث الذي جعله حديثاً ثامناً هو بعينه الحديث السادس والسابع فهو حديث واحد ضعيف مضطرب الإسناد وهذه الرواية التي ذكرها تزده إلا اضطراباً في الإسناد، وفي المتن أيضاً، وقد خرجها البيهقي في كتاب (شعب الإيمان) من طريق الدارقطني، ثم قال: كذا وجدته في كتابي، وقال غيره: سوار بن ميمون: وقيل ميمون بن سوار، ووكيع هو الذي يروي عنه أيضاً وفي تاريخ البخاري ميمون بن سوار العبدي، عن هارون ابن قزعة، عن رجل من ولد حاطب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات في أحد الحرمين)) قال يوسف بن راشد: حدثنا وكيع، حدثنا ميمون.
والحاصل أن هذه الرواية المذكورة عن محمد بن الوليد، عن وكيغ لم تزد الحديث إلا ضعفاً واضطراباً في إسناده، وفي لفظه، فالحديث حديث واحد ضعيف مجهول الإسناد مضطرب اضطراباً شديداً، ومداره على هارون أبي قزعة، وقيل ابن قزعة، وبعض الرواة يذكره وبعضهم يسقطه، وشيخه الرجل المبهم بعضهم يذكره وبعضهم يسقطه وبعضهم يقول فيه: عن رجل من آل عمر، وبعضهم يقول:عن رجل من آل الخطاب، وبعضهم يقول: عن رجل من ولد حاطب، ثم بعضهم يسنده عن عمر، وبعضهم يسنده عن حاطب، وبعضهم يرسله ولا يسنده، لا عن حاطب، ولا عن عمر وهو الذي ذكره البخاري وغير واحد.
ثم الراوي عن هارون يسميه بعض الرواة سوار بن ميمون ويقلبه بعضهم فيقول ميمون بن سوار، ويسميه بعضهم الأسود بن ميمون، ولا يرتاب من عنده أدنى معرفة بعلم المنقولات أن مثل هذا الاضطراب الشديد من أقوى الحجج وأبين الأدلة على ضعف الخبر وسقوطه ورده وعدم قبوله، وترك الاحتجاج به، ومع هذا الاضطراب الشديد في الإسناد فاللفظ مضطرب أيضاً اضطراباً شديداً مشعراً بالضعف وعدم الضبط.
وأما ما وقع من الزيادة في الإسناد عن وكيع عن خالد بن أبي خالد، وأبي عون أو
(1/111)

ابن عون عن الشعبي، أو بإسقاط الشعبي، فإنها زيادة منكرة غير محفوظة، وليس للشعبي مدخل في إسناد هذا الحديث، وخالد بن أبي خالد، وأبو عون أو ابن عون قد ذكر في الرواية الأولى أنهما يرويان عن الشعبي، وفي الأخرى أنهما يرويان عن هارون بن أبي قزعة ولم يذكر في الأولى عمن أسند الشعبي الحديث وأسقط في الآخر ذكره بالكلية وذكر الرجل الذي يروي عنه هارون الحديث، وكل ذلك مشعر بشدة الضعف وعدم الضبط.
وقوله عن خالد بن أبي خالد وهم،وإنما هو ابن أبي خلده، قال البخاري في تاريخه (1) ، خالد بن أبي خلدة الحنفي الأعور سمع الشعبي وإبراهيم، وروى عنه الثوري ومروان بن معاوية منقطع.
وقال ابن أبي حاتم (2) : خالد بن أبي خلده الحنفي الأعور، روى عن الشعبي وإبراهيم النخعي وذر روى عنه الثوري وابن عيينة ومروان بن معاوية سمعت أبي يقول ذلك.
والحاصل: أن ذكر هذه الزيادة المظلمة في الإسناد لم تزد في الحديث قوة، بل لم تزده إلا ضعفاً واضطراباً، فقد تبين أن هذا الحديث الذي احتج به المعترض على شيخ الإسلام وجعله ثلاثة أحاديث هو حديث واحد غير صحيح، ولو فرض أنه حديث صحيح ثابت لم يكن فيه دلالة على غير الزيادة على الوجه المشروع، وقد قدمنا غير مرة أن شيخ الإسلام لم ينكر الزيادة الشرعية ولم ينهه عنها ولم يكرها، بل ندب إليها واستحبها وحض على فعلها.
وقد قال في أثناء كلامه في الجواب عما اعترض به عليه بعض المالكية بعد أن ذكر لفظنه فقال (3) : قال المعترض: وورد في زيادة قبره أحاديث صحيحة وغيرها مما لم تبلغ درجة الصحيح، لكنها يجوز الاستدلال بها على الأحكام الشرعية ويحصل بها الترجيح.
قال: والجواب من وجوه:


(1) هو كما قال ابن عبد الهادي خالد بن أبي خلدة انظر التاريخ الكبير للبخاري 3/145.
(2) انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/327.
(3) انظر الرد على الأجنائي ص86-110.
(1/112)

أحدهما: أن يقال لو ورد في ذلك ما هو صحيح لكان إنما يدل على مطلق الزيادة وليس في جواب الاستفتاء نهي عن مطلق الزيادة ولا حكى في ذلك نزاع في ذلك الجواب، وإنما فيه ذكر النزاع فيمن لم يكن سفره إلا لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين وحينئذ فلو كان في هذا الباب حديث صحيح لم يتناول محل النزاع ولا فيه رد على ما ذكره المجيب من النزاع والإجماع.
الثاني: أنه لو قدر أنه ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة لكان المراد بها هو المراد بقول من قال من العلماء أنه يستحب زيارة قبره ومرادهم بذلك السفر إلى مسجده، وفي مسجده يسلم عليه ويصلي عليه ويدعي له ويثني عليه، ليس المراد أنه يدخل إلى قبره ويصل إليه، وحينئذ فهذا المراد قد استحبه المجيب، وذكر أنه مستحب بالنص والإجماع، فمن حكى عن المجيب أنه لا يستحب ما استحبه علماء المسلمين من زيارة قبره على الوجه المشروع، فقد استحق ما يستحقه الكاذب المفتري.
وإذا كان يتسحب هذا وهو المراد بزيارة قبره، فزيارة قبره بهذا المعنى، من مواقع الإجماع لا من موارد النزاع.
الثالث: أن نقول قول القائل: أنه ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة قول لم يذكر عليه دليلاً، فإذا قيل له: لا نسلم أنه ورد في ذلك حديث صحيح احتاج إلى الجواب وهو لم يذكر شيئاً من تلك الأحاديث كما ذكر قوله: ((كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) (1) وكما ذكر زيارته لأهل البقيع وأحد فإن هذا صحيح، وهنا لم يذكر شيئاً من الحديث الصحيح فبقي ما ذكره دعوى مجردة تقابل بالمنع.
الرابع: أن نقول: هذا قول باطل لم يقله أحد من علماء المسلمين العارفين بالصحيحين، وليس في الأحاديث التي رويت بلفظ زيارة قبره حديث صحيح عند أهل المعرفة، ولم يخرج أرباب الصحيح شيئاً من ذلك ولا أرباب السنن المعتمدة كسنن أبي داود والنسائي، والترمذي، ونحوهم، ولا أهل المسانيد التي من هذا الجنس كمسند أحمد وغيره، ولا في موطأ مالك ولا في مسند الشافعي، نحو ذلك شيء من ذلك،


(1) الحديث رواه مسلم 2/672 و 3/1563، 1564 وأبو داود 4/97، والنسائي 8/310 من حديث بريدة بن الحصيب وروى عن ابي سعيد الخدري، رواه أحمد في مسنده 3/38 ومالك 3/836 وبحديث صحيح.
(1/113)

ولا احتج إمام من الأئمة المسلمين كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد وغيرهم بحديث فيه ذكر زيارة قبره، فكيف يكون في ذلك أحاديث صحيحة ولم يعرفها أحد من أئمة الدين ولا علماء الحديث، ومن أين لهذا وأمثاله أن تلك الأحاديث صحيحة وهو لا يعرف هذا الشأن.
الوجه الخامس:قوله وغيرها مما لم تبلغ درجة الصحيح لكنها يجوزالاستدلال بها على الأحكام الشرعية ويحصل بها الترجيح، فيقال له: اصطلاح الترمذي ومن بعده أن الأحاديث ثلاثة أقسام صحيح وحسن وضعيف، والضعيف قد يكون موضوعاً فعلم أنه كذب وقد لا يكون كذلك فما ليس بصحيح إن كان حسناً على هذا الإصطلاح احتج به وهو لم يذكر حديثاً وتبين أنه حسن يجوز الاستدلال به،فيقول له لا نسلم أنه ورد من ذلك ما يجوز الاستدلال به وهو لم يذكر إلا دعوى مجردة فتقابل بالمنع.
الوجه السادس: أن يقال: ليس في هذا الباب ما يجوز الاستدلال به بل كلها ضعيفة بل موضوعة كما قد بسط في مواضع وذكرت هذه الأحاديث، وذكرت كلام الأئمة عليها حديثاً، بل ولا عرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بلفظ زيارة قبره البتة، فلم يكن هذا اللفظ معروفاً عندهم، ولهذا كره مالك التكلم، به بخلاف لفظ زيارة القبور مطلقاً، فإن هذا اللفظ معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وفي القرآن الكريم {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} (التكاثر 001-002) لكن معناه عندالأكثرين الموت وعند طائفة هي زيارتها للتفاخر بالموتى والتكاثر.
وأما لفظ قبر النبي صلى الله عليه وسلم المخصوص فلا يتعرف لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه وكل ما يروى فيه هو ضعيف، بل هو كذب موضوع عند أهل العلم بالحديث كما قد بسط هذا في مواضع.
الوجه السابع: أن يقال: الذين أثبتوا استحباب السلام عليه عند الحجرة كمالك وابن حبيب وأحمد بن حنبل، وأبي داود احتجوا إما بفعل ابن عمر (1) كما احتج بذلك مالك وأحمد وغيرهما، وإما بالحديث الذي رواه أبو داود وغيره بإسناد جيد عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه


(1) قد تقدم تخريجه.
(1/114)

السلام)) (1) فهذا عمدة أحمد وأبي داود وابن حبيب وأمثالهم، وليس في لفظ الحديث المعلوف في السنن (عند قبري) لكن عرفوا أن هذا هو المراد، وأنه لم يرد على كل مسلم عليه في صلاة في شرق الأرض وغربها، مع أن هذا المعنى إن كان هو المراد بطل الاستدلال بالحديث من كل وجه على اختصاص تلك البقعة بالسلام، وإن كان المراد السلام عليه عند قبره كما فهمه عامة العلماء، فهل يدخل فيه من سلم من خارج الحجرة، هذا مما تنازع فيه الناس وقد توزعوا في دلالته فمن الناس من يقول: هذا إنما يتناول من سلم عليه عند قبره كما كانوا يدخلون الحجرة على زمن عائشة فيسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرد عليهم فأولئك سلموا عليه عند قبره وكان يرد عليهم، وهذا قد جاء عموماً في حق المؤمنين، ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام.
قالوا: فأما من كان في المسجد فهؤلاء لم يسلموا عليه عند قبره، بل سلامهم عليه كالسلام عليه في الصلاة، وكالسلام عليه إذا دخل المسلم المسجد وحرج منه وهذا هو السلام الذي أمر الله به في حقه بقوله: صلوا عليه وسلموا تسليماً، وهذا السلام قد ورد أنه من سلم عليه مرة سلم الله عليه عشراً كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً.
فأما أثر من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً فهو ثابت من وجوه بعضها في الصحيح، كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة (2) ، وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه كما في حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً)) (3) .


(1) تقدم صفحة 46 حاشية (1) .
(2) الحديث رواه مسلم 1/288 وأبو عوانه 1/336 وأبو داود 1/359 حديث رقم 523 والنسائي 2/25 باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، والترمذي في المناقب 5/586 حديث رقم 3614 وأحمد 2/168 وغيرهم.
(3) رواه مسلم 1/306.
(1/115)

وأما السلام فقد جاء أيضاً في أحاديث من أشهرها حديث عبد الله بن المبارك، عن حماد بن سلم، عن ثابت البنائي عن سليمان مولى الحسن بن علي، عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء ذات يوم والبشر يرى في وجهه فقال: ((أنه جائني جبريل فقال أما يرضيك يا محمد أن الله يقول أنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً)) (1) وقد روى في عدة أحاديث أن الله يصلي على كلمن صلى عليه ويسلم على كل من سلم عليه ولم يذكر عدداً، لكن الحسنة بعشر أمثالها فالمقيد يفسر المطلق.
قال القاضي عياض من رواية عبد الرحمن بن عوف عنه عليه السلام قال: لقيت جبريل فقال لي: أبشرك أن الله يقول: من سلم عليك سلمت عليه، ومن صلى عليك صليت عليه، قال: ونحوه من رواية أبي هريرة ومالك بن أوس بن الحدثان وعبد الله بن أبي طلحة.
قلت: وبسط الكلام على هذه الأحاديث له موضع آخر.
والمقصود هنا أن ما أمر الله به من الصلاة والسلام عليه هو كما أمر به صلى الله عليه وسلم الدعاء له بالوسيلة، وهذا أمر اختص هو به فإن الله أمر بذلك في حقه بعينه مخصوصاً بذلك، وإن كان السلام على جميع عباد الله الصالحين مشروعاً على وجه العموم، وقد قيل: إن الصلاة تكره على غير الأنبياء، وغلا بعضهم فقال: تكره على غيره من الأنبياء وكذلك قال بعض المتأخرين في السلام على غير الأنبياء، ولكن الصواب الذي عليه عامة العلماء أنه يسلم على غيره، وأما الصلاة فقد جوزها أحمد وغيره والنزاع فيها معروف.
وفي تفسير شيبان عن قتاة قال: حدث أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سلمتم علي فسلموا على المرسلين فإنما أنا رسول من المرسلين)) (2)


(1) الحديث رواه أحمد 4/30 والنسائي في باب الفضل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم 3/44-50 كلاهما من طريق سليمان الهاشمي مولى الحسن بن علي، وهو مجهول لم يرد عنه إلا ثابت ولم يوثقه معتبر وقال فيه النسائي ليس بالمشهور قال: ابن حجر رحمه الله في التهيب وقد اختلف في سنده على ثابت وكذلك عبد الله بن أبي طلحة شيخ سليمان لم يوثقه معتبر فالحديث ضعيف.
(2) انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لإسماعيل القاضي ص48 بتحقيق الشيخ ناصر حيث قال إسناده واه جداً عمر بن هارون هو البلخي متروك وشيخه موسى بن عبيدة مثله أو أقل منه ضعفاً. أهـ كلامه.
(1/116)

وهكذا رواه ابن أبي عاصم في كتاب الصلاة، ورواه ابن أبي حاتم وغيره ولم يذكروا فيه سماع قتادة له، وهو في تفسير سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً، وقد قال الله تعالى في كتابه: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} (النمل 059) وقال: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الصافات 181-182)
وقال لما ذكر نوحاً وإبراهيم وموسى وهارون والياسين
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ}
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ}
(الصافات، 78، 89، 108، 109، 119، 120، 129، 130) .
والمقصود هنا أن هذا السلام المأمور به خصوصاً، والمشروع في الصلاة وغيرها عموماً على كل عبد صالح كقول المصطفى: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإن هذا ثابت في التشهدات المروية عن النبي كلها، مثل حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين (1) ، وحديث أبي موسى (2) ، وابن عباس (3) ، الذين رواهما مسلم، وحديث ابن عمر (4)


(1) حديث ابن مسعود رواه البخاري 2/311، 320 و 3/76 و 11/13 و 11/56 و 131 و 13/365 ومسلم 1/302 وأبو داود 1/591 والترمذي حديث رقم 289 و 2/81 والنسائي 3/40.
(2) حديث أبي موسى رواه مسلم 1/301-304 وأبو عوانة 2/248 وتمامة السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
(3) حديث ابن عباس رواه مسلم 1/302 وأبو عوانة 2/248 والترمذي 2/83 والنسائي 3/41 وتمامة كما تقدم في حديث أبي موسى.
(4) حديث ابن عمر رواه أبو داود 1/593-594 قال حدثنا نصر بن علي حدثني أبي حدثنا شعبة عن أبي بشر سمعت مجاهداً يحدث عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (الحديث) والدارقطني 1/351 ولكن الحديث من طريق أبي بشر بن أياس وهو ابن أبي وحشية ولم يسمع من مجاهد قال أحمد: كان شعبة يضعف حديث أبي بشر عن مجاهد قال لم يسمع منه شيئاً وقال ابن معين طعن عليه شعبة في حديثه عن مجاهد قال من صحيفة،انظر ترجمته أبي بشر في تهذيب التهذيب.
وأما الدارقطني فقد أخرجه من طريقة أيضاً ثم قال هذا إسناد صحيح وقد تابعه على رفعه ابن أبي عدي عن شعبة ووقفه غيرهما أهـ، فهذه علة ثانية، ويلاحظ أن الشيخ ناصر الدين الألباني يصحح هذا الحديث كما في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد علمت ما في الحديث من علل فتنبه،والله المستعان.
فائدة ما ثبت عن ابن مسعود أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان يقول: السلام على النبي فإنه من فعله وفعله ليس بحجة إنما الحجة الكتاب والسنة ولم يثبت ذلك في السنة إنما الثابت كما= =علمنا الني صلى الله عليه وسلم (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.. الخ) وقد قال ابن حزم رحمه الله: الناس في أقوال الصحابة وأفعالهم على ثلاث مذاهب.
الأول: يردون ذلك مطلقاً وهذا ضلال مبين لأن من أقوالهم وأفعالهم ما يوافق السنة.
الثاني: يقلبون ذلك مطلقاً وهذا لا يمكن لأنهم قد اختلفوا.
الثالث: يقبلون ما يوافق الكتاب والسنة ويردون ما خلفهما وهذا هو الحق، وهو مذهبنا أو بهذا المعنى أهـ.
(1/117)

وعائشة وجابر (1) وغيرهم التي في المسانيد والسنن، وهذا السلام لا يقتضي رداً من المسلم عليه، بل هو بمنزلة دعاء المؤمن للمؤمنين واستغفاره لهم، فيه الأجر والثواب من الله، ليس على المدعو لهم مثل ذلك الدعاء، بخلاف سلام التحية، فإنه مشروع بالنص والإجماع في حق كل مسلم.
وعلى المسلم عليه أن يرد السلام ولو كان المسلم عليه كافراً، فإن هذا من العدل


(1) حديث جابر رواه الترمذي 2/83 من حديث أيمن بن نابل عن أبي الزبير عن جابر قال وهو غير محفوظ وابن ماجة 1/292 وغيرهما كالنسائي والحاكم قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة أيمن بن نابل وزاد في أول الحديث الذي رواه عن ابن الزبير عن طاوس عن أبي عباس في التشهد باسم الله وبالله وقد رواه الليث وعمر بن الحارث وغيرهما، عن أبي الزبير بدون هذا) قال أحمد شاكر في تحيقه على الترمذي ولم أجد رواية أيمن عن أبي الزبير عن طاوس عن ابن عباس فإن صح هذا النقل كان الحديث عند أيمن باسنادين، عن أبي الزبير عن جابر، وعن أبي الزبير عن طاوس عن ابنعباس ويدل هذا على حفظه له وعدم اضطراب اسنادي الحديث عليه، وروى الحديث النسائي 3/43 ثم قال: لا نعلم أحداً تابع أيمن بن نابل على هذه الرواية وأيمن عندنا لا بأس به والحديث خطأ وبالله التوفيق.قلت: رواية أبي الزبير عن جابر للمحدثين فيها ثلاثة أقوال كما قاله ابن حزم.
الأول: الرد مطلقاً وهذا مذهب شعبة.
الثاني:القول مطلقاً وهذا صنيع مسلم.
الثالث: التفصيل وهو ما رواه عنه الليث فمقبول لأنه علم له ما سمع من جابر وما رواه عنه غير الليث فغير مقبول، قلت: وهذا مما لم يروه عنه الليث مع ما تقدم من كلام النسائي حيث قال: هو خطأ وكلام ابن حجر من أن الليث وعمر بن الحارث وغيرهما رواة الحديث عن أبي الزبير من دون الزيادة التي فيه، وقول الترمذي ((وغير محفوظة)) وكذلك عنعنة أبي الزبير وهو مدلس.
(1/118)

الواجب،ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرد على اليهود إذا سلموا بقول ((وعليكم)) (1) ، وإذا سلم على معين تعين الرد وإذا سلم على جماعة فهل ردهم فرض على الأعيان، أو على الكفاية، على قولين مشهورين لأهل العلم، والابتداء به عند اللقاء سنة مؤكدة، وهل هي واجبة، على قولين معروفين هما قولان في مذهب أحمد وغيره، وسلام الزائر للقبر على الميت المؤمن هو من هذا الباب، ولهذا روى أن الميت يرد السلام مطلقاً.
فالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم في مسجده وسائر المساجد وسائر البقاع مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، وأما السلام عليه عند قبره من داخل الحجرة فهذا كان مشروعاً لما كان ممكناً بدخول من يدخل على عائشة، وأما تخصيص هذا السلام والصلاة بالمكان القريب من الحجرة،فذها محل النزاع.
وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:
منهم من ذكر استحباب السلام أو الصلاة والسلام عليه إذ دخل المسجد ثم بعد أن يصلي في المسجد استحب أيضاً أن يأتي إلى القبر ويصلي ويسلم كما ذكر طائفة من أصحاب مالك والشافعي.
ومنهم من يذكر إلا الثاني وكثير من السلف لم يذكروا إلا النوع الأول فقط، فأما النوع الأول فهو المشروع لأهل البلد وللغرباء في هذا المسجد، وغير هذا المسجد وأما النوع الثاني فهو الذي فرق من استحبه بين أهل البلد والغرباء سواء فعله مع الأول أو مجرداً عنهما ذكر ذلك ابن حبيب وغيره، إذ دخل مسجد الرسول قال: بسم الله وسلام على رسول الله، والسلام علينا من ربنا وصلى الله وملائكته على محمد: اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمته وجنتك وجنتبني من الشيطان الرجيم (2) ، ثم أقصد على الروضة وهي ما بين القبر والمنبر فاركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر تحمد الله فيها وتسأله تماما ما خرجت إليه والعون عليه، وإن كانت ركعتاك في غير الروضة أجزأتاك


(1) ثبت في الصحيحين من حديث أنس إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا (وعليكم) البخاري 11/42، 12/280 ومسلم 4/1705، وعن ابن عمر (إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السلام عليك فقل وعليك) البخاري 11/42 ومسلم 4/1706 وعن عائشة عند البخاري ومسلم 4/1706.
(2) وتقدم الحديث بهذا الشأن.
(1/119)

وفي الروضة أفضل وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما بني قبري (1) ، ومنبري روضة من رياض الجنة) ومنبري على ترعة من ترع الجنة (2) ثم تقف بالقبر متواضعاً وتصلي عليه وتثني بما يحضر وتسلم على أبي بكر وعمر وتدعو لهما (3) ، وأكثر الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالليل والنهار، ولا تدع أن يأتي مسجد قباء وقبور الشهداء (4) .
قلت: وهذا الذي ذكره من استحباب الصلاة في الروضة قول طائفة وهو المنقول عن الإمام أحمد في مناسك المروذي، وأما مالك فنقل عنه أنه يستحب التطوع في موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: لا يتعين لذلك موضع من المسجد (5) ، وأم الفرض فيصليه في الصف الأول مع الإمام بلا ريب، والذي ثبت في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع عن النبي، أنه كان يتحرى الصلاة عند الاسطوانة، وأما ما قصد تخصيصه بالصلاة فيه فالصلاة فيه أفضل، وأما مقامه فإنما كان يقوم فيه إذا كان إماماً يصلي بهم الفرض، والسنة أن يقف الإمام وسط المسجد أما القوم فلما زيد في المسجد صار موقف الإمام في الزيادة.
والمقصود معرفة ما ورد عن السلف من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد وعند القبر، ففي مسند أبي يعلي الموصلي، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين، حدثنا علي بن عمر، عن


(1) لفظة قبري قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح 4/100 خطأ. قلت: لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال (ما بين بيتي ومنبري) ولم يكن يعلم موضع قبره عليه الصلاة والسلام، انظر الفصل الأول من تحذير الساجد) للشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله.
(2) الحديث رواه البخاري من حديث عبد الله بن زيد انظر الفتح 3/70 وعن أبي هريرة 3/70 و 4/99 و 11/465 و 13//304 بزيادة (ومنبري على حوضي) ورواه مسلم أيضاً من حديثهما 2/1010 – 1011.
(3) قلت:يأتي بالدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند زيارة القبور (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين.. الخ) وتخصيص الدعاء بغير هذا مما لا دليل عليه وتقدمت أحاديث الزيارة فراجعها هناك.
(4) تقدمت الأحاديث التي تشير إلى أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يأتي في كل سبت وكان يزور قبور أهل البقيع.
(5) قلت أما إذا أراد الفضيلة التي هي: (الصلاة بألف صلاة) فعليه أن يصلي بالمسجد الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقول النبي عليه الصلاة والسلام (صلاة في مسجدي هذا) فالإشارة فيه دليل على ما نقول: انظر قول النووي في شرحه على مسلم عند هذا الحديث.
(1/120)

أبيه (1) علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه، فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم)) (2) وهذا الحديث مما أخرجه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على ما في الصحيحين، وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم وهوقريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البستي ونحوهما فإن الغلط في هذا قليل ليس هو مثل صحيح الحاكم، فإن فيه أحاديث كثيرة يظهر أنها كذبة موضوعة، فلهذا انحطت درجته عن درجة غيره.
فهذا علي بن الحسين زين العابدين، وهو من أجل التابعين علماً وديناً حتى قال الزهري: ما رأيت هاشمياً مثله، وهو يذكر هذا الحديث بإسناده ولفظه: ((لا تتخذوا بيتي عيداً فإن تسليمكم يلبغي أينما كنتم)) وهذا يقتضي أنه لا مزية للسلام عليه عند بيته كما مزية للصلاة عليه عند بيته، بل قد نهى عن تخصيص بيته بهذا.
وهذا وحديث الصلاة مشهور في سنن أبي داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع قال:أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغي حيث كنتم)) (3) وهذا حديث حسن ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به.
قال يحيى بن معين: هو ثقة وحسبك بابن معين موثقاً، وقال أبو زرعة: لا بأس به وقال أبو حاتم الرزي، ليس بالحافظ هو لين تعرف وتنكر (4) .
قلت: ومثل هذا قد يخاف أنه يغلط أحياناً، فإذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة قد بسطت في غيره هذا الموضع كما رواه سعيد بن منصور


(1) هنا سقط والصواب: عن أبيه عن علي بن الحسين كما في مسند أبي يعلي 1/361.
(2) والحديث ضعيف لأن فيه جعفر بن إبراهيم ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً وكذلك علي بن عمر: مستور كما في ترجمته في التقريب.
(3) تقدم.
(4) انظر ترجمته في الجرح والتعديل 5/183 – 184 والميزان وتاريخ ابن معين رقم 954.
(1/121)

في سننة، حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المهري (1) ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) (2) .
وقال سعيد أيضاً: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة يتمشى فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لار أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إذا دخلت المسجد فسلم عليه، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا بتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء)) رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر هذه الزيادة وهي قوله: (ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء) لأن مذهبه أن القادم من سفر، والمريد للسفر سلامة أفضل، وأن الغرباء يسلمون إذا دخلوا وخرجوا، وهذه مزية على من بالأندلس والحسن بن الحسن وغيره لا يفرقون بين أهل المدينة والغرباء، ولا بين المسافر وغيره فرواه القاضي إسماعيل عن إبراهيم بن حمزة، حدثنا عبد العزيز بن محمد بن سهل بن أبي سهيل قال: جئت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وحسن بن حسن يتعشى في بيت عند النبي (3) صلى الله عليه وسلم، فدعاني فجئته، فقال: أدن فتعش، قال: قلت: لا أريده.
قال: ما لي رأيتك وقفت؟ قلت: وقفت أسلم علي النبي قال: إذا دخلت المسجد فسلم عليه، ثم قال: إن رسول الله قال: ((صلوا في بيوتكم ولا تجعلوا


(1) صوابه المهري.
(2) قال شيخ الإسلام في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم ص322 وهو مرسل كما ترى هو والذي بعده ثم قال بعد نقلهما عن سعيد بن منصور، فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سميا وقد احتج به من أرسه وذلك يقتضي ثبوته عنده ولو لم يكن روى من وجوه مسنده غير هذين فكيف وقد تقدم سند؟ أهـ.
قلت: الحديث السابق قد علمت علته وهذا مرسل والمرسل من قسم الضعيف وأما قوله ((لا تتخذوا بيتي) فسبق أن قلنا إنها رواية بالمعنى وأما قوله ((لا تتخذوا قبري عيداً) فتقدم الكلام عليه وأنه قد تثبت من حديث أبي هريرة.
(3) هنا سقط والصواب عند فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في الرواية السابقة والله أعلم.
(1/122)

بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم)) (1) ولم يذكر قول الحسن.
فهذا فيه أنه أمره أن يسلم عند دخول المسجد وهو السلام المشروع روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من السلف كانوا يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد: وهذا مشروع في كل مسجد، وهذا الحسن بن الحسن هو الحسن بن المثنى، وهو من التابعين وهو من نظير علي بن الحسين، هذا ابن الحسن وهذا ابن الحسين.
وقد ذكر القاضي عياض هذا عن الحسن بن علي نفسه رضي الله عنهم أجمعين فقال: وعن الجسن بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حيثما كنتم فصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني)) قال: وعن الحسن بن علي: إذا دخلت المسجد فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (2) .
قلت:والصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد مأثور عنه رضي الله عنه، وعن غير واحد من الصحابة، والتابعين، مثل الحديث الذي في المسند والترمذي وابن ماجة، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج صلى على محمد وسلم، وقال رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك، هذا لفظ الترمذي (3) .
وفي غيره أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك وفي سنن أبي داود عن أبي أسيد، أو أبي حميد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم، وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل..) وذكر الحديث (4) .


(1) انظر التعليق صفحة 122 حاشية (2)
(2) انظر التعليق ص122 حاشية (2)
(3) تقدم الكلام عليه وقد قال الترمذي: حديث فاطمة حديث حسن وليس إسناده بمتصل وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى إنما عاشت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أشهراً قال وفي الباب عن أبي حميد وأبي أسيد وأبي هريرة، وانظر كلام أحمد شاكر عند هذا الحديث فإنه مبهم.
(4) الحديث رواه مسلم 1/494 والنسائي 2/53 ولم يذكر (فليسلم على النبي) وأبو داود 1/317-318 وابن ماجة 1/254.
(1/123)

وقال الضحاك بن عثمان: حدثنا سعيد المقبري، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: الله أجرني من الشيطان الرجيم)) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1) .
قال القاضي عياض: ومن مواطن الصلاة والسلام عليه دخول المسجد قال أبو إسحاق بن شعبان: وينبغي لمن دخل المسجد أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ويترحم عليه، وعلى آله ويبارك عليه، وعلى آله ويسلم عليه تسليماً ويقول: اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك وفضلك (2) ، وقال عمرو بن دينار في قوله: إذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم، وقال: إن لكم يكن في البيت أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته، قال: وقال ابن عباس: المراد بالبيوت هنا المساجد، وقال النخعي، إذا لم يكن في المسجد أحد فقل: السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن في البيت أحد فقل: السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين.
قال علقمة قال: إذا دخلت المسجد أقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته صلى الله وملائكته على محمد، قال: ونحوه عن كعب إذا دخل وإذا خرج ولم يذكر الصلاة قال: واحتج ابن شعبان لما ذكره بحديث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله إذا دخل المسجد قال: ومثله عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وذكر السلام والرحمة قال: وروى ابن وهب عن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخلت المسجد فصل على النبي وقل: اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وفي رواية أخرى فليسلم وليصل ويقول: إذا خرج اللهم إني أسألك من فضلك، وفي أخرى اللهم احفظني من الشيطان)) (3) .
وعن محمد بن سيرين: كان الناس يقولون إذا دخلوا المسجد صلى الله عليه وملائكته على محمد، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركته بسم الله دخلنا، وبسم الله خرجنا وعلى الله توكلنا، وكانوا يقولون إذا خرجوا مثل ذلك.


(1) انظر الحديث وتخريجه وما فيه من العلل في رسالتنا وإتحاف الراكع الساجد بأذكار الدخول والخروج من المساجد.
(2) قلت بل يقتصر ما ثبت في السنة وقد تقدم ذكر ذلك.
(3) تقدم.
(1/124)

قلت: هذا فيه حديث مرفوع في سنن أبي داود وغيره أنه يقال عند دخول المسجد اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، بسم الله ولجنا، وبسم الله خرجنا وعلى الله توكلنا (1) .
قال القاضي عياض: وعن أبي هريرة إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي وليقل: اللهم افتح لي.
قلت: وروى ابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري عن ضرار بن مرة عن مجاهد في هذه الآية: {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (النور 061) قال إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله، وإذا دخلت على أهلك فقل: السلام عليكم، قلت: والآثار مبسوطة في مواضع.
والمقصود هنا أن نعرف ما كان عليه السلف من الفرق بين ما أمر الله به من الصلاة والسلام عليه وبين سلام التحية الموجب للرد الذي يشترك فيه كل مؤمن حي وميت ويرد فيه على الكافر، ولهذا كان الصحابة بالمدينة على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم إذا دخلوا المسجد لصلاة، أو اعتكاف، أو تعليم، أو تعلم، أو ذكر الله ودعاء له ونحو ذلك مما شرع في المسجد لم يكونوا يذهبون إلى ناحية القبر فيزورونه هناك ولا يقفون خارج الحجرة، كما لم يكونوا يدخلون الحجرة ولا داخل الحجرة، ولا كانوا أيضاً يأتون من بيوتهم لمجرد زيارة قبره، بل هذا من البدع التي أنكرها الأئمة والعلماء، وإن كان الزائر منهم ليس مقصوده إلا الصلاة والسلام عليه، وبينوا أن السلف لم يفعلوها كما ذكره مالك في المبسوط، وقد ذكره أصحابه كأبي الوليد الباجي والقاضي عياض وغيرهما، قيل لمالك: إن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك أي يقفون على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلون عليه ويدعون له ولأبي بكر وعمر، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة والأيام المرة أو المرتين، أو أكثر عند القبر يسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع، ولن يصلح آخر


(1) الحديث رواه أبو داود 5/328 ولكنه منقطع من طريح شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري وشريح لم يسمع من أبي مالك.
(1/125)

هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني هذا عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.
فقد كره مالك رحمه الله هذا وبين أنه لم يبلغه عن أهل العلم بالمدينة، ولا عن صدر هذه الأمة وأولها وهم الصحابة، وأن ذلك يكره لأهل المدينة إلا عند السفر، ومعلوم أن أهل المدينة لا يكره لهم زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد وغيرهم، بل هم في ذلك ليسوا بدونسائر الأمصار، فإذا لم يكره لأولئك زيارة القبور، بل يستحب لهم زيارتها عند جمهور العلماء، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فأهل المدينة أولى أن لا يكره لهم، بل يستحب لهم زيارة القبور كما يستحب لغيرهم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قبر النبي صلى الله عليه وسلم بالمنع شرعاً وحساً كما دفن في الحجرة، ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة كما يزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر، وقبر النبي صلى الله عليه وسلم، ليس كذلك، فلا تستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن، وهذا لعلو قدره وشرفه لا لكون غيره أفضل منه، فإن هذا لا يقوله أحد من المسلمين فضلاً عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين بالمدينة وغيرها (1) .
ومن هنا غلط طائفة من الناس يقولون: إذا كان زيارة قبر النبي آحاد الناس مستحبة فكيف بقبر سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه؟ وهؤلاء ظنوا أن زيارة قبر الميت مطلقاً هو من باب الإكرام والتعظيم له، والرسول صلى الله عليه وسلم أحق بالإكرام والتعظيم من كل أحد، وظنوا أن ترك الزيارة فيها نقص لكرامته، فغلطوا وخالفوا السنة وإجماع الأمة سلفها وخلفها، فقولهم نظير قول من يقول: إذا كانت زيارة القبور يصل الزائر فيها إلى قبر المزور، فإن ذلك أبلغ في الدعاء له، وإن كان مقصوده دعاء كما يقصده أهل البدع،فهو أبلغ في دعائه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن نصل إلى قبره إذا زرناه، وقد ثبت بالتواتر وإجماع الأمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يشرع الوصول إلى قبره لا للدعاء له ولا لدعائه ولا لغير ذلك بل غيره يصلي على قبره عند أكثر السلف، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، والصلاة على القبر كالصلاة على الجنازة تشرع مع القرب والمشاهدة، وهو بالإجماع لا يصلي على قبر سواء كان للصلاة حد محدود، أو كان يصلي على القبر مطلقاً، ولم يعرف أن أحداً من الصحابة الغائبين لنا قدم صلى على قبره صلى الله عليه وسلم وزيارة القبور المشروعة هي


(1) قلت: بل زيادته على الطريقة المشروعة مشروع والله أعلم.
(1/126)

مشروعة مع الوصول إلى القبر بمشاهدته، وهذه الزيارة مشروعة في حقه بالنص والإجماع، ولا هي أيضاً ممكنة.
فتبين غلط هؤلاء الذين قاسوه على عموم المؤمنين، وهذا من باب القياس الفاسد ومن قاس قياس الأولى ولم يعلم ما اختص به كل واحد من المقيس والمقيس به كان قياسه من جنس قياس المشركين الذين كانوا يقيسون الميته على المذكي، ويقولون للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (1) (الأنعام 121)
وكذلك لما أخبر الله أن الأصنام التي تعبد هي وعابدوها حصب جهنم قاس ابن الزيعري، قبل أن يسلم هو وغيره من المشركين عيسى بها (2) ، وقالوا: يجب أن يعذب عيسى قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف 057-058) ثم قال: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} (الزخرف 059) وبين تعالى الفرق بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء 101) بين أن من كان صالحاً نبياً أو غير نبي لم يعذب لأجل من أشرك به وعبده وهو بريء من إشراكهم به.
وأما الأصنام فهي حجارة تجعل حصباً للنار، وقد قيل: إنها من الحجارة التي قال تعالى فيها: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (البقرة 024) وقال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (الجن 015) وبسط هذا له موضع آخر.


(1) أخرج الإمام أبو داود 3/245 بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) يقولون ما ذبح لله فلا تأكلوه فأنزل الله: ((ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله= =عليه)) قال ابن كثير في تفسيره 2/171 وهذا إسناده صحيح وأخرجه ابن ماجه 2/1059 رقم 3173 والحاكم 4/113-231 وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، ورواه ابن جرير 8/126.
(2) ذكر الخطيب في الفقه والمتفقه ص70 عن شيخه أبي سعيد محمد بن موسى الصيرفي حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم حدثنا أبو أمية الطرطوسي حدثنا محمد بن الصلت، حدثنا أبو كدينة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية ((أنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم)) الآية قال المشركون: فإن عيسى يعبد وعزير والشمس والقمر فأنزل الله سبحانه وتعالى: ((إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون)) أهـ، نقلاً من الصحيح المسند لشيخنا مقبل حفظه الله تعالى.
(1/127)

والمقصود هنا أن يعرف أن ما مضت به سنته، وكان عليه خلفاؤه وأصحابه وأهل العلم والذين بالمدينة من تركهم لزيارة قبره أكمل في القيام بحق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو أكمل وأفضل وأحسن مما يفعل مع غيره، وهو أيضاً في حق الله وتوحيده أكمل وأتم وأبلغ وأما كونه أتم في حق الله فلأن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً كما ثبت ذلك في الصحيحين عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
ويدخل في العبادة جميع خصائص الرب فلا يتقي غيره ولا يخاف غيره ولا يتوكل على غيره، ولا يدعي غيره ولا يصلي لغيره، ولا يصام لغيره، ولا يتصدق لغيره ولا يحج إلا إلى بيته، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور 052) فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} (التوبة 059) فجعل الإيتاء لله والرسول وجعل التوكل والرغبة لله وحده وقال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} ) الشرح 7-8) وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ * وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} (النحل 051-052)
وقال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} (المائدة 044) وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} (الإسراء 56) وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} (فاطر 40) {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ 022-023)
وهذا الباب واسع وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: ((إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)) (2) وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة


(1) رواه البخاري 13/347 فتح ومسلم 1/58 متن.
(2) رواه أحمد 1/293، 303، 307 وسنده صحيح والترمذي 4/67 وقال حسن صحيح وابن السنن في عمل اليوم والليلة 427 والطبراني في الكبير 12988 من طريق قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس وسنده حسن.
(1/128)

بغير حساب قال: ((هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)) (1) فهم لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم، والرقية دعاء، فكيف بما هو أبلغ من ذلك.
ومعلوم أنه لو اتخذ قبره عيداً ومسجداً ووثناً صار الناس يدعونه ويتضرعون إليه ويسألونه ويتوكلون عليه ويستغيثون ويستجيرون به وربما سجدوا له وطافوا به وصاروا يحجون إليه، وهذه كلها من حقوق الله وحده الذي لا يشركه فيما مخلوق (2) .
وكان من حكمة الله دفنه في حجرته ومنع الناس من مشاهدة قبره والعكوف عليه والزيارة له، ونحو ذلك، لتحقيق توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وإخلاص الدين لله، وأما قبور أهل البقيع ونحوهم من المؤمنين فلا يحصل ذلك عندها، وإذا قدر أن ذلك فعل عندها منع من يفعل ذلك وهدم ما يتخذ عليها من المساجد، وإن لم تزل الفتنة إلا بتعفية قبره وتعميته، فعل ذلك كما فعله الصحابة بأمر عمر بن الخطاب في قبر دانيال (3) .


(1) رواه البخاري 10/155 ومسلم 1/988-200.
(2) قلت: لقد حدث بعض هذا الآن فأصبح بعض الناس يدجعونه وقد سمعت هذا عندما كنت في فترة الحج ويتمسحون بالشبك الحديدي ويبكون ومنهم من يقول يا رسول الله بغارة وبعضهم يطوف طوافاً لأنه أصبح مكننا.
ومثل هذا ما يحدث عند بعض القبور مثل قبر ابن علوان في منطقة بقرس بتعز وكذا عند قبر ابن العجيل وقبر الهتار وغيرها من القبور في لواء تهامة فإلى الله المشتكى.
(3) القصة أخرجها ابن إسحاق في المغازي ص6 فقال حدثنا أحمد قال: نا يونس بن بكير عن أبي خلدة بن دينار قال: نا أبو العالية قال لما فتخنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له فأخذنا المصحف فحملنا إلى عمر بن الخطاب فدعا له كعباً فنسخه بالعربية فأنا أول رل من العرب قرأته مثلما أقرأ القرآن هذا فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ فقال سيرتكم وأموركن ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت: فما صنعتم بالرجل؟. قال حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لتعمية على الناس لا ينبشونه، قلت وما يرجون منه؟ = =قال: كانت السماء إذا جست عليهم برزوا بسريره فيمطرون قلت من كنتم تظنون الرجل؟ قال رجل يقال له دنيال فقلت، منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة (1) قلت: ما كان تغير بشيء؟ قال: لا إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لاتبليها الأرض ولا تأكلها السباع.
قلت: سند القصة حسن وأحمد شيخ ابن إسحاق هو ابن عبد الجبار بن محمد العطاردي أبو عمرو الكوفي ضعيف وسماعه للسيرة صحيح كما في التقريب.
(1) قال المحقق على السير والمغازي، كذا والأقرب إلى الصحة إبدال المئة بألف، وانظر فضائل الشام للرببيعي بتخريج الشيخ ناصر ص47.
(1/129)

وأما كون ذلك أعظم لقدرة وأعلا لدرجته، فلأن المقصود المشروع بزيارة قبور المؤمنين كأهل البقيع وشهداء أحد هو الدعاء لهم كما كان هو يفعل ذلك إذا زارهم وكما سنه لأمته، فلو سن للأمة أن يزوروا قبره للصلاة عليه والسلام عليه والدعاء له، كما كان بعض أهل المدينة يفعل ذلك أحياناً وبين مالك أنه بدعة (1) ، لم تبلغه عن صدر هذه الأمة ولا عن أهل العلم بالمدينة، وأنها مكروهة فإنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما اصلح أولها، لكان بعض الناس يزرونه (2) ثم لتعظيمه في القلوب وعلى (3) الخلائق بأنه أفضل الرسل وأعظمهم جاهاً، وأنه أوجه الشفعاء إلى ربه تدعو النفس إلى أن تطلب منه حاجاتها وأغراضها وتعرض عن حقه من الصلاة والسلام والدعاء له، فإن الناس مع ربهم كذلك إلا من أنعم الله عليه بحقيقة الإيمان، وإنما يعظمون الله عند ضرورتهم إليه كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (يونس 12)
وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} (الإسراء 67) وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} (الزمر 8) ونظائر هذا في القرآن متعددة.
فإذا كانوا إلا من شاء الله إنما يعظمون ربهم ويوحدونه ويذكرونه عند ضرورتهم لأغراضهم، ولا يعرفون حقه إذا خلصهم فلا يحبونه ويعبدونه ولا يشكرونه ولا يقومون بطاعته، فكيف يكونون مع المخلوق، فهم يطلبون من الأنبياء والصالحين أغراضهم (4) ،


(1) قلت الصواب أنه ليس ببدعة إذاكانت على الطريقة المشروعة والله أعلم.
(2) الصواب (ويزورونه) .
(3) الصواب (وعلم) .
(4) قلت إلى الله المشتكى مما يحصل من كثير من عوام المسلمين وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن العلماء قد قصروا في تبيلغ دين الله عز وجل ولزموا مساكنهم إلا من رحم الله حتى أصبح العامة يعتقدون أن هذا العمل من الدين وبعضهم يقول ” الأولياء بجانب الله ” ويقول آخرون ” الأولياء وزراء الله ” نستغفر الله ونتوب إليه، وإن الشيوعية الكافرة لتفرح بمثل هذا وتساعد على نشر الجهل والشرك وقد كانوا منعوا بعض الزيارات للقبور، أعني الزيارات الموسمية – التي يجتمع لها خلق كثير من الرجال والنساء ويحصل فساد عظيم في تلك الاجتماعات مثل زيارة قبر العيدروس بعدن وكانوا يظنون أن هذا العمل من شعائر الدين حتى أتاهم بما يسمونه خبير سوداني شيوعي وهو في الحقيقة خبيث،فأمرهم أن يسمحوا للناس بالزيارة والتمسح بأتربة الموتى ودعاؤهم من دون الله قائلاً لهم لقد ساعدتم المسلمين بعملكم هذا يعني منع الزيارة.
(1/130)

وذلك مقدم عندهم على حقوق الأنبياء والصالحين، فإذا أيقنوا أن في زيارة قبر نبي، أو صالح تحصيل أغراضهم بسؤاله ودعائه وشفاعته أعرضوا عن حقه واشتغلوا بأغراضهم، كما هو الموجود في عامة الذين يحجون إلى القبور المعظمة ويقصدونها لطلب الحوائج.
فلو أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في زيارة قبله ومكنهم من ذلك لأعرضوا عن حق الله الذي يستحقه من عبادته وحقه، وعن حق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يستحقه من الصلاة والسلام عليه والدعاء له، بل ومن جعله واسطة بينهم وبين الله في تبليغ أمره ونهيه وخبره، فكانون يهضمون حق الله وحق رسوله كما فعل النصارى، فإنهم يغلوهم في المسيح تركوا حق الله من عبادته وحده، وتركوا حق المسيح فهم لا يدعون له، بل هم عندهم رب بدعي ولا يقومون بحق رسالته، فينظرون ما أمر به وما أخبر به، بل اشتغلوا بالشرك به وبغيره وبطلب حوائجهم ممن يستشفعون به من الملائكة والأنبياء وصالحيهم عما يجب من حقوقهم.
وأيضاً فلو جعلت الصلاة والسلام عليه والدعاء له عند قبره أفضل منها في غير تلك البقعة، كما قد يكون الدعاء للميت (1) عند قبره أفضل لكانوا يخصون تلك البقة بزيادة الدعاء له، وإذا غابوا عنها تنقص صلاتهم وسلامهم ودعاؤهم له فإن الإنسان لا يجتهد في الدعاء في المكان المفضول، كما يجتهد في المكان الفاضل، وهم قد أمروا أن يقوموا بحق الرسول صلى الله عليه وسلم ((لا تتخذوا بيتي عيداً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) (2) .
وقد شرع لهم أن يصلوا عليه ويسألوا له الوسيلة إذا سمعوا المؤذن حيث كانوا، وأن يسلموا عليه في كل صلاة ويصلوا عليه في الصلاة ويسلموا عليه إذا دخلوا المسجد، وإذا خرجوا منه، فهذا الذي أمروا به عام في كل مكان وهو يوجب من القيام بحقه ورفع درجته وإعلاء منزلته ما لا يحصل لو جعل ذلك عند قبره أفضل، ولا إذا سوى بين قبره وقبر


(1) صوابه للميت كما في بعض النسخ.
(2) تقدم كلامه عليه.
(1/131)

غيره،بل إنما يحصل كمال حقه مع حق ربه بفعل ما شرعه وسنه لأمته من واجب ومستحب، وهو أن يقوموا بحق الله، ثم بحق رسوله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا من المحبة الموالاة والطاعة وغير ذلك من الصلاة والسلام والدعاء وغير ذلك، ولا يقصدوا تخصيص القبر لما يقضي إليه ذلك من ترك حق الله، وحق رسوله صلى الله عليه وسلم.
فهذا وغيره مما يبين أن ما نهى عنه الناس ومنعوا منه، وكان السلف لا يفعلونه من زيارة قبره وإن كان زيارة قبر غيره مستحبة، فهو أعظم لقدرة وأرفع لدرجته وأعلى في منزلته، وإن ذلك أقوم بحق الله وأتم وأكمل في عبادته وحده لا شريك له وإخلاص الدين له، ففي ذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإن أهل البدع الذين فعلوا ما لم يشرعه، بل ما نهى عنه وخالقوا الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فاستحبوا ما كان أولئك يكرهون ويمنعون منه، هم مضاهون للنصارى، وإنهم نقصوا من تحقيق الإيمان بالله ورسوله والقيام بحق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم بقدر ما دخلوا فيه البدعة التي ضاهوا بها النصارى، هذا والله أعلم.
وأيضاً فإنه إذا أطيع أمره واتبعت سنته كان له من الأجر بقدر أجر من الطاعة واتبع سنته لقوله: ((من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً)) (1) وقوله: ((من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)) (2) .
وأما البدع التي لم يشرعها، بل نهى عنها وإن كانت متضمنة للغلو فيه والشرك به والإطراء له كما فعلت النصارى، فإنه لا يحصل بها أجر لمن عمل بها، فلا يكون للرسول صلى الله عليه وسلم فيها منفعة، بل صاحبها إن عذر كان ضالاً لا أجر له فيها، وإن قامت عليه الحجة استحق العذاب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم)) (3) .


(1) رواه مسلم 4/2060 وأبو داود 5/15-16 والترمذي 5/43، وقال حسن صحيح، وابن مادة 1/75،في المقدمة رقم 206، والدارمي 1/130 وأحمد 2/397، كلهم من حديث أبي هرير.
(2) رواه مسلم 2/705 و 4/2059 وأحمد 4/361 وابن ماجة 1/203 مقدمة، والنسائي 5/75 والترمذي 5/43 وقال حسن صحيح كلهم من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
(3) تقدم.
(1/132)

فإن قال هؤلاء الذين قاسوا زيارة قبره على زيارة سائر القبور إن الناس منعوا من الوصول إليه تعظيماً لقدره، وجعل سلامهم وخطابهم له من وراء الجحرة، لأن ذلك أبلغ في الأدب والتعظيم.
قيل: فهذا موجب الفرق، فإن الزيارة المشروعة إن كان مقصودها الدعاء له، فكون ذلك قريباً من الحجرة أفضل منه في سائر المساجد والبقاع، فالذي يدعو له داخل الحجرة أقرب وإن كان القرب مستحباً، فكلما كان أقرب كان أفضل كسائر القبور، وإن كان مقصودها ما يقوله أهل الشرك والضلال من دعائه، ودعاؤه من القرب أولى فينبغي أن يكون من داخل الحجرة أولى، لما ثبت أن هذا القرب من القبر ممنوع منه بالنص (1) والإجماع وهو أيضاً غير مقدور، علم أن القرب من ذلك ليس بمستحب بخلاف زيارة قبر غيره والصلاة على قبره فإن القريب (2) منه مستحب إذا لم يفض إلى مفسدة من شرك أو بدعة أو نياحة، فإن أفضى إلى ذلك منع من ذلك.
ومما يوضح هذا أن الشخص الذي يقصد اتباعه زيارة قبره يجعلون قبره بحيث تمكن زيارته، فيكون له باب يدخل منه إلى القبر، ويجعل عند القبر مكان للزائر إذا دخل بحيث يتمكن من القعود فيه، بل يوسع المكان ليسع الزائرين، ومن اتخذه مسجداً جعل عنده صورة محراب أو قريباً منه، وإذا كان الباب مغلقاً جعل له شباك على الطريق ليراه الناس فيه فيدعونه، وقبر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا كله لم يجعل للزائر طريق إليه بوجهه من الوجوه ولا قبر في مكان كبير يتسع للزوار، ولا جعل للمكان شباك يرى منه القبر، بل منع الناس من الوصول إليه والمشاهدة له (3) .
ومن أعظم ما من الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته واستجاب فيه دعاءه أن دفن في بيته بجانب مسجده، فلا يقدر أحد أن يصلي إلا إلى المسجد (4) ، والعبادة المشروعة في


(1) لست أدري أي نص هذا وأي إجماع.
(2) صوابه القرب في بعض النسخ.
(3) قلت بل جعل له شباك فإلى الله المشتكى.
(4) قلت:أما الأن فمصلى النساء خلف القبر النبوي الشريف وهناك ممر بين جدار الغرفة التي فيها القبر والشباك الحاجز لمصلى النساء فيتمكن كثير من الناس من الصلاة في هذا الممر وأصبح بعض الناس يطوفون حول القبر لأنه اصبح ممكناً ولو أن الحكومة السعودية تسد هذا الممر لكان خيراً.
(1/133)

المسجد معروفة، بخلاف ما لو كان قبره منفرداً عن المسجد، والمسافر إليه إنما يسافر إلى المسجد وإذا سمي هذا زيارة لقبره فهو اسم لا مسمى له، إنما هو إتيان إلى مسجده.
ولهذا لم يطلق السلف هذا اللفظ، ولا عنده قبره قناديل معلقة ولا ستور مسبلة (1) ، بل إنما يعلق القناديل في المسجد المؤسس على التقوى ولا يقدر أحد أن يخلق نفس قبره بزعفران، أو غيره ولا ينذر له زيناً ولا شمعاً ولا ستراً، ولا غير ذلك مما ينذر لقبر غيره، وإن كان في بعض الأحوال قد ستر بعض الناس الحجرة أو خلفها بعضهم بزعفران، فهذا إنما هو للحائط الذي يلي المسجد لا نفس باطن الحجرة والقبر كما يفعل بقبر غيره، وإن فعل شيء من ذلك في ظاهر الحجرة، فعلم أن الله سبحانه استجاب دعاءه حيث قال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)) (2) ، وإن كان كثير من الناس يريدون أن يجعلوه وثناً ويعتقدون أن ذلك تعظيم له كما يريدون ذلك ويعتقدونه في قبر غيره (3) ، فهم لا يتمكنون من ذلك، بل هذا القصد والاعتقاد خيال في نفوسهم لا حقيقة له في الخارج، بخلال القبر الذي جعل وثناً، وإن كان الميت ولياً لله لا إثم عليه من فعل من أشرك به، كما لا إثم على المسيح من فعل من أشرك به.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المائدة 116-117)
وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي


(1) قلت: السور قد عملت الأن ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وكذلك عملت الجدران بالرخام.
(2) تقدم.
(3) قلت: هذا صحيح ويحاول بعض الناس أن يفعل ذلك ولكن نسأل الله تعالى ألا يمكنهم وأما في قبور غيره من الأولياء فحدث ولا حرج، واضرب لك مثلاً، إن من الناس من ينذر بجمل لصاحب قبر ويوم زيارته يركب أحدهم على هذا الجمل ثم يطوف حول القبر بالجمل وعند كل رجل سكين يقطع بها وصلة لحم من هذا الجمل وهو حي وهكذا يسقط الجمل أرضاً وهذا يحصل عند قبر الجلاب في لواء تهامة فهل هذا يرضي الله فأين العلماء العاملين الذين يبصرون الناس بدينهم.
(1/134)

إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصار} (المائدة 072) قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (الفرقان 017-019)
فالمعبود من دون الله سواء كان أولياء كالملائكة والأنبياء والصالحين، أو كانوا أوثاناً قد تبرؤوا ممن عبدهم ويبنوا أنه ليس لهم أن يوالوا من عبدهم، ولا أن يواليهم من عبدهم، فالمسيح وغيره، وإن كانوا برآه من الشرك بهم، لكن المقصود بيان ما فضل الله به محمداً وأمته وما أنعم به عليهم من إقامة التوحيد لله والدعوة إلى عبادته وحده وإعلاء كلمته ودينه وإظهار ما بعثه الله بن من الهدي ودين الحق، وما صانه الله به وصان قبره من أن يتخذ مسجداً، فإن هذا من أقوى أسباب ضلال أهل الكتاب، ولهذا لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك تحذيراً لأمته وبين أن هؤلاء شرار الخلق عند الله يوم القيامة.
ولما كان أصحابه أعلم الناس بدينه وأطوعهم له لم يظهر فيهم من البدع ما ظهر فيمن بعدهم لا في أمور القبور ولا في غيرها، فلا يعرف من الصحابة من كان يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان فيهم من له ذنوب، لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه من تعمد الكذب على نبيهم، وكذلك البدع الظاهرة المشهورة مثل بدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئية لم يعرف عن أحد من الصحابة شيء من ذلك.
بل النقول الثابتة عنهم تدل على موافقتهم للكتاب والسنة، وكذلك اجتماع رجال الغيب بهم أو الخضر، أو غير وكذلك مجيء الأنبياء إليهم في اليقظة وحمل من يحمل منهم إلى عرفات (1) ، ونحو ذلك مما وقع فيه كثير من العباد وظنوا أنه كرامة من الله وكان


(1) قلت: ونسمع في هذه الأيام من كثير ممن يدعي الصلاح أنه رأى النبي يقظة وكذبوا في زعمهم هذا وعندما استرسلوا في ملذاتهم الدنيوية كمضغ القات عندنا في اليمن وتهاونوا عن أداء الصلوات في جماعة مع المسلمين لبسوا على العوام أنهم من أصحاب الخطوة، وأنهم يصلون الصلوات في الحرم المكي مع الجماعة ثم يعودون بنفس القوت إلى أماكنهم وظهر بسبب هذا الوضع العصري على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أضرب أمثالاً على ذلك. رجل في الحديدة من هذا الصنف يدعى مطير، زعم أنه رأى النبي مع جماعة من الصحابة وبيد النبي عود من القات قال: فسألته عنه فقال نزل به الروح الأمين، انظر كتابه ” الدرة الفريدة ” فإن فيه ما يحير العقول فإنا لله وإنا إليه راجعون وآخر فيالبيضاء يدعى ” الشمس ” ليس على العوام أنه قطب من الأقطاب فدخل أحد أكبار الدعاة إلى الله وهو محمد بن = =علي بن مسمار حفظه الله إلى مسجده فسأل عنه فقال العوام هذا قطب ثم سأل عنه في صلاة الصبح حيث لم يحضر فقال أين القطب الذي تزعمون ماله لا يصلي مع المسلمين فبهتوا، فنسأل الله الثبات على دينه.
(1/135)

من إضلال الشياطين لهم، ولم تطمع الشياطين أن توقع الصحابة في مثل هذا فإنهم كانوا يعلمون أن هذا كله من الشيطان ورجال الغيب هم الجن، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (الجن 6)
وكذلك الشرك بأهل القبور لم يطمع الشيطان أن يوقعهم فيه، فلم يكن على عهدهم في الإسلام قبر نبي يسافر إليه، ولا يقصد للدعاء عنده، أو لطلب بركته، أو شفاعته، أو غير ذلك، بل أفضل الخلق محمد خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وقبره عندهم محجوب لا يقصده أحد منهم لشيء من ذلك، وكذلك كان التابعون لهم بإحسان ومن بعدهم من أئمة المسلمين.
وإنما تكلم العلماء والسلف في الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره، منهم من نهى عن الوقوف للدعاء له دون السلام عليه، ومنهم من رخص في هذا وهذا، ومنهم من نهى عن هذا وهذا، وأما دعاؤه هو وطلب استغفاره وشفاعته بعد موته، فهذا لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين لا من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، بل الأدعية التي ذكروها خالية من ذلك، أما مالك فقد قال القاضي عياض: وقال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويسلم، ولكن يسلم ويمضي.
وهذا الذي نقله القاضي عياض ذكره القاضي إسماعيل بن إسحاق في المبسوط قال: قال مالك لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا ولكن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبو بكر وعمر، ثم يمضي، وقال مالك: ذلك لأن هذا هو المنقول عن ابن عمرأنه كان يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، أو يا أبتاه، ثم ينصرف ولا يقف يدعو، فرأى مالك ذلك من البدع، قال وقال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنوا ويسلم ولا يمس القبر بيده.
فقوله في هذه الرواية: ((إذا سلم ودعا)) قد يريد بالدعاء السلام، فإنه قال: يدنو
(1/136)

ويسلم ولا يمس القبر بيده، ويؤيد ذلك أنه قال في رواية ابن وهب يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وقد يراد إنه يدعو له بلفظ الصلاة، كما ذكر في الموطأ من رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر إنه كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر وفي رواية يحيى بن يحيى، وقد غلطه ابن عبد البر، وقالوا: إنما لفظ الرواية على ما ذكره ابن القاسم والقعني وغيرهما يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم على أبي بكر وعمر.
وقال ابو الوليد الباجي: وعندي أنه يدعو النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة، ولأبي بكر وعمر لما في حديث ابن عمر من الخلاف، قال القاضي عياض: وقال في المبسوط، لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له، ولأبي بكر وعمر، فإن كان أراد بالدعاء السلام والصلاة فهو موافق لتلك الرواية، وإن كان أراد دعاء (1) زائد فهي رواية أخرى، وبكل حال فإنما أراد الدعاء اليسير.
وأما ابن حبيب فقال: ثم يقف بالقبر متواضعاً موقراً فيصلي عليه ويثني عليه، ويثني بما حضر ويسل على أبي بكر وعمر، فلم يذكر إلا الثناء عليه مع الصلاة.
وأما الإمام أحمد فذكر الثناء عليه بلفظ الشهادة له بذلك مع الدعاء له بغير الصلاة ومع دعاء الداعي لنفسه أيضاً ولم يذكر أن يطلب منه شيئاً ولا يقرأ عند القبر قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (النساء 064) ولم يذكر ذلك أحمد ولا المتقدمون من أصحابنا ولا جمهورهم، بل قال في منسك المروزي: ثم إئت الروضة، وهي بين القبر والمنبر فصل فيها وادع بما شئت، ثم إئت قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقل: السلام عليكم يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا محمد بن عبد الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أنك بلغت رسالة ربك، ونصحت لأمتك وجاهدت في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً عن أمته ورفع درجتك العليا وتقبل شفاعتك الكبرى،وأعطاك سؤلك في الآخرة والأولى، كما تقبل من إبراهيم، اللهم احشرنا في زمرته، وتوفنا على سنته، وأوردنا حوضه، وأسقنا بكأسه مشرباً روياً لا نظمأ بعده أبداً (2) .


(1) صوابه دعاء زائداً.
(2) هذا الدعاء وما ماثله لا دليل عليه من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولقد علمنا النبي عليه الصلاة والسلام ماذا نقول إذا زرنا القبور وقد تقدمت كما عرفت أحاديث الزيارة وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: وإننا لنجد كثيراً من الناس يطرون النبي عليه الصلاة والسلام ويرفعونه إلى مرتبة الألوهية سواء كان ذلك فيما يسمونه بالموالد او بما يسمونه بالنسيج الذي يصدر من بعض المساجد بمكبر الصوت قبل أذان الفجر الثاني فهم قد أماتوا سنة الأذان الأولى واستبدلوها بهذه البدعة، فمن إطرائهم في الموالد ما جاء في بردة البوصيري:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وإن من جودك الدنيا وضرتها وإن من علمك علم اللوح والقلم
وقد ألف الأخ محمود مهدي الاستانبولي رسالة طيبة ورد على هذا وما شابهه سماها ” كتب ليست من الإسلام ” فجزاه الله خيراً.
ولقد سمعت مؤذناً في بعض قرى البيضاء يقول في تسبيحه:
لولا رسول الله ما عرفت مني ولا اتهدمت الأصنام ولا الكافر أسلم
فنصحته فقال هذا جاءنا من الرباط في البيضاء ولكنه تقبل النصح فجزاه الله خيراً، والله المستعان.
(1/137)

وما من دعاء وشهادة ثناء يذكر عند القبر إلا وقد وردت السنة بذلك وما هو أحق منه في سائر البقاع، ولا يمكن أحداً أن يأتي بذكر شرع عند القبر دون غيره، وهذا تحقيق لنهيه صلى الله عليه وسلم أيتخذ قبره أو بيته عيداً فلا يقصد تخصيصه بشيء من الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم فضلاً عن الدعاء لغيره (1) ، يدعي بذلك للرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان الداعي، فإن ذلك يصل إليه صلى الله عليه وسلم وهذا بخلاف ما شرع عند قبر غيره، كقوله: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين (2) ، فإن هذا لا يشرع إلا عند القبور لا يشرع عند غيرها)) (3) .
وهذا مما يظهر به الفرق بينه وبين غيره، وإن ما شرعه وفعله أصحابه من المنع من زيارة قبره كما تزار القبور هو من فضائله وهو رحمة لأمته، ومن تمام نعمة الله عليها، فالسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله شيئاً ولا يطلب منه ما يطلب منه في حياته ويطلب منه يوم القيامة شفاعة ولا استغفار ولا غير ذلك، وإنما كان نزاعهم في الوقوف للدعاء له والسلام عليه عند الحجرة، فبعضهم رأى هذا من السلام (4) .
واستحبه لذلك وبعضهم لم يستحبه إما لعدم دخوله، وأما لأن السلام المأمور به في


(1) هنا سقط قوله: ” بل ” كما في بعض النسخ.
(2) تقدم تخريجه.
(3) قلت: ومن القبور قبر النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبيه.
(4) تقدم.
(1/138)

القرآن مع الصلاة وهو السلام الذي لا يوجب الرد أفضل من السلام الموجب للرد، فإن هذا مما دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه السلف، فإن السلام المأمور به في القرآن كالصلاة المأمور بها في القرآن كلاهما لا يوجب عليه الرد، بل الله يصلي على من يصلي عليه ويسلم على من سلم عليه، ولأن السلام الذي يجب الرد هو حق للمسلم كما قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء 086) ولهذا يرد السلام على من سلم، وإن كان كافراً فكان اليهود إذا سلموا عليه يقول: (وعليكم) أو (عليكم) وأمر أمته بذلك، وإنما قال عليكم لأنه يقولون السام، والسام: الموت فيقول عليكم قال صلى الله عليه وسلم: ((يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا)) (1) .
ولما قالت عائشة وعليكم السام واللعنة، قال: مهلاً يا عائشة فإن الله رفيق بحب الرفق في الأمر كله أو لم تسمعي ما قلت لهم، يعني رددت عليهم فقلت عليكم، فهذا إذا قالوا السام عليكم، وأما إذا علم انهم قالوا السلام فلا يخصون في الرد فيقال عليكم، فيصير بمعنى السام عليكم ولا علينا، بل يقال وعليكم،وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته لهم وعليكم فإنما هو جزاء دعائهم وهو دعاء بالسلامة والسلام أمان فقال يكون المستجاب هي سلامتهم منا، أي من ظلمنا وعداوتنا، وكذلك كل من رد السلام على غيره، فإنما دعاء له بالسلامة، وهذا مجمل.
ومن الممتنع أن يكون كل من رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام من الخلق دعا له بالسلامة من عذاب الدنيا والآخرة، فقد كان المنافقون يسلمون عليه ويرد عليهم ويرد على المسلمين أصحاب الذنوب وغيرهم، لكن السلام فيه أمان، ولهذا لا يبتدأ الكافر الحربي بالسلام، بل لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابه إلى قيصر، قال فيه: ((من محمد رسول الله إلى قيصر عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى)) كما قال موسى لفرعون، والحديث في الصحيحين من رواية ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب في قصته المشهورة لما قرأ قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن أحواله (2) .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ابتداء اليهود بالسلام، فمن العلماء من حمل ذلك على العموم، ومنهم من رخص إذا كانت للمسلم إليه حاجة يبتدئه بالسلام بخلاف اللقاء، والكافر كاليهودي والنصارى يسلمون عليه وعلى أمته سلام التحية الموجب للرد؛ وأما


(1) تقدم صفحة 119 حاشية (1)
(2) أخرجه البخاري 1/32 فتح ومسلم 3/1393.
(1/139)

السلام المطلق فهو كالصلاة عليه، إنما يصلي عليه ويسلم عليه أمته، فاليهود والنصارى لا يصلون عليه ويسلمون عليه،وكانوا إذا رأوه يسلمون عليه، فذلك الذي يختص به المؤمنون ابتداء وجواباً أفضل من هذا الذي يفعله الكفار معه، ومع أمته ابتداء وجواباً، ولا يجوز أن يقال أن الكافر إذا سلموا عليه سلام التحية، فإن الله يسلم عليهم عشراً، بل كان النبي يجيبهم على ذلك فيوفيهم كما لو كان لهم دين فقضاه.
وأما ما يختص بالمؤمنين، فإذا صلوا عليه صلى الله على من صلى عليه عشراً، وإذا سلم عليه سلم الله عليه عشراً، وهذه الصلاة والسلام هو المشروع في كل مكان بالكتاب والسنة والإجماع، بل هو مأمور به من الله سبحانه وتعالى لا فرق في هذا بين الغرباء وبين أهل المدينة عند القبر.
وأما السلام عليه عند القبر فقد عرف أن الصحابة والتابعين المقيمين بالمدينة لم يكونوا يفعلونه إذا دخلوا المسجد وخرجوا منه، ولو كان هذا كالسلام عليه لو كان حياً لكانوا يفعلونه كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه كما لو دخلوا المسجد في حياته وهو فيه فإنه مشروع لهم كلما رأوه أن يسلموا عليه، بل السنة لمن جاء إلى قوم أن يسلم عليهم إذا قدم وإذا قام، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: ((ليست الأولى بأحق من الآخرة)) (1) فهو حين كان حياً كان أحدهم إذا أتى يسلم، وإذا قام يسلم ومثل هذا لا يشرع عند القبر باتفاق المسلمين، وهو معلوم بالاضطرار من عادة الصحابة، ولو كان سلام التحية خارج الحجرة مستحباً لكان مستحباً لكل أحد.


(1) أخرجه أحمد في مسند 2/439 من طريق ابن عجلان قال حدثني سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإن بدأ له أن يجلس فليجلس ثم إن قام والقوم جلوس فليسلم فليست الأولى بأحق من الأخرة، وابن عجلان اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة كما في ترجمته في تهذيب التهذيب والميزان.
ورواه أبو داود 5/386 والترمذي 5/62، كلاهما من طريق ابن عجلان وقال الترمذي عقبة:هذا حديث حسن وقد روى هذا الحديث أيضاً عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ورواه أيضاً النسائي في عمل اليوم والليلة رقم 369 – 371 من طريقة أيضاً، قلت فالحديث ضعيف لأن مدارة على ابن عجلان لكن قد تابعه يعقوب بن زيد أبو يوسف عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النسائي في عمل اليوم والليلة برقم 368 وسنده حسن، وقد نقل المحقق على عمل اليوم والليلة للنسائي أن الحافظ ابن حجر قال: مخرج هذا الحديث واحد وإن تعددت الأسانيد إلى محمد بن عجلان، وأشار إلى الفتوحات الربانية 5/314.
(1/140)

ولهذا كان أكثر السلف لا يفرقون بين الغرباء، وأهل المدينة ولا بين حال السفر وغيره، فإن استحباب لهذا (1) لهؤلاء وكراهته حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي ولا يمكن أحداً أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرع لأهل المدينة الإتيان عند الوداع للقبر وشرع لهم ولغيرهم ذلك عند القدوم من سفر، وشرع للغرباء تكرير ذلك كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، ولم يشرع ذلك لأهل المدينة، فمثل هذه الشريعة ليس منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه ولا هو معروف عن عمل الصحابة، وإنما نقل عن ابن عمر السلام عند القدوم من السفر (2) ، وليس هذا من عمل الخلفاء وأكابر الصحابة.
قلت: روى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر، عن أيوب، عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه، وأنبأه عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر فقال: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر (3) ، هكذا قال عبيد الله بن عمر العمري الكبير، وهو أعلم آل عمر في زمانه وأحفظهم وأثبتهم.
قال الشيخ: كما كان ابنعمر يتحرى الصلاة والنزول والمرور حيث حل ونزل وعبر ذلك في السفر (4) ، وجمهور الصحابة لم يكونوا يصنعون ذلك، بل أبوه عمر كان ينهي عن مثل ذلك، كما روى سعيد بن منصور في سننه، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المعرور بن سويد، عن عمر قال: خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في صلاة الفجر {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} (الفيل 1) و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (قريش 001) في الثانية، فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد، فقال: ما هذا؟ فقالوا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم اتخذوا آثار الأنبياء


(1) صوابه:هذا
(2) تقدم: وهو صحيح من فعل ابن عمر وحده.
(3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 3/576 وسنده صحيح.
(4) هذا ثابت عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان ينزل حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل وكان يصلي حيث كان يصلي ويبول حيث كان يبول وينام حيث كان ينام رضي الله عنه وهذا لم يكن يفعله غير ابن عمر كما ذكره المؤلف رحمه الله.
(1/141)

بيعاً، من عرض له منكم الصلاة (1) فليصل، ومن لم يعرض له فليمض (2) .
ومما اتفق عليه الصحابة ابن عمر وغيره من أنه لا يستحب لأهل المدينة الوقوف عند القبر للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا، بل يكره ذلك، يبين ضعف حجة من احتج بقوله: ((ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) (3) .
فإن هذا لو دل على استحباب السلام عليم من المسجد لما اتفق الصحابة على ترك ذلك ولم يفرق في ذلك بين القادم من السفر وغيره، فلما اتفقوا على ترك ذلك مع تيسره على أنه غير مستحب، بل لو كان جائز لفعله بعضهم، فدل على أنه كان عندهم المنهي عنه، كما دلت عليه سائر الأحاديث.
وعلى هذا فالجواب عن الحديث إما بتضعيفه (4) على قول من يضعفه، وإما بأن ذلك يوجب فضيلة الرسول صلى الله عليه وسلم بالرد لا فضيلة المسلم بالرد عليه، إذا كان هذا من باب المكافأة والجزاء حتى إنه يشرع للبر والفاجر التحية بخلاف ما يقصد به الدعاء المجرد وهو السلام المأمور به، وإما بأن يقال: هذا إنما هو من سلم عليه من قريب والقريب أن يكون في بيته، فإنه لم يجد بذلك لم يبق له حد محدود من جهة الشرع كما تقدم ولا ترغيب له في ذلك ولا ذكر أجر له كما جاء في الصلاة والسلام المأمور بهما، فإنه قد وعد أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً (5) ، وكذلك من سلم عليه (6) ، وأيضاً فهو مأمور بهما وكل مأمور به ففاعله محمود مشكور مأجور.
وأما قوله: ((من رجل يمر بقبر الرجل فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد


(1) هذا سقط والصواب الصلاة فيه فليصل.
(2) أثر عمر بن الخطاب ذكره شيخ الإسلام في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم ص386 فقال روى سعيد بن منصور في سننه قال حدثنا أبو معاوية الأعمش عن معرور بن سويد عن عمر رضي الله عنه رأى الناس يذهبون مذاهب … فذكره.
قلت: الأعمش مدلس وقد عنعن لكن قد أخرج الأثر ابن وضاح في كتابه البدع والنهي عنها وفيه تصريح الأعمش بالتحديث فالأثر صحيح والله أعلم.
(3) تقدم.
(4) ضعف الحديث الدارقطني.
(5) تقدم صفحة 115 حاشية (3) .
(6) تقدم صفحة 116 حاشية (1) .
(1/142)

عليه السلام (1) ، وما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) (2) فإنما فيه مدح المسلم عليه والإخبار بسماعه السلام وأنه يرد السلام فيكافئ المسلم عليه لا يبقى للمسلم عليه فضل، فإنه بالرد يحصل المكافأة، كما قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء 086)
ولهذا كان الرد من باب العدل المأمور به الواجب لكل مسلم إذا كان سلامه مشروعاً، وهذا كقوله: من سألنا أعطيناه ومن لم يسألنا أحب إلينا (3) . هو إخبار بإعطائه السائل ليس هذا أمراً بالسؤال، وإن كان السلام ليس مثل السؤال، لكن هذا اللفظ إنما يدل على مدح الراد وأما المسلم فيقف الأثر فيه على الدليل.
وإذا كان المشروع لأهل المدينة أن لا يقفوا عند الحجرة ويسلموا ‘ليه علم قطعاً أن الحديث لم يرغب في ذلك، ومما يبين ذلك أن مسجدة كسائر المساجد لم يختص بجنس من العبادات لا تشرع في غيره، وكذلك المسجد الأقصى، ولكن خصاً بأن العبادة


(1) هذا حديث عائشة رضي الله عنها رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور كما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الروح عند المسألة الأولى بسند ابن أبي الدنيا لكن في سنده عبد الله بن سمعان وهو عبد الله بن أبي زياد بن سليمان بن سمعان وهو كذاب كما في تهذيب التهذيب والميزان.
وذكر حديثاً آخر من حديث أبي هريرة وفيه شيخ ابن أبي الدنيا وهو محمد بن قدامة الجوهري ترجم له صاحب الميزان قال فيه ابن معين ليس شيء وقال أبو داود ضعيف لم أكتب عنه شيئاً. أهـ. وذكر الشنقيطي رحمه الله تعالى عند تفسيره قوله تعالى: ((إنك لتسمع الموتى)) في سورة النمل بحثاً نفيساً في هذا الباب فليراجع.
(2) من قوله: ما من رجل يسلم على إلخ.. تقدم الكلام فيه.
(3) الحديث بهذا المعنى رواه أحمد في مسنده 3/44 وهو من طريق أبي حمزة وهو عبد الرحمن بن عبد الله جار شعبة وهو مقبول كما في التقريب لابن حجر يعني حيث يتابع وإلا فلين.
وفي السند أيضاً هلال بن حصن أخو بني قيس بن ثعلبه وهو مجهول الحال، ترجم له بل من البخاري في التاريخ الكبير وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً فالحديث ضعيف.
لكن ثبت الشطر الأول منه كما في مسند الإمام أحمد 3/3، 3/44 من حديث أبي بشر عن أبي نصرة عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً من الأنصار كانت به حاجة فقالت له أهله، إثت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأتاه وهو يخطب وهو يقول: من استف أعفه الله ومن استغنى أغناه الله ومن سألنا فوجدنا له أعطيناه. قال: فذهب ولم يسأل.
(1/143)

فيها أفضل بخلاف المسجد الحرام، فإن مخصوص بالطواف واستسلام الركن وتقبيل الحجر وغير ذلك.
وأما المسجدان الأخران فما يشرع فيهما من صلاة وذكر واعتكاف وتعلم وتعليم وثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم وصلاة عليه وتسليم عليه وغير ذلك من العبادات فهو مشروع في المسجد، فعلم أن المشروع من ذلك العمل مشروع في سائر المساجد لا اختصاص لقبره بجنس من أجناس العبادات، ولكن العبادة في مسجدة أفضل منها في غيره لأجل المسجد لا لأجل القبر.
قال الشيخ (1) : ومما يوضح هذا أنه لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم باسم زيارة قبره لا ترغيباً في ذلك ولا غير ترغيب، فعلم أن مسمى هذا الاسم لم يكن له حقيقة عندهم، ثم ذكر ما حكيناه عنه فيما تقدم ثم قال.
والمقصود أن هذا كله يبين ضعف حجة المفرق بني الصادر من المدينة والوارد عليها، والوارد على مسجده من الغرباء والصادر عنه، وذلك إنه يمتنع أن يقال: أنه يرد على هؤلاء ولا يرد على أحد من أهل المدينة المقيمين بها، فإن أولئك هم أفضل أمته وخواصها، وهم الذين خاطبهم بهذا، فيمتنع أن يكون المعنى: من سلم منكم يا أهل المدينة لم أرد عليه ما دمتم مقيمين بها، فإن المقام بها هو غالب أوقاتهم، وليس في الحديث تخصيص ولا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك.
يبين هذا أن الحجرة لما كانت مفتوحة وكانوا يدخلون على عائشة لبعض الأمور فيسلمون عليه، إنما كان يرد عليهم إذا سلموا، فإن قيل: إنه ل يكن يرد عليهم، فهذا تعطيل للحديث، وإن قيل: كان يرد عليهم من هناك ولا يرد إذا سلموا من خارج فقد أظهر الفرق، وإن قيل: بل هو يرد على الجميع فحينئذ إن كان رده لا يقتضي استحباب هذا السلام بطل الاستدلال به، وإن كان رده يقتضي الاستحباب وهو الآن مختص بمن سلم من خارج لزم أن يستحب لأهل المدينة السلام عند الحجرة، كلما دخلوا المسجد وخرجوا.
وهو خلاف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وخلاف قول المفرقين


(1) في الرد على الأخنائي ص 110 – 119 ,
(1/144)

ومن أهل المدينة من قد لا يسافر منها أولا يسافر إلا للحج، والقادم قد يقيم بالمدينة الشعر والشهر، فهذا يرد عليه عشر مرات في اليوم والليلة وأكثر كلما دخل وكلما خرج وذلك المدني المقيم لا يرد عليه قط في عمره ولا مرة.
وأيضاً استحباب هذا للوارد والصادر تشبيه له بالطواف الذي يشرع للحاج عند الورود إلى مكة وهو الذي يسمى طواف القدوم التحية وطواف الورود وعند الصدر، وهو الذي يسمى طواف الوداع، وهذا تشبيه لبيت المخلوق ببيت الخالق، ولهذا لا يجوز الطواف بالحجرة بالاجماع، بل ولا الصلاة إليها كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أنه قال صلى الله عليه وسلم ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) (1) .
وأيضاً فالطواف بالبيت يشرع لأهل مكة ولغيرهم، كلما دخلوا المسجد، والوقوف عند القبر كلما دخل المدينة لا يشرع بالاتفاق، فلم يبق الفرق بين المدني وغير المدني له أصل في السنة، ولا نظير في الشريعة، ولا هو بما سنه الخلفاء الراشدون وعمل به عامة الصحابة، فلا يجوز أن يجعل هذا من شريعته وسننه، وإذا فعله من الصحابة الواحد والاثنان والثلاثة وأكثر دون غيرهم كان غايته أنه يثبت به التسويغ بحيث يكون هذا مانعاً من دعوى الإجماع على خلافه، بل يكون كسائر المسائل التي ساغ فيها الاجتهاد لبعض العلماء، أما أن يجعل من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وشريعته وحكمه ولم تدل عليه سنته لكون بعض السلف فعل ذلك فهذا لا يجوز.
ونظير هذا مسحه للقبر، قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله يعني الإمام أحمد بن حنبل، قبل النبي صلى الله عليه وسلم يلمس ويتمسح به؟ قال: ما أعرف هذا قلت له فالمنبر؟ قال: أما المنبر فنعم، قد جاء فيه، قال أبو عبد الله: شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب، عن ابن عمر أنه مسح على المنبر (2) ، قال: ويرونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة، قلت: ويروي عن يحيى بن سعيد، يعني الأنصاري شيخ مالك وغيره أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسن ذلك، ثم قال: لعله


(1) تقدم.
(2) قلت قد ثبت تبرك الصحابة بآثار التي عليه الصلاة والسلام في حياته وبعد موته وقول الإمام أحمد هذا فيما إذا وجد شيء من آثاره وأما في زماننا هذا فما أظن أنها توجد وأما ما يزعمه كثير من المتصرفه فإنه كذب محض لا يشك فيه عاقل أحدهم يرى رؤية منامية فيصور له الشيطان صورة حذاء فيصبح يوسمها في ورقة ثم يتبرك بها فالله المستعان.
(1/145)

عند الضرورة والشيء، قلت لأبي عبد الله: أنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر، وقلت
(1/146)

له: ورأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ويقومون ناحيته فيسلمون، فقال أبو عبد الله: نعم، وهكذا كان ابن عمر يفعل ذلك، ثم قال أبو عبد الله، بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر أحمد بن حنبل أيضاً في منسك المرودي نظير ما نقل عن ابن عمر، وابن المسيب ويحيى بن سعيد، وهذا كله إنما يدل على التسويغ، وإن هذا مما فعله بعض الصحابة فلا يقال: انعقد اجماعهم على تركه بحيث يكون فعل من فعل ذلك اقتداء ببعض السلف لم يبتدع هو شيء من عنده.
وأما أن يقال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ندب إلى ذلك ورغب فيه وجعله عبادة وطاعة يشرع فعلها، فهذا يحتاج إلى دليل شرعي لا يكفي في ذلك فعل بعض السلف، ولا يجوز أن
(1/147)

يقال أن الله ورسوله يحب ذلك أو يكره وأنه سن ذلك وشرعه، أو نهى ذلك وكرهه، ونحو ذلك إلا بدليل يدل على ذلك لا سيما إن عرف أن جمهور أصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك، فيقال: لو كان هو ندبهم إلى ذلك وأحبه لهم لفعلوه، فإنهم كانوا أحرص الناس على الخير، ونظائر هذا متعددة والله أعلم.
والمؤمن قد يتحرى الدعاء والصلاة في مكان دون مكان لاجتماع قلبه فيه وحصول خشوعه فيه، لا لأنه يرى أن الشارع فضل ذلك المكان كصلاة الذي يكون في بيته ونحو ذلك، فمثل هذا إذا لم يكن منهياً عنه، فلا بأس به، ويكون ذلك مستحباً في حق ذلك الشخص لكون عبادته فيه أفضل، كما إذا صلى القوم خلف إمام يحبونه كانت صلاتهم أفضل من أن يصلوا خلف من هم له كارهون؛ وقد يكون العمل المفضول في حق بعض الناس أفضل لكونه أنفع له، وكونه أرغب فيه، وهو أحب إليه من عمل أفضل منه لكونه يعجز عنه، فهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص وهو غير ما ثبت فضل جنسه بالشرع كما ثبت أن الصلاة أفضل ثم القراءة.
ثم الذكر بالادلة الشرعية، مع أن العمل المفضول في مكانه هو أفضل من الفاضل في غير مكانه كفضيلة الذكر والدعاء والقراءة بعد الفجر والعصر على الصلاة المنهي عنها في هذا الوقت، وكفضيلة التسبيح في الركوع والسجود على القراءة، لأنه نهي أن يقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً وكفضيلة الدعاء في الصلاة على القراءة هناك لأنه موطن الدعاء، ونظائر هذا متعددة وبسط هذا له موضع آخر.
لكن المقصود هنا أن يعلم أن ما قيل: أنه مستحب للأمة وقد نبدهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ورغبهم فيه، فلا بد له من دليل يدل على ذلك، ولا يضاف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ما صدر عنه، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فرض الله على جميع الخلق الإيمان به وطاعته واتابعه وإيجاب ما أوجبه، وتحريم ما حرمه وشرع ما شرعه، وبه فرق الله بين الهدى والضلال: والرشاد والبغي والحق والباطل، والمعروف والمنكر.
وهو الذي شهد الله له بأنه يدعو إليه بإذنه ويهدي إلى صراط مستقيم وأنه على صراط مستقيم، الذي جعل الرب طاعته طاعة له في مثل قوله: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} (النساء 080) وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} (النساء 064) وهو الذي لا سبيل لأحد إلى النجاة إلا بطاعته ولا يسأل الناس يوم القيامة إلا عن
(1/148)

الإيمان به وإتباعه وطاعته، وبه يمتحنون في القبور (1) ، قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (الأعراف 006) وهو الذي أخذ الله له الميثاق على النبيين وأمرهم أن يأخذوا على أممهم الميثاق أنه إذا جاءهم أن يؤمنوا به ويصدقوه، وهو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار، فمن آمن به وأطاعه كان من أهل الجنة، ومن كذبه وعصاه كان من أهل النار قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (النساء 013-014)
والوعد بسعادة الدنيا والآخرة والوعيد بشقاوة الدنيا والآخرة يتعلق بطاعته، فطاعته هي الصراط المستقيم، وهي حبل الله المتين، وهي العروة الوثقى، وأصحابها هم أولياء الله المتقون، وحزبه المفلحون وجنده الغالبون، والمخالفون لهم هم أعداء الله حزب إبليس اللعين، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} (الفرقان 027-029)
وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (الأحزاب 066-068) وقال تعالى {قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (آل عمران 032) وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (النساء 065) وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور 063) وقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ


(1) يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه البخاري (باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف 2/542 وفيه أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريباً من فتنة الدجال يؤتي بأحدكم فيقال له ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا واتبعنا.. الحديث، وأخرجه مسلم 2/624 وأخرجه البخاري عن أنس في باب ما جاء في عذاب القبر 3/232 وفيه ((ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله.. الحديث)) رواله أحمد 6/139- 140 والترمذي 3/374.
(1/149)

الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النساء 069) ذلك الفضل من الله.
وجميع الرسل أخبروا بأن الله أمر بطاعتهم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} (النساء 064) يأمرون بعبادة الله وجده وتقواه وحده وخشيته وحده ويأمرون بطاعتهم، كما قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور 052) وقال نوح: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (نوح 003) وقال في الشعراء ((فاتقوا الله وأطيعون)) وكذلك قال هود وصالح ولوط وشعيب، والناس محتاجون إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته في كل زمان ومكان ليلاً ونهاراً سفراً وحضراً، سراً وعلانية، جماعة وفرادى، وهم أحوج إلى ذلك من الطعام والشراب، بل من النفس، فإنهم متى فقدوا ذلك فالنار جزاء من كذب بالرسول وتولى عن طاعته.
وكما قال تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (الليل 014-016) أي كذب بما أخبر به وتولى عن طاعته، كما قال تعالى في موضع آخر: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (القيامة 031-032) وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (0) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} (المزمل 015-016) وقال: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا} (النساء 041-042)
والله تعالى قد سماه سراجاً منيراً، وسمي الشمس سراجاً وهاجاً، والناس إلى السراج المنير أحوج منهم إلى السراج الوهاج، فإنهم يحتاجون إليه ليلاً ونهاراً سراً وعلانية، وهو أنفع لهم، فإنه منير ليس فيه أذى بخلاف الوهاج فإنه ينفع تارة ويضر أخرى.
ولما كانت حاجة الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به وطاعته، ومحبته وموالاته وتعظيمه وتعزيزه وتوقيره عامة في كل مكان وزمان، كان ما يؤمر به من حقوقه عاماً لا يختص بقبره، فمن خص قبره بشيء من الحقوق كان جاهلاً بقدر الرسول صلى الله عليه وسلم وقدر ما أمر الله به من حقوقه، وكل من اشتغل بما أمر الله به من طاعته شغله ذلك عما نهى عنه من البدع المتعلقة بقبره وقبر غيره، ومن اشتغل بالبدع المنهي عنها ترك ما أمر به
(1/150)

الرسول صلى الله عليه وسلم من حقه، فطاعته هي مناط السعادة والنجاة والذين يحجون إلى القبور ويدعون الموتى من الأنبياء وغيرهم عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأشركوا بالرب ففاتهم ما أمروا به من تحقيق التوحيد، والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وجميع الخلق يأتون يوم القيامة فيسألون عن هذين الأصلين ماذا كنتم تعبدون، وماذا أجبتم المرسلين كما بسط هذا في موضعه، والمقصود أن الصحابة كانوا في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين يدخلون المسجد، ويصلون فيه الصلوات الخمس ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلمون عليه عند دخول المسجد وبعد دخوله ولم يكونوا يذهبون ويقفون إلى جانب الحجرة ويسلمون عليه هناك، وكان على عهد الخلفاء الراشدين والصحابة حجرته خارجة عن المسجد، ولم يكن بينهم وبينه إلا الجدار.
ثم إنه إنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان من آخرهم موتاً جبر بن عبد الله وهو توفي خلافة عبد الملك، فإنه توفي سنة ثمان وسبعين، والوليد توفي سنة ست وثمانين وتوفي سنة ست وتسعين فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك.
وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة التميري في كتاب أخبار مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إشاخة وعمن حدثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائباً للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة، وعمل سقفه بالساج وماء الذهب وهدم حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه، ثم ذكر الشيخ الآثار المروية في عمارة عمر بن عبد العزيز المسجد وزيادته فيه، وذكر أن حكم الزيادة حكم المزيد فقال (1) :
وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده حكم المزيد تضعف فيه الصلاة بألف صلاة (2) ، كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد، فيجوز الطواف فيه


(1) في الرد على الأخنائي ص125-126.
(2) قلت بل الراجح أن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي كان على عهده هو الذي يضاعف فيه الأجر إلى ألف صلاة وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام، صلاة في مسجدي هذا فلفظ الإشارة ” هذا ” قيدت المسجد بالذي كان في عهده بخلاف المسجد الحرام ولهذا صرح به الإمام النووي كما في شرحه على صحيح مسلم، والله أعلم.
(1/151)

والطواف لا يكون إلا في المسجد لا خارجاً منه، ولهذا اتفق الصحابة على أنهم يصلون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر، ثم عثمان، وعلى ذلك عمل المسلمين كلهم، فلولا أن حكمة حكم مسجده لكانت تلك صلاة في غير مسجده، والصحابة وسائر المسلمين بعدهم لا يحافظون عن العدول عن مسجده إلى غير مسجده ويأمرون بذلك.
قال أبو زيد: حدثني محمد بن يحيى، حدثني من أثق (1) به أن عمر زاد في المسجد من القبلة إلى موضع المقصورة التي هي به اليوم، قال، فأما الذي لا يشك فيه أهل بلدنا أن عثمان هو الذي وضع القبلة في موضعها اليوم، ثم لم تغير بعد ذلك قال أبو زيد، حدثنا محمد بن يحيى، عن محمد بن عثمان، عن مصعب بن ثابت، عن خباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً وهو في مصلاه: ((لو أردنا في مسجدنا)) وأشار بيده نحو القبلة (2) .


(1) هذا مبهم ثم هو بينه وبني عمر رضي الله عنه مفاوز فلا يصح الأثر لهاتين العلتين.
(2) هذه الأحاديث ذكرها صاحب ” كشف الخفاء 2/27 ” تحت حديث رقم 1605 ” صلا في مسجدي هذا ولو وسع إلى صنعاء اليمن بألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ” قال فيه المقاصد قال شيخنا قد مر بي ولا استحضره، الآن هل هو بلفظه أو بمعناه ولا في أي الكتب هو قلت أخرجه ابن شبه في أخبار المدينة والديلمي، عن أبي هريرة مرفوع بلفظ لو مد مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجده وأخرجه ابن شبه أيضاً عن خباب أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال يوماً وهو في مصلاه لو زاد مسجدنا وأشار بيده نحو القبلة، وهو منطقع مع لين مصعب أحد رواته ولو ثبت لكان همه منزلاً فعله عند القائل بذلك، ولا بن شبه أيضاً عن عمر بن الخطاب قال لو مد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لكان منه وهو معضل ولو ثبت لكان حكمه الرفع، وله أيضاً عن أبي عمرة أنه قال زاد عمر رضي الله عنه في المسجد في شامه ثم قال لودنا فيه حتى يبلغ الجبانة لكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكن في مسند ابن ابي ثابت متروك الحديث وبالجملة فليس فيها ما تقوم به الحجة ولا مجموعها ولذا صحح النووي اختصاص التضعيف بمسجده الذي كان عملاً بالإشارة في الحديث المتفق عليه بلفظ “صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ” والمروي في مسلم عن ابن عمر أيضاً دون ما زيد فيه، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة والديلمي عن أبي هريرة رضي الله عنه من قوله والله لو مد هذا المسجد إلى باب داري ما غدوت أن أصلي فيه فمحتمل لذلك لجواز عودة الضمير من فيه إلى أصل المسجد أو الباب داره وإن كان الثاني بعيداً مع أن الحديث ليس بثابت وأخره أحمد وابن ماجة عن جابر رضي الله عنه وزاد فيه وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه، ورواه الطبراني عن أبي الدرداء، والبيهقي عن جابر بسند حسن بلفظ= =صلاة في المسجد الحرام بمائة الف صلاة وصلاة في مسجد ألف صلاة وصلاة في بيت المقدس خمسمائة صلاة، ورواه البيهقي عن ابن عمر بلفظ صلاة في مسجدي هذا كألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصيام شهر رمضان بالمدينة كصيام ألف شهر فيما سواه وصلاة الجمعة بالمدينة كألف جمعة فيما سواه. أهـ، بحروفه.
(1/152)

حدثنا محمد بن يحيى عن محمد بن إسماعيل، عن ابن أبي ذلب قال: قال عمر: لو مد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة لكان منه، حدثنا محمد بن يحيى عن سعيد بن سعيد، عن أخيه، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو بني هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدي)) فكان أبو هريرة يقول: والله لومد هذا المسجد إلى داري ما عدوت أن أصلي فيه (1) .
حدثنا محمد، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن فليح بن سليمان، عن ابن أبي عمرة قال: زاد عمر في المسجد في شاميه، ثم قال: لو زدنا فيه حتى يبلغ الجبانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ، قال: وهذا الذي جاءت به الآثار هو الذي يدل على كلام الأئمة المتقدمين وعملهم فإنهم قالوا: إن الصلاة الفرض خلف الإمام أفضل وهذا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة، وكذلك كان الأمر على عهد عمر وعثمان فإن كليهما زاد من قبلي المسجد فكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه بالسنة والإجماع وإذا كان كذلك فيمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده، وأن يكون الخلفاء والصفوف الأول كانوا يصلون في غير مسجده، وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا لكن رأيت بعض المتأخرين، قد ذكر أن الزيادة ليس من مسجده، وما علمت لمن ذكر ذلك سلفاً من العلماء.
قال (3) : وهذه الأمور تبنها عليها هاهنا، فإنه يحتاج إلى معرفتها.
أكثر الناس لا يعرفون الأمر كيف كان ولا حكم الله ورسوله في كثير من ذلك، وكان المقصود أن المسجد لما زاد فيه الوليد وأدخلت فيه الحجرة، كان قد مات عامة الصحابة، ولم يبق إلا من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ سن التمييز الذي يؤمر فيه بالطاهرة والصلاة، ومن المعلوم بالتواتر أن ذلك كان في خلافة الوليد بن عبد الملك، وقد ذكروا أن ذلك كان سنة إحدى وتسعين.
وأن عمر بن عبد العزيز مكث في بنائه ثلاث سنين، وسنة ثلاث وتسعين مات فيها خلق كثير من التابعين مثل سعيد بن المسيب وغيره من الفقهاء السبعة، ويقال لها سنة


(1) انظر التعليق ص152.
(2) راجع الفقرة المتقدمة فقد ذكرنا أن النووي يقول بذلك.
(3) في الرد على الأخنائي ص127-131.
(1/153)

الفقهاء، وجابر بن عبد الله، وكان من السابقين الأولين ممن بايع بالعقبة وتحت الشجرة ولم يكن بقي من هؤلاء غيره لما مات، وذلك قبل تغيير المسجد بسنين، ولم يبق بعد ممن كان بالغاً حين موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا سهل بن سعد الساعدي، فإنه توفقي سنة ثمان وثمانين، وقيل: سنة إحدى وتسعين، ولهذا قيل فيه: أنه آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال أبو حاتم البستي وغيره، وأما من مات بعد ذلك فكانوا صغاراً مثل السائب بن يزيد الكندي ابن أخت نمر، فإنه مات بالمدينة سنة إحدى وتسعين، وقيل: أنه مات بعده عبد الله بن أبي طلحة الذي حنكه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك محمود بن الربيع الذي عقل مجه ومجها رسول صلى الله عليه وسلم في وجه من بئر كان في دارهم وله خمس سنين، مات سنة تسع وتسعين وله ثلاث وتسعون سنة، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف سماه النبي صلى الله عليه وسلم أسعد باسم أسعد بن زراره مات سنة مائة.
لكن هؤلاء لم يكن لهم في حياته من التميز ما ينقلون عنه أقواله وأفعاله التي ينقلها الصحابة مثل ما ينقلها جابر وسهل بن سعد وغيرهما، وأما ابن عمر فكان قد مات قبل ذلك بعد قتل ابن الزبير بمكة سنة أربع وسبعين، وابن عباس مات قبل ذلك بالطائف سنة ثمان وستنين، فهؤلاء وأمثالهم من الصحابة لم يدرك أحد منهم تغير المسجد وإدخال الحجرة فيه، وأنس بن مالك كان بالبصرة، ولم يكن بالمدينة وقيل: أنه آخر من مات بها من الصحابة.
وكان حجر أزواج النبي شرقي المسجد وقليلة، وقبل، وشامية فاشتريت من ملاكها ورثة أزواجه وزيدت في المسجد، فدخلت حجرة عائشة، وكان الذي تولى ذلك عمر بن عبد العزيز نائب الوليد على المدينة فسد باب الحجرة وبنوا حائطاً آخر عليها غير الحائط القديم، فصار المسلم عليه من وراء الجدار أبعد من المسلم عليه لما كان جداراً واحداً.
قال هؤلاء: ولو كان سلام التحية الذي يرده على صاحبه مشروعاً في المسجد لكان له حد ذراع أو ذراعان، أو ثلاثة فلا يعرف الفرق بين المكان الذي يستحب فيه هذا السلام والمكان الذي لا يستحب فيه، فإن قيل: من سلم عليه عند الحائط الغربي رد عليه، قيل: وكذلك من كان خارج المسجد، وإلا فما الفرق حينئذ فيلزم أن يرد على جميع أهل الأرض، وعلى كل مصل في كل صلاة كما ظنه بعض الغالطين، ومعلوم بطلان ذلك، وإن قيل: يختص بقدر بين المسلم وبين الحجرة، قيل: فما حد ذلك وهم لهم قولان: منهم من يستحب القرب من الحجرة، كما استحب ذلك مالك وغيره، ولكن
(1/154)

يقال فما حد ذلك القرب، وإذا جعل له حد، فهل يكون من خرج عن الحد فعل المستحب، وآخرون من المتآخرون يستحبون التباعد عن الحجرة كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي، فهل هو يذراع، أو باع أو أكثر وقدرة من قدره من أصحاب أبي حنيفة بأربعة أذرع، فإنهم قالوا: يكون حين يسلم عليه مستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره ولا يدنوا أكثر من ذلك، وهذا والله أعلم قاله المتقدمون، لأن المقصود به السلام المأمور به في القرآن كالصلاة عليه ليس المقصود به سلام التحية الذي يرد جوابه المسلم عليه، فإن هذا لا يشرع فيه هذا البعد ولا يستقبل به القبلة ولا يسمع إذا كان بالصوت المعتاد.
وبالجملة: فمن قال أنه يسلم سلام التحية الذي يقصد به الرد فلا بد من تحديد مكان ذلك، فإن قال: إلى أن يسمع ويرد السلام، فإن حد في ذلك ذراعاً، أو ذراعين أو عشرة أذرع، أو قال: إن ذلك في المسجد كله، أو خارج المسجد، فلا بد له من دليل والأحاديث الثابتة عنه فيها أن الملائكة يبلغونه صلاة من صلى عليه وسلم من يسلم عليه ليس في شيء منها أنه يسمع بنفسه ذلك، فمن زعم أنه يسمع ويرد من خارج الحجرة من مكان دون مكان، فلا بد له من حد معلوم أنه ليس في ذلك حد شرعي، وما أحد يحد في ذلك حداً إلا عورض بمن يزيده أو ينقصه ولا فرق.
وأيضاً فذلك يختلف باختلاف ارتفاع الأصوات وانخفاضها، والسنة للمسلم في السلام عليه خفض الصوت، ورفع الصوت في مسجده منهي عنه بالسلام والصلاة وغير ذلك بخلاف المسلم من الحجرة فإنه فرق ظاهر بينه وبين المسلم عليه من المسجد ثم السنة لمن دخل مسجده أن يخفض صوته فالمسلم عليه إذا رفع الصوت أساء الأدب برفع الصوت في المسجد وإن لم يرفع لم يصل الصوت إلى داخل الحجرة، وهذا بخلاف السلام الذي أمر الله به ورسوله الذي يسلم الله على صاحبه، كما يصلي على من صلى عليه، فإن هذا مشروع في كل مكان لا يختص بالقبر.
وبالجملة فهذا الموضوع فيه نزاع قديم بين العلماء وعلى كل تقدير فلم يكن عند أحد من العلماء الذين استحبوا سلام التحية في المسجد حديث في استحباب زيارة قبره يحتجون به، فعلم أن هذه الأحاديث ليست مما يعرفه أهل العلم، ولهذا لما تتبعت وجدت روايتها إما كذاب وإما ضعيف سيئ الحفظ ونحو ذلك، كما قد بين في غير هذا الموضع، وهذا الحديث الذي فيه: ((ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى
(1/155)

أرد عليه السلام)) (1) ، قد احتج به أحمد وغيره من العلماء، وقيل: هو على شرط مسلم وهو معروف من حديث حيوه من شريح المصري الرجل الصالح الثقة، عن أبي صخر عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، وأبو صخر هذا متوسط، ولهذا اختلف فيه عن يحيى بن معين فمرة، قال: هو ضعيف، ووافقه النسائي ومرة قال: لا بأس به ووافقه أحمد.
فلو قدر أن هذا الحديث مخالف لما هو أصح منه وجب تقديم ذاك عليه، ولكن السلام على الميت ورده السلام على من سلم عليه قد جاء في غير هذا الحديث، ولو أريد إثبات سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث لكان هذا مختلفاً فيه فالنزاع في إسناده وفي دلالة متنه، ومسلم روى بهذا الإسناد قوله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها ثم تتبعها حتى تدفن كان له قيراطان من الأجر كل قيراط مثل أحد،ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد)) (2) وهذا الحديث قد رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة (3) وعائشة (4) من غير هذا الطريق، ومسلم قد يروي عن الرجل المتابعات ما لا يرويه فيما انفرد به، وهذا معروف منه في عدة رجال يفرق بين من يروي عنه ما هو معروف من رواية غيره وبين من يعتمد عليه فيما ينفرد به، ولهذا كثير من أهل العلم يمتنعوا أن يقولوا في مثل ذلك: هو على شرط مسلم، أو البخاري، كما بسط هذا في موضعه.
الوجه الثامن: من أنه لو كان في هذا الباب حديث صحيح لم يخف عن الصحابة والتابعين بالمدينة، ولو كان ذلك معروف عندهم لم يكره أهل العلم بالمدينة مالك وغيره أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كرهوا هذا القول دل على أنه ليس عندهم فيه أثر لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه.


(1) تقدم الكلام عليه.
(2) الحديث أخرجه مسلم 2/653 عن محمد بن عبد الله بن نمير وأبو داود 3/516 عن هارون بن عبد الله وحسين بن عبد الله الهوري ثلاثتهم عن عبد الله بن يزيد المقرئ عن حيوة بن شريح عن أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن داود عن عامر بن سعيد بن أبي وقاص عن أبيه أنه قال كنت قاعداً عند عبد الله بن عمر إذ طلع خباب صاحب المقصورة فقال يا عبد الله بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:.. فذكره.
(3) البخاري 3/192 ومسلم 2/653.
(1/156)

الوجه التاسع: إن الذين كرهوا هذا القول والذين لم يكرهوه من العلماء متفقون على أن السفر إلى زيارة قبره، إنما هو سفر إلى مسجده، ولو لم يقصد إلا السفر إلى القبر لم يمكنه أن يسافر إلا إلى المسجد، لمن قد يختلف الحكم بينه كما تقدم، وأما زيارة قبره كما هو المعروف في زيارة القبور، فلهذا ممتنع غير مقدور ولا مشروع، وبهذا يظهر أن الذين كرهوا أن يسموا هذا زيارة لقبره قولهم أولى بالصواب، فإن هذا ليس زيارة لقبره ولا فيه ما يختص بالقبر، بل كل ما يفعل فإنما هو عبادة تفعل في المساجد كلها أو في غير المساجد أيضاً، ومعلوم أن زيارة القبر لها اختصاص بالقبر، ولما كانت زيارة لقبره، ولا فيه ما يختص بالقبر، ولما كانت زيارة قبره المشروعة إنما هي سفر إلى مسجده وعبادة في مسجده ليس فيها ما يختص بالقبر كان قول من كره أن يسمي هذا زيارة لقبره أولى بالشرع والعقل واللغة، ولم يبق إلا السفر إلى مسجده، وهذا مشروع بالنص والاجماع، والذين قالوا: يستحب زيارة قبره، إنما أرادوا هذا فليس بين العلماء خلاف في المعنى، بل في التسمية والإطلاق.
والمجيب لم يحك نزاعاً في استحباب هذه الزيارة الشرعية التي تكون في مسجده وبعضهم يسميها زيارة لقبره، وبعضهم يكره أن تسمي زيارة لقبره والمجيب يستحب منا يستحب بالنص والإجماع وقد ذكر ما فيه النزاع كان الحاكي عند خلاف ذلك كاذباً مفترياً يستحق ما يستحقه أمثاله من المفترين.
ثم حكى الشيخ عن المعترض المالكي أنه قال: وتضافرت النصوص عن الصحابة والتابعين، وعن السادة العلماء المجتهدين بالحض على ذلك والندب إليه والغبطة لمن سارع لذلك وداوم عليه، حتى نحا بعضهم في ذلك إلى الوجوب، ورفعه عن درجة المباح والمندوب، ولم يزل الناس مطبقين على ذلك قولاً وعملاً لا يشكون في ندبه ولا يبغون عنه حولاً.
وفي مسند ابن أبي شيبة: ((من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائباً سمعته)) (1) قال الشيخ: هكذا في النسخة التي حضرت إلي مكتوبة عن المعترض، وقد صحح على (سمعه) وهو غلط، فإن لفظ الحديث من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائباً بلغته، هكذا ذكره الناس، وهكذا ذكره القاضي عياض عن ابن أبي شيبة


(1) انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للشيخ ناصر حفظه الله تعالى حديث رقم 203 حديث استوفى البحث في هذا البحث فجزاه الله خيراً والأحاديث التي ذكرها المؤلف بعد هذا قد تقدمت.
(1/157)

وهذا المعترض عمدته في مثل هذا الكتاب القاضي عياض.
وهذا الحديث قد رواه البيهقي من حديث العلاء بن عمرو الحنفي، حدثنا أبو عبد الرحمن، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائباً بلغته)) قال البيهقي: أبو عبد الرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى، وفيه نظر وقد مضى ما يؤكده.
قلت (1) : هو تبليغ صلاة أمته وسلامه عليه، كما في الأحاديث المعروفة، مثل الحديث الذي في سنن أبي داود عن حسين الجعفي، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد عن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس الثقفي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يقولون: بليت، فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) .
وهذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة، ورواه أبو حاتم، قال البيهقي: وله شواهد، وروى حديثين عن ابن مسعود وأبي أمامة، وله شواهد أجود مما ذكره البيهقي، منها ما رواه ابن ماجه، حدثنا عمرو بن سواد المصري، حدثنا عبد الله بن وهيب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أيمن، عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإنه مشهود وتشهد الملائكة، وإن أحداً لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها، قال: قلت وبعد الموت؟ قال وبعد الموت، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) ، ورواه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تهذيب الآثار من حديث سعيد بن أبي هلال كما تقدم.
ومنها ما رواه أبو داود وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي أنه قال ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) وهذا له شواهد مراسيل من وجوه مختلفة يصدق بعضها بعضاً، منها ما رواه سعيد بن منصور في سننه، حدثنا، حبان بن علي، حدثنا محمد بن عجلان عن أبي سعيد


(1) انظر الرد على الاختائي، ص131 – 135.
(1/158)

مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) .
وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم،فقال: إذا دخل المسجد فسلم عليه، ثم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، ما أنت ومن بالأندلس منه إلا سواء)) رواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: وقال: ما لي رأتيك وقفت، قلت: وقفت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إذ دخلت المسجد فسلم)) ، وذكر الحديث ولم يذكر قول الحسن، وقال إسماعيل: حدثنا إبراهيم بن الحجاج، عن وهيب، عن أيوب السختياني قال: بلغني والله أعلم أن ملكاً موكل بكل من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما السلام ففي النسائي وغيره من حديث سفيان الثوري، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله ملائكة سياجين يبلغونني عن أمتي السلام)) وفي الحديث الذي تقدم من رواية أبي يعلي الموصلي، وقد تقدم إسناده عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فنهاه، وقال ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم)) .
فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم التي جاءت من وجوه حسان تصدق بعضها بعضاً، وهي منفقة على أن من صلى عليه وسلم من أمته فإنه ذلك يبلغه ويعرض عليه، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي عليه والمسلم بنفسه، إنما فيها إن ذلك يعرض عليه ويبلغه صلى الله عليه وسلم تسليماً، ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر الله به، سواء صلى عليه وسلم في مسجده، أو مدينته، أو مكان آخر، فعلم أن ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه.
وأما من سلم عليه عند قبره فإنه يرد عليه، وذلك كالسلام على سائر المؤمنين، ليس هو من خصائصه ولا هو السلام المأمور به الذي يسلم الله على صاحبه عشراً، كما يصلي
(1/159)

على من صلى عليه عشراً، فإن هذا هو الذي أمر الله به في القرآن، وهو لا يختص بمكان دون مكان، وقد تقدم حديث أبي هريرة أنه يرد السلام على من سلم عليه، والمراد عند قبره، لكن النزاع في معنى كونه عند القبر هل المراد في بيته كما يراد مثل ذلك في سائر ما أخبر به من سماع الموتى، إنما هو لمن كان عند قبورهم قريباً منها، أو يراد به من كان في الحجرة، كما قاله طائفة من السلف والخلف.
وهل يستحب ذلك عند الحجرة لمن قدم من سفر أو لمن أراده من أهل المدينة أولاً يستحب بحال، وليس الاعتماد في سماعه ما يبلغه من صلاة أمته وسلامهم إلا على هذه الأحاديث الثابتة، فأما ذاك الحديث وإن كان معناه صحيحاً فإسناده لا يحتج به، وإنما يثبت معناه بأحاديث أخر، فإنه لا يعرف إلا من حديث محمد بن مروان السدي الصغير عن الأعمش كما ظنه البيهقي، وما ظنه في هذا هو متفق عليه عند أهل المعرفة بالحديث، وهو عندهم موضوع على الأعمش.
قال عباس الدوري عن يحيى بن معين (1) : محمد بن مروان ليس بثقة، وقال البخاري (2) ، سكتوا عنه لا يكتب حديثه البته، وبقال الجوزجاني: ذاهب الحديث، وقال النسائي (3) ، متروك الحديث، وقال صالح جزره: كان يضع الحديث، وقال أبو حاتم الرازي (4) والأزدي: متروك الحديث، وقال الدارقطني (5) ، ضعيف وقال ابن حبان (6) : لا يحل كتب حديثه إلا اعتباراً ولا الاحتجاج به بحال، وقال ابن عدي (7) ، عامة ما يرويه غير محفوظ والضعف على رواياته بين.
فهذا الكلام على ما ذكره من الحديث مع أنا قد بينا صحة معناه بأحاديث أخر، وهو لو كان صحيحاً فإنما فيه أنه يبلغ صلاة من صلى نائباً، ليس فيه أنه يسمع ذلك كما قد


(1) انظر ميزان الاعتدال 4/33 قال الذهبي، قال ابن معين: ليس بثقة 4/33 وقال أحمد: أدركته قلت: وذكر كلام ابن معين صاحب الجرح والتعديل 8/86 وقد كبر فتركه وذكر له من أحاديثه الحديث المتقدم.
(2) التاريخ الصغير ص218 برقم 340 والكبير له 1/232 برقم 729.
(3) الضعفاء والمتروكون للنسائي ص219 رقم 565.
(4) الجرح والتعديل 8/86 قال: ذاهب الحديث متروك الحديث لا يكتب حديثه البته.
(5) الضعفاء والمتروكون للدارقطني ص344 برقم 470.
(6) المجروحون 2/281.
(7) الكامل 6/2267.
(1/160)

وجدته منقولاً عن هذا المعترض، فإن هذا لم يقله أحد من أهل العلم، ولا يعرف في شيء من الحديث، إنما بقوله بعض الجهال يقولون: إنه يوم الجمعة وليلة الجمعة يسمع بأذنيه صلاة من صلى عليه، فالقول: بأنه يسمع ذلك من نفس المصلي باطل، وإنما في الأحاديث المعروفة أنه يبلغ ذلك ويعرض عليه، وكذلك السلام تبلغه إياه الملائكة، وقول القائل: إنه يسمع الصلاة من بعيد ممتنع، فإنه إن أراد وصول صوت المصلي إليه، فهذه مكابرة، وإن أراد إنه هو يكون بحيث يسمع أصوات الخلائق من البعد، فليس هذا إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم، قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (الزخرف 080) وقال: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة 007) إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (المجادلة 010)
وليس أحد من البشر، بل ولا من الخلق يسمع أصوات العباد كلهم، ومن قال هذا في بشر فقوله من جنس قول النصارى، الذين يقولون إن المسيح هو الله، وإنه يعلم ما يفعله العباد، ويسمع أصواتهم ويجيب دعاءهم، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ () لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ () أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ () مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ () قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (المائدة 072-076)
فلا المسيح ولا غيره من البشر، ولا أحد من الخلق يملك لأحد من الخلق ضراً ولا نفعاً، بل ولا لنفسه، وإن كان أفضل الخلق، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (الجن 021) وقال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (الأنعام 050)
وقال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف 188)
(1/161)

وقوله: ((إلا ما شاء الله)) فيه قولان، قيل: هو استثناء متصل، وأنه يملك من ذلك ما ملكه الله وقيل: هو منقطع والمخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً بحال، فقوله ((إلا ما شاء الله)) استثناء منطقة، أي لكن يكون من ذلك ما شاء الله كقوله الخليل: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا} (الأنعام 080) أي لا أخاف أن يفعلوا شيئاً لكن إن شاء الله ربي شيئاً كان، وإلا لم يكن، وإلا فهم لا يفعلون شيئاً.
وكذلك قوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (الزخرف 086) فيه قولان أصحهما: أنه استثناء منقطع أي لكن من شهد بالحق تنفعه الشهادة وتنفع شفاعته كقوله: {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ 023) وقال: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ} (الزمر 044) وبسط هذا له موضع آخر.
قال الشيخ (1) : وأما ما ذكره من تضافر النقول عن السلف بالحض على ذلك وإطباق الناس عليه قولاً وعملاً، فيقال: الذي اتفق عليه السلف والخلف وجاءت به الأحاديث الصحيحة هو السفر إلى مسجده، والصلاة والسلام عليه في مسجده، وطلب الوسيلة له، وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله، فهذا السفر مشروع باتفاق المسلمين سلفهم وخلفهم وهذا هو مراد العلماء الذين قالوا إنه يستحب السفر إلى زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، لإن مرادهم بالسفر لزيارته هو السفر إلى مسجده، وذكروا مناسك الحج أنه يستحب زيارة قبره، وهذا هو مراد من ذكر الاجماع على ذلك كما ذكر القاضي عياض.
قال: وزيارة قبره سنة من المسلمين مجتمع عليه وفضيلة مرغب فيها، فمرادهم الزيارة التي بينوها وشرحوها كما ذكر ذلك القاضي عياض في هذا الفصل، فصل زيارة قبره.
قال: وقال إسحاق بن إبراهيم الفقيه، وما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والتربك برؤية روضته ومنبره وقبره ومجلسه، وملامس يديه ومواطئ قدمه والعمود الذي يستند إليه، ونزل جبريل بالوحي عليه فيه وبمن عمره وقصده من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين والاعتبار بلك كله.
قلت: وذلك أن لفظ زيارة قبره ليس المراد بها نظير المراد بزيارة قبر غيره فإن قبر غيره يوصل إليه ويجلس عنده ويتمكن الزائر مما يفعله الزائرون للقبور عندها من سنة


(1) انظر الرد على الأختاني ص135-141.
(1/162)

وبدعة، وأما هو صلى الله عليه وسلم فلا سبيل لأحد أن يصل إلا مسجده لا يدخل أحد بيته ولا يصل إلى قبره، بل دفنوه في بيته بخلاف غيره، فإنهم دفنوه في الصحراء كما في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا)) (1) .
قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجداً، فدفن في بيته لئلا يتخذ قبره مسجداً ولا وثناً ولا عيداً.
فإن في سنن أبي داود من حديث أحمد بن صالح عن عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (2) وفي الموطأ وغيره عنه أنه قال: اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3) .
وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: قبل أن يموت بخمس: ((إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)) (4) فلكا لعن من يتخذ القبور مساجد تحذيراً لأمته من ذلك ونهاهم عن ذلك ونهاهم أن يتخذوا قبره عيداً، دفن في حجرته لئلا يتمكن أحد من ذلك، وكانت عائشة ساكنة فيها فلم يكن في حياتها أحد يدخل لذلك، إنما يدخلون إليها هي: ولما توقيت لم يبق بها أحد، ثم لما أدخلت في المسجد سدت وبني الجدار البراني عليها فما بقي أحد يتمكن من زيارة قبره كالزيارة المعروفة عند قبر غيره سواء كانت سنية أو بدعية، بل إنما يصل الناس إلى مسجده، ولم يكن السلف يطلقون على هذا زيارة لقبره ولا يعرف عن أحد من الصحابة لفظ زيارة قبره البتة، ولم يتكلموا بذلك وكذلك عامة التابعين لا يعرف هذا في كلامهم، فإن المعنى ممتنع عندهم، فلا يعبروا عن وجوده، وهو نهي عن اتخاذ بيته وقبره عيداً وسأل الله تعالى أن لا يجعل وثناً، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (5) .


(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه والكلام صفحة 122 حاشية (2) .
(3) تقدم الكلام عليه.
(4) انظر صحيح مسلم 1/377،
(5) تقدم تخريجه.
(1/163)

ولهذا كره مالك وغيره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان السلف ينطقون بهذا لم يكرهه مالك، وقد باشر التابعين بالمدينة، وهم أعلم الناس بمثل ذلك، ولو كان في هذا حديث معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم لعرفة هؤلاء ولم يكرهه مالك وأمثاله من علماء المدينة الأخبار بلفظ تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان رضي الله عنه يتحرى ألفاظ الرسول في الحديث، فكيف يكره النطق بلفظه؟
لكن طائفة من العلماء سموا هذا زيارة لقبره، وهم لا يخالفون مالكاً ومن معه في المعنى، بل الذي يستحبه أولئك من الصلاة والسلام وطلب الوسيلة ونحو ذلك، في مسجد يستحبه هؤلاء، لكن هؤلاء سموا هذا زيارة لقبره، وأولئك كرهوا أن يسموا هذا زيارة لقبره.
وقد حدث من بعض المتأخرين في ذلك بدع لم يستحبها أحد من الأئمة الأربعة كسؤاله الاستغفار، وزاد بعض جهال العامة ما هو محرم، أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها وأمثال ذلك مما ليس هذا موضعه.
ومبدأ ذلك من الذين ظنوا أن هذا زيارة لقبره وظن هؤلاء أن الأنبياء والصالحين تزار قبورهم لدعائهم والطلب منهم واتخاذ قبورهم أوثاناً حتى قد يفضلون تلك البقعة على المساجد وأن بنى عليها مسجد فضلوه على المساجد التي بنيت لله وحتى قد يفضلون الحج إلى قبر من يعظمونه على الحج إلى البيت العتيق إلى غير ذلك مما هو كفر ورده عن الإسلام باتفاق المسلمين، فالذي تضافرت به النقول عن السلف قاطبة وأطبقت عليه الأمة قولاً وعملاً عن السفر إلى مسجد المجاور لقبره والقيام بما أمر الله به من حقوقه في مسجده، كما يقام بذلك في غير مسجده، لكن مسجده أفضل المساجد بعد المساجد الحرام عند الجمهور.
وقيل: إنه أفضل مطلقاً كما نقل عن مالك وغيره، ولم يتطابق السلف والخلف على إطلاق زيارة قبره، ولا ورد بذلك حديث صحيح ولا نقل معروف عن أحد من الصحابة، ولا كان الصحابة المقيمون بالمدينة من المهاجرين فهذا لم يعرف عن أحد من الصحابة، وقد ذكر مالك وغيره، أن هذا من البدع التي لم تنقل عن السف، وإن هذا منهي عنه.
وهذا الذي قاله مالك مما يعرفه أهل العلم الذين لهم عناية بهذا الشأن يعرفون أن الصحابة لم يكونوا يزورون قبره لعملهم بأنه قد نهى عن ذلك، ولو كان قبره يزار كما تزار
(1/164)

القبور، قبور أهل البقيع والشهداء شهداء أحد لكان الصحابة يفعلون ذلك، إما بالدخول إلى حجرته، وإما بالوقوف عند قبره إذا دخلوا المسجد، وهم لم يكونوا يفعلون لا هذا ولا هذا، بل هذا من البدع كما بين ذلك أئمة العلم، وهذا مما ذكره القاضي عياض، وهو الذي قال: زيارة قبره سنة مجمع عليها، وفضيلة مرغب فيها، وهو في هذا الفضل ذكر عن مالك أنه كره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر فيه أيضاً قال مالك في المبسوط وليس يلزم من دخل المسجد أو خرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء، وقال مالك في المبسوط أيضاً، ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر (1) ، قيل له: فإن ناساً من أهل المدينة يقدمون من سفر ولا يريدون يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.
فقد بين مالك أنه لم يبلغ عن السلف من الصحابة المقيمين بالمدينة أنهم كانوا يقفون بالقبر عند دخول المسجد إلا لمن قدم من سفر، مع أن الذي يقصد السفر فيه نزاع مذكور في غير هذا الموضع، وقد ذكر القاضي عيا عن أبي الوليد الباجي أنه احتج لما كره مالك فقال: أهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم، وقال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، أشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) وقال: ((لا تجعلوا قبري عيداً)) (2) .
قلت: فهذا يبين أو وقوف أهل المدينة بالقبر هو الذي يسمى زيارة لقبره من البدع التي لم يفعلها الصحابة، وإن ذلك منهي عنه بقوله: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) وقوله: ((لا تتخذوا قبري عيداً)) ، وإذا كانت هذه الزيارة مما نهى عنها في الأحاديث، فالصحابة أعلم بنهيه وأطوع له، فلهذا لم يكن بالمدينة منهم من يزور قبره باتفاق العلماء، وهذا الوقوف الذي يسميه غير


(1) قلت هو معتمد على أثر ابن عمر أنه كان يفعل ذلك وسنده صحيح إلى ابن عمر ورواه مالك في الموطأ وتقدم تخريجه صفحة 60 حاشية (2)
(2) تقدم الكلام عليهما.
(1/165)

مالك زيارة لقبره الذي بين مالك وغيره أنه بدعة لم يفعلها السلف هي زيارة مقصود صاحبها الصلاة والسلام عليه، كما بين ذلك في السؤال لمالك.
لكن لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني)) وروي مثل ذلك في السلام عليه علم أنه كره تخصيص تلك البقعة بالصلاة والسلام، بل يصلي عليه ويسلم في جميع المواضع وذلك واصل إليه.
فإذا كان مثل هذه الزيارة للقبر بدعة منهياً عنها، فكيف بمن يقصد ما يقصده من قبور الأنبياء والصالحين ليدعوهم ويستغيث بهم ليس قصده الدعاء لهم.ومعلوم أن هذا أعظم في كونه بدعة وضلالة فالسلف والخلف إنما تطابقوا على زيارة قبره بالمعنى المجمع عليه من قصد مسجده والصلاة فيه كما تقدم، وهذا فرق بينه وبين سائر قبور الأنبياء والصالحين، فإنه يشرع عند قبره لمسجده الذي أسس على التقوى.
فهذا السفر مشروع باتفاق المسلمين والصلاة مقصورة فيه باتفاق المسلمين، ومن قال أن هذا السفر لا تقتصر فيه الصلاة، ف، هـ يستتاب فإنه تاب وإلا قتل، وليس ذلك سفراً لمجرد الزيارة، بل لابد أن يقصد إتيان المسجد والصلاة فيه، وإن لم يقصد القبر، فهذا يندرج في كلام المجيب حيث قال: أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فهل يجوز له قصر الصلاة؟
على قولين معروفين: فهو ذكر القولين فيمن سافر لمجرد قصد زيارة القبور، أما من سافر لقص الصلاة في مسجده عند حجرته التي فيها قبره، فهذا سفر مشروع مستحب باتفاق المسلمين، وقد تقدم قول مالك للسائل الذي سأله عمن نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن كان أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليأته وليصل فيه، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء لا تعمل المطي إلا إلى ثلاث مساجد.
فالسائل سأله عمن نذر أن يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ففصل مالك في الجواب بين أن يريد القبر أو المسجد، مع أن اللفظ إنما هو أن يأتي القبر، فعلم أن لفظ إتيان القبر وزيارة القبر والسفر إلى القبر ونحو ذلك يتناول من قصد المسجد، وهذا مشروع ويتناول من لم يقصد إلا القبر، وهذا منهي عنه كما دلت عليه النصوص وبينه العلماء مالك وغيره.
فمن نقل عن السلف إنهم استحبوا السفر لمجرد القبر دون المسجد بحيث لا يقصد المسافر المسجد، ولا الصلاة فيه، بل إنما يقصد القبر كالصورة التي نهى عنها مالك فهذا
(1/166)

لا يوجد في كلام أحد من علماء السلف استحباب ذلك فضلاً عن إجماعهم عليه.
وهذا الموضع يجب على المسلمين عامة وعلمائهم تحقيقه ومعرفة ما هو المشروع والمأمور به الذي هو عبادة الله وحده وطاعة له ولرسوله، وبر وتقوى، وقيام بحق الرسول وما هو شرك وبدعة منهي عنها لئلا يلتبس هذا بهذا، فإن السفر إلى مسجد المدينة مشروع باتفاق المسلمين، لكن إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.
وقد تقدم عن مالك وغيره أنه إذا نذر إتيان المدينة إن كان قصده الصلاة في المسجد، وإلا لم يوف بنذره، وأما إذا نذر إتيان المسجد لزمه لأنه إنما يقصد الصلاة فلم يجعل السفر إلى المدينة سفراً مأموراً به إلا سفر من قصد الصلاة في المسجد، وهو الذي يؤمر به الناذر بخلاف غيره لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) (1) .
وجعل من سافر إلى المدينة أو إلى بيت المقدس لغير العبادة الشرعية في المسجدين سفراً منهياً عنه لا يجوز أن يفعله وأن نذره، وهذا قول جمهور العلماء فمن سافر إلى مدينة الرسول، أو بيت المقدس لقصد زيارة ما هناك من القبور، أومن آثار الأنبياء والصالحين كان سفره محرماً عند مالك والأكثرين، وقيل: أنه سفر مباح ليس بقربه كمال قاله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وهو قول ابن عبد البر، وما علمنا أحد علماء المسلمين المجتهدين الذين تذكر أقوالهم في مسائل الإجماع والنزاع ذكر أن ذلك مستحب.
فدعوى من ادعى أن السفر إلى مجرد القبور مستحب عند جميع علماء المسلمين كذب ظاهر، وكذلك إن ادعى أن هذا قول الأئمة الأربعة، أو جمهور أصحابهم أو جمهور علماء المسلمين فهو كذاب بلا ريب،وكذلك إن ادعى أن هذا قول عالم معروف من الائمة المجتهدين، وإن قال إن هذا قول بعض المتأخرين أمكن أن يصدق في ذلك، وهو بعد أن تعرف صحة نقله نقل قولاً شاذاً مخالفاً لإجماع السلف مخالفاً لنصوص الرسول، فكفى بقوله فساداً أن يكون قولاً مبتدعاً في الإسلام مخالفاً للسنة والجماعة لما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم ولما أجمع عليه سلف الأمة وأثمتها.
والنقل عن علماء السلف يوافق ما قاله مالك فمن نقل عنهم ضد ذلك فقد كذب، وأقل ما في الباب أن يجعل من طولب بصحة نقله والألفاظ المجملة والتي يقولها طائفة قد


(1) تقدم تخريجه.
(1/167)

عرف مرادهم، وعياض نفسه الذي ذكر أن زيارته سنة مجمع عليها قد بين الزيارة المشروعة في ذلك.
وقد ذكر عياض في قوله: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) ما هو ظاهر مذهب مالك أن السفر إلى غيرها محرم فهو أيضاً يقول: أن السفر لمجرد زيارة القبور محرم كما قاله مالك وسائر أصحابه مع ما ذكره من استحباب الزيارة الشرعية مع ما ذكر من كراهة مالك أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
قال المعترض
الحديث التاسع: ((من حج حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلى علي في بيت المقدس لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه، رواه الحافظ أبو الفتح الأزدي في الثاني من فوائد، أخبرنا به أبو النجم شهاب بن علي المحسني قراءة عليه وإنا اسمع بالقرافة الصغرى في سنة سبع وسبعمائة، وأبو الفتح بن إبراهيم بقراءتي عليه سنة ثلاث وعشرين، قالات: أنبأنا أبو محمد عبد الوهاب بن ظافر بن علي بن فتوح الأزدي المعروف بابن رواج، قال: الأول سماعاً، وقال: الثاني إجازة، قال: أنبأنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سلفة السلفي الأصبهاني قراءة عليه، وأنا أسمع أنبأنا أبو طالب عبد القادر بن محمد بن يوسف بغداد، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، أنبأنا أبو الفتح محمد بن الحسين بن أحمد الأزدي الحافظ.
حدثنا النعمان عن هارون بن أبي الدلهاث، حدثنا أبو سهل بدر بن عبد الله المصيصي، حدثنا الحسن بن عثمان الزيادي، حجثنا عمار بن محمد، حدثي خال سفيان عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: قال رسول الله: ((من حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلى علي في بيت المقدس لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه)) .
قال عمار بن محمد بن أخت سفيان الثوري، روى له مسلم والحسن بن عثمان الزيادي، قال الخطيب، كان أحد العلماء الأفاضل من أهل المعرفة والثقة والأمانة ولي قضاء الشرقية في خلافة المتوكل، وذكره غير الخطيب أيضاً، وكان صالحاً ديناً فهما قد عمل الكتب وكانت له معرفة بأيام الناس، وله تاريخ حسن، وكان كريماً واسعاً مفضالاً وأبو سهل بدر بن عبد الله المصيصي ما علمت من حاله شيئاً والنعمان بن هارون بن أبي
(1/168)

الدلهاث حدث ببغداد عن جماعة كثيرين، وروى عنه محمد بن المظفر وعلي بن عمر السكري، قال الخطيب: وما علمت من حالة إلا خيراً وصاحب الجزء أبو الفتح محمد بن الحسين بن أحمد بن الحسين بن عبد الله بن يزيد بن النعمان الأزدي الموصلي، من أهل العلم والفضل، كان حافظاً صنف كتاباً في علوم الحديث.
ذكر الخطيب في التاريخ وابن السمعاني في الأنساب أثنى عليه محمد بن جعفر بن علان، وذكره بالحفظ وحسن المعرفة بالحديث، وقال أبو النجيب الأرموي رأيت أهل الموصل يوهنونه جداً ولا يعدونه شيئاً، وسئل البرقاني عنه فأشار إلى أنه كان ضعيفاً، وذكر كلاماً أشد من هذا، انتهى ما ذكره المعترض.
والجواب أن يقال: هذا الحديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب عند أهل المعرفة بالحديث،ولم يحدث به عبد الله بن مسعود قط ولا علقمة، ولا إبراهيم ولا منصور، ولا سفيان الثوري، وأدنى من يعد من طلبة هذا العلم يعلم أن هذا الحديث مختلق مفتعل على سفيان الثوري، وأنه لم يطرق سمعه قط، وما كانت أظن أن الجهل بلغ بالمعترض إلى أن يروي مثل هذا الحديث الموضوع المكذوب ولا يبين أنه من الموضوعات المكذوبات، بل يذكره في مقام الاحتياج والاعتماد أو الأعضاء والاستشهاد ويأخذ في ذكر الثناء على بعض رواته ومدحهم بما لا يغني شيئاً.
ولقد افتضح واضع هذا الحديث حيث جعله عن سفيان الثوري، عن منصور عن إبراهيم ولو جعله عن سفيان عن بعض شيوخه الضعفاء كان استر له، وعمار بن محمد هو أبو اليقظان الكوفي وهو ابن أخت سفيان، وهو بريء من عهده هذا الحديث، وإن كان فيه كلام لبعض الأئمة.
وقال ابن حبان في كتاب المجروحين: عمار بن محمد بن أخت سفيان الثوري كنيته أبو اليقظان من أهل الكوفة يروي عن الأعمش والثوري، روى عنه الحسن بن عرفة والعراقيون، كان ممن فحش خطؤه وكثر وهمه حتى استحق الترك من أجله، هكذا قال ابن حبان (1) ، وفي كلامه مبالغة، وقد أثنى على عمار جماعة أعلم من ابن حبان، وتكلم فيه بعضهم بكلام قريب، وروى له مسلم في صحيحه، قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني (2) ، سيف وعمار أبناء أخت سفيان الثوري ليسا بالقويين في الحديث؛ قال الخطيب في التاريخ: أما سيف فقد ذكره غير واحد بالضعف، وأما عمار فوثقوه، ثم روى


(1) انظر المجروحين لابن حبان 2/185.
(2) انظرترجمة صفحة 70 حاشية رقم (2)
(1/169)

عن البخاري أنه قال: قال لي عمرو بن محمد: حدثنا عمار بن محمد أبو اليقظان، وكان أوثق من سيف، وروى عن يزيد بن الهيثمقال: سمعت يحيى بن معين يقول وعمار ابن أخت سفيان ليس به بأس وأخوه سيف كذاب وعمار أكبرهما وعن عباس بن محمد الجوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: سيف ابن أخت سفيان ليس بشيء، وهو سيف بن محمد أخو عمار وعمار لم يكن به بأس (1) .
وعن أحمد بن علي الأبار،جدثنا علي بن حجر قال: كان عمار بن محمد ثبتاً ثقة وقال الأبار: سمعت أبا معمر يقول: عمار بن محمد ابن أخت سفيان ثقة وقال: الأبار سمعت عباد بن موسى يقول: بلغني عن سفيان الثوري، قال: إن نحا أحد من أهل بيتي بعمار، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم (2) ، سمعت الحسن بن عرفة، وذكر عمار بن محمد فقال: كان لا يضحك، وكنا لا نشك أنه من الأبدال، وقال محمد بن سعيد: عمار بن محمد بن أخت سفيان الثوري توفي في المحرم سنة اثنين وثمانين ومائة في خلافة هارون، وكان ثقة.
قال ابن أبي حاتم (3) ، سألت أبي عنه فقال: ليس به بأس يكتب حديثه، قال وسألت أبا زرعة عنه فقال: ليس بقوي وهو أحسن حالاً من سيف، فقد تبين بما ذكرناه عن هؤلاء الأئمة أن عمار بن محمد صدوق وأنه لا يستحق الترك، وظهر أن كلام ابن حبان فيه مشتمل على المبالغة،وتجاوز الحد فهو يرى من عهده هذا الحديث الموضوع الذي لم يصل إليه، بل الحمل فيه على غيره،وكذلك الحسن بن عثمان أبو حسان الزيادي، بريء من عهدته أيضاً فإنه معروف بالصدق والأمانة، والحمل في هذا الحديث على بدر بن عبد الله المصيصي الذي لم يعرف بثقة ولا عدالة ولا أمانة، أو على صاحب الجزء أبي الفتح محمد بن الحسين الأزدي، فإنه متهم بالوضع، وإن كان من الحفاظ.
قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الضعفاء (4) : محمدبن الحسين بن أحمد أبو الفتح الأزدي الموصلي حدث عن أبي يعلي وابن جرير وغيرهما، وكان حافظا


(1) ترجمة عمار بن محمد بن أخت الثوري في تاريخ بغداد 12/252 وترجمة سيف بن أحمد ابن أخت الثوري 9/226.
(2) 6/393 قلت ونظر أيضاً الميزان.
(3) انظر الجرح والتعديل 3/25 وسير أعلام النبلاء 11/496 وتاريخ بغداد 7/356 ومعجم الأدباء 9/18.
(4) 3 /53.
(1/170)

ولكن في حديثه مناكير وكانوا يضعفونه، أخبرنا الفرار، أنبأنا الخطيب، قال: حدثني محمد بن صدقة الموصلي أن أبا الفتح وضع حديثاً، وقد ذكره الخطيب في تاريخه (1) وذكر أن في حديثه مناكير وإن البرقاني ضعفه، وأن أهل الموصل كانوا يضعفونه ولا يعدونه شيئاً وأنه اتهم بوضع الحديث، ومن هذه حالة لا يعتمد على رويته ولا يحتج بحديثه ولا يخفى أن هذا الحديث الذي رواه في فوائد (2) موضوع مركب مفتعل إلا على من لا يدري علم الحديث، ولا شم رائحته والله الموفق.
قال المعترض
الحديث العاشر: ((من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي)) رواه أبو الفتوح سعيد بن محمد بن إسماعيل اليعقوبي في جزء له فيه فوائد مشتملة على بعض شمائل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره وما ورد في فضل زيارته ودرجة زواره، وهذا الجزء رواية المحدث إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن الأنصاري المالكي المشهور بابن الأنماطي.
ونقلت من خطة قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن علوان بن هبة الله بن ريحان الحوطي التكريتي الصوفي قراءة عليه وأنا أسمع عنه بالحرم الشريف على دكة الصوفية بجانب باب بني شيبة تجاه الكعبة المعظمة زادها الله شرفاً، قال: حدثنا أبو الفتوح سعيد بن محمد بن إسماعيل السمعاني اليعقوبي في ربيع الأول سنة اثنين وخمسين وخمسمائة وقال: حدثنا الإمام ابن السمعاني، ثنا أبو سعد أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ إملاء في الروضة بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره في الزورة الثانية، أنبأنا أبو الحسين أحمد بن عبد الرحمن الذكواني، أنبأنا أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ، حدثنا الحسن بن محمد السوسي، أنبأنا أحمد أن سهل بن أيوب حدثنا خالد بن يزيد، حدثنا عبد الله بن عمر العمري، قال: سمعت سعيداً المقبري يقول:سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي ومن زارني كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)) .
قال المعترض خالد بن يزيد إن كان هو العمري، فقد قال ابن حبان: أنه منكر


(1) 2 / 243.
(2) صوابه (فوائده) .
(1/171)

الحديث، وأحمد بن سهل بن أيوب أهوازي، قال الصيريفيني: مات بالأهواز يوم التروية سنة إحدى وتسعين ومائتين.
والجواب: أن يقال هذا حديث منكر لا أصل له، وإسناده مظلم، بل هو حديث موضوع على عبد الله العمري الصغير المكبر المضعف، والحسن بن محمد السوسي وأحمد بن سهل بن أيوب الأهوازي، يرويان المنكر لا يحتج بخبرهما ولا يعتمد على روايتهما، وخالد بن يزيد هو العمري بلا شك، وهو متروك الحديث منهم بالكذب، قال ابن أبي حاتم (1) ، خالد بن يزيد العمري وأبي العصر ثابت بن قيس، سمعت أبي يقول ذلك، روى عنه علي بن حرب الموصلي، وكتب عنه أبو زرعة وترك الرواية عنه حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني قال سمعت يحيى بن معين يقول: خالد بن يزيد العمري كذاب، سئل أبي عنه فقال: كان كذاباً أتيته بمكة ولم أكتب عنه وكان ذاهب الحديث، وقال أبو حاتم بن حبان في كتاب المجروحين (2) : خالد بن يزيد العمري أبو الوليد شيخ كان يسكن مكة ينتحل مذهب الراي يروي عن الثوري منكر الحديث جداً أكثر من كتب عنه أصحاب الرأي لا يشتغل بذكره، لأنه يروي الموضوعات عن الإثبات.
ثم ذكر له حدثنا في غزوة البحر، وقال العقيلي (3) : خالد بن يزيد العمري الحذاء مولى لهم يحدثنا بالخطأ، ويحكي عن الثقات ما لا أصل له، وقال الأزدي: متروك الحديث.
وقال الدارقطني والبيهقي (4) : ضعيف، وقال الحاكم أبو أحمد في الكنى: أبو الوليد خالد بن يزيد العمري المالكي: ذاهب الحديث.
ثم روى عن محمد بن سليمان، عن محمد يعني ابن إسماعيل البخاري قال خالد بن يزيد العمري مكي ذاهب الحديث (5) ، وقال أبو أحمد بن عدي في الكامل: خالد بن يزيد العدوي ابو الوليد وكان بمكة، ثم ذكر له أحاديث وقال: ومقدار ما يرويه


(1) 3 /360
(2) 1 /284
(3) 2 / 17.
(4) 1 /228 السنن الكبرى.
(5) 3 / 184 ترجمة 622
(1/172)

عمن رواه لا يتابع عليه،وذكر روايته عن الثوري وإبراهيم بن سعيد وعمر بن صهبان وأبي العصر ثابت بن قيس، ثم قال بعده، خالد بن يزيد العمري المالكي يكنى أبا الهيثم، ثم ذكر له أحاديث يرويها عن الثوري وابن جريج وابن أبي ذئب.
ثم قال: وله غير ما ذكرت أحاديث وعامتها مناكير، وهكذا فرق بينهما وهو رجل واحد كنيته أبو الوليد على الأصح، وهو ساقط الحديث منكره، وقال ابن عدي: سمعت إبراهيم بن محمد بن عيسى الجهني يقول: سمعت موسى بن هارون الحمال يقول: مات العمري المسكي بمكة وهو ضعيف الحديث سنة تسع وعشرين ومائتين.
فإذا كانت هذه حال خالد بن يزيد العمري عند أئمة هذا الشأن فكيف يعتمد على حديث رواه، أو يحتج بخبر هو في طريقه، هذا لو كان الإسناد إليه واضحاً فكيف هو إسناد مظلم، وقد ذكر له ابن عدي وغيره من الحفاظ أحاديث منكرة يستدل بها على ضعف روايته وسقوط خبره، منها قال ابن عدي: حدثنا مكي بن عبدان، حدثنا قطن بن إبراهيم، حدثنا خالد بن يزيد، حدثنا ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ولد له ثلاثة فلم يسم أحدهم محمداً فهو من الجفاء وإذا سميتموه محمداً فلا تسبوه ولا تجبهوه ولا تعيبوه ولا تضربوه وشرفوه وعظموه وأكرموه وبروا قسمه)) .
قال ابن عدي (1) ، هذا حديث منكر، ومنها قال عبد الله بن محمد بن المنهال: حدثنا أحمد بن كبر أبو سعيد البالسي، حدثنا خالد بن يزيد، حدثنا ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من السنة كنت له شهيداً يوم القيامة)) .
قال ابن عدي روي هذا الحديث عن ابن جريح مع خالد بن يزيد إسحاق بن نجيح الملطي (2) ، وهو شر منه.
ومنها قال ابن عدي (3) : أخبرنا محمد بن منير، حدثنا علي بن حرب، حدثنا


(1) 3 / 890.
(2) 3 /890.
(3) لم يذكر في المطبوعة من الكامل وهذا مما يؤكد أن النسخة التي طبعتها دار افكر غير كاملة وهكذا يفعل أهل التجارة بالعلم لا يهمهم إلا المال سواة صدرت النسخة كاملة أو ناقصة، وإلى الله المشتكى.
تنبيه: فرق ابن عدي في الكامل بين العدوي وأبي الوليد وبين العمري المكي أبي الهيثم وهما وأحمد نبه عليه الذهبي.
(1/173)

خالد بن يزيد العدوي، حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أبي بكر وعمر قال:على حسبته، قال: يده اليمنى على أبي بكر، ويده اليسرى على عمر، فقال: ((هكذا أبعث يوم القيامة بين هذين)) .
قال ابن عدي وهذا عن إبراهيم بن سعد عن أبيه بهذا الإسناد منكر ليس يرويه عن إبراهيم غير خالد بن يزيد،وذكر له ابن عدي أحاديث منكرة غير هذه، وفيما ذكره كفاية ودليل على رد حديثه وعدم قبول روايته والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال المعترض
الحديث الحادي عشر: ((من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً) وفي رواية: ((من زارني محتسباً إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة، أنبأ الدمياطي وابن هارون وغيرهما قال: أنبأنا محمد بن هبة الله، قال: أنبأنا علي بن الحسن الحافظ سماعاً أنبأنا زاهر، أنبأنا البيهقي، أنبأنا أبو سعيد بن أبي عمر، قال الحافظ: أنبأنا أبو سعيد البغدادي، أنبأنا أبو نصر محمد بن أحمد بن سيبويه، أنبأنا أبو سعيد الصيرفي، أنبأنا محمد بن عبد الله الصقار، حدثنا ابن أبي الدنيا، حدثني سعيد بن عثمان الجرجاني، حدثنا محمد بن إسماعيل بن ابي فيدك، أخبرني أبو المثنى سليمان بن يزيد الكعبي، وفي حديث زاهر العتكي، قال الحافظ: وأخبرنا ابن السمرقندي، أنبأنا ابن مسعدة، أنبأنا حمزة، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن إسماعيل بجرجان، حدثنا أبو عوانة موسى بن يوسف القطان، حدثنا عباد بن موسى الختلي، حدثنا ابن أبي فديك عن سليمان بن يزيد الكعبي، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً)) وفي حديث عباد: ((كنت له شهيداً أو شفيعاً، وقالا: يوم القيامة)) .
وذكره ابن الجوزي في مثير العزم الساكن، ومن خطة نقلت بسنده إلى ابن أبي الدنيا بإسناده المذكور، وبالإسناد إلى البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا بن عيسى، حدثنا أحمد بن عبدوس بن حمدوية الصفار النيسابوري،حدثنا أيوب بن الحسن، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك بالمدينة، حدثنا سليمان بن يزيد الكعبي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة ومن زارني محتسباً إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة)) .
(1/174)

هذه الأسانيد الثلاثة دارت على محمد بن إسماعيل، أبي فديك وهو مجمع عليه وسليمان بن يزيد، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم الرازي: إنه منكر الحديث ليس بقوي، انتهى ما ذكره.
والجواب أن يقال: هذا الحديث ليس بصحيح ولا ثابت، بل هو حديث ضعيف الإسناد منقطع، ولو كان ثابتاً لم يكن فيه دليل على محل النزاع، ومداره على أبي المثنى سليمان بن يزيد الكعبي الخزاعي المديني وهو شيخ غير محتج بحديثه، وهو بكنيته أشهر منه باسمه، ولم يدرك أنس بن مالك فروايته عنه منطقة غير متصلة، وإنما يروي عن التابعين وأتابعهم، وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات (1) في أتباع التابعين وذكره أيضاً في كتاب المجروحين، قال في كتاب الثقات: سليمان بن يزيد أبو المثنى الكعبي من أهل المدينة يروي عن عمر بن طلحة، روى عنه ابن أبي فديك، هكذا ذكره.
وقال في كتاب المجروحين (2) : ابو المثنى شيخ يروي عن هشام بن عروة، روى عنه عبد الله بن نافع الصائغ يخالف الثقات في الروايات، لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا للاعتبار.
روى عن هشام بن عروة، عن أبية عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما عمل ابن آدم من عمل يوم النحر أحب إلى الله عز وجل من هراقة دم)) وذكر الحديث.
ثم قال:حدثنا ابن سالم بيت المقدس عن أبيه عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما عمل ابن آدم من عمل يوم النحر أحب إلى الله عز وجل من هراقة دم)) وذكر الحديث.
ثم قال: حدثناه ابن سالم ببيت المقدس، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن نافع، حدثنا أبو المثنى عن هشام بن عروة، هكذا ذكره في كتاب المجروحين ولم يذكر اسمه، قال الدارقطني في الحواشي على هذا الكتاب، اسم ابي المثنى هذا سليمان بن يزيد الكعبي مديني، وقال في كتاب العلل (3) : هو ضعيف.
وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل (4) : سليمان بن يزيد أبو المثنى الكعبي الخزاعي المديني، ثم ذكر أنه يروي عن سعيد المقبري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعباد بن إسحاق، وإسماعيل بن إبراهيم بن


(1) 6 / 395.
(2) 3 / 151.
(3) لم يكمل بعد.
(4) 4 / 149.
(1/175)

عقبة، وأنه يروي عنه عبد الله بن نافع الصائغ وابن أبي فديك، وابن وهب، ثم قال: أبي يقول:أبو المثنى هذا منكر الحديث ليس بقوي.
وقال البخاري في تاريخه (1) : سليمان بن يزيد الكعبي أبو المثنى المدني عن عمر بن طلحة وإبراهيم بن عبد الله بن سفيان سمع منه ابن أبي فديك قال: حسن، حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا أبو المثنى سليمان بن يزيد الخزاعي، حدثنا عباد بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة القرشي عن أبي عبيدة بن محمد سأل جابراً عن المسح على الخفين فقال: سنة، وقال النسائي في الكي أبو المثنى سليمان بن يزيد عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، روى عنه ابن وهب، وقال الحاكم: أبو أحمد في الكنى أبو المثنى سليمان بن يزيد بن قنفذ الخزاعي الكعبي المدني، ثم ذكر أنه يروي عن سعيد المقبري ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعمر بن طلحة وأنه يروي عنه ابن أبي فديك، ويحيى بن حسان وغيرهما.
وقال أبو عمر بن عبد البر في الكنى: أبو المثنى المدني روى عن هشام بن عروة اسمه سليمان بن يزيد، روى عنه ابن أبي فديك، وعبد الله بن نافع الصائغ.
فقد تبين أن ابن حبان تناقض في ذكره أبا المثنى في الكتابين كتاب الثقات وكتاب المجروحين، وكأنه توهم أنه رجلان، وذلك خطأ، بل هو رجل واحد منكر الحديث غير محتج به لم يسمع من أنس، بل روايته عنه منقطعة غير متصلة، ولو فرض أن روايته عنه صحيحة متصلة، وأنه من جملة الثقات المشهورين لم يكن في هذا الخبر الذي رواه حجة على جواز شد الرجال وإعمال المطي إلى مجرد زيارة القبر، بل إنما فيه ذكر الزيارة فقط، والمراد بها الزيارة الشرعية، وتلك لا ينكرها شيخ الإسلام، بل يندب إليها ويحض عليها، كما تقدم ذكره غير مرة وبالله التوفيق.
قال المعترض
الحديث الثاني عشر: ((ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر)) قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار في كتاب ((الدرة الثمينة في فضائل المدينة أنبأنا أبو محمد بن علي، أنبأنا أبو يعلي الأزدي، أنبأنا أبو إسحاق البجلي أنبأنا سعيد بن أبي سعيد النيسابوري، أنبأنا إبراهيم بن محمد المؤدب، أنبأنا إبراهيم بن


(1) 4 /42 رقم 1905.
(1/176)

محمد، حدثنا محمد بن محمد، حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا جعفر بن هارون، سمعان بن المهدي، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زارني ميتاً فكأنما زارني حياً ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني وليس له عذر)) .
هكذا ذكر المعترض هذا الحديث وخرس بعد ذكره فلم ينطق بكلمة، وهو حديث موضوع مكذوب مختلف مفتعل مصنوع من النسخة الموضوعة المكذوبة الملصقة بسمعان المهدي قبح الله واضعها، وإسنادها إلى سمعان ظلمات بعضها فوق بعض، وأما سمعان فهو من الحيوانات التي لا تدري هل أوجدت أم لا، وهذا المعترض إن كان لا يدري أن هذا الحديث من أقبح الموضوعات، فهو من أجل الناس، وإن كان يعلم إنه موضوع ثم يذكره في معرض الاحتجاج ويتكثر به ولا يبين حاله، فهو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين)) (1) فهو إما جاهل مفرط في الجهل، أو معاند صاحب هوى متبع لهواه، نعوذ الله من الخذلان.
قال أبو حاتم بن حبان البستي: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت ميمون بن أبي شبيب يحدث عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من روى عني حديثاً وهو يرى أنه كاذب فهو أحد الكاذبين)) .
حدثنا عمران بن موسى بن مجاشع، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع حدثنا شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حدث عني حدثنا وهوع يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)) قال أبو حاتم: في هذا الخبر دليل على صحة ما ذكرنا أن المحدث إذا روى، لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم مما تقول عليه، وهو يعلم ذلك يكون كأحد الكاذبين، على أن ظاهر الخبر ما هو أشد، وذلك أنه قال صلى الله عليه وسلم: ((من روى عني حديثاً وهو يرى أنه كذب)) ولم يقل إنه يتيقن أنه كذب، فكل شاك فيما يروي أنه صحيح، أو غير صحيح داخل في ظاهر خطاب


(1) رواه مسلم في المقدمة 1/9 متن من حديث سمرة وابن ماجه في المقدمة رقم 39وأحمد 5/20 وابن حبان 1/117، ورواه ابن ماجه رقم 38،، 40 من حديث علي وبرقم 41 من حديث المغيرة بن شعبة وأحمد 4/252، 255 والحديث متواتر عن النبي عليه الصلاة والسلام بضع وستون صحابياً وجاء هذا الحديث من أكثر من مائة طريق.
(1/177)

هذا الخبر، ولو لم يتعلم التاريخ، وأسماء الثقات والضعفاء ومن يجوز الاحتجاج بأخبارهم ممن لا يجوز إلا لهذا الخبر الواحد لكان الواجب على كل من ينتحل السنن أن لا يقصر في حفظ التاريخ حتى لا يدخل في جملة الكذبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر ابن حبان قبل هذا حديث جبير بن معطم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نصر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم أرادها إلى من لم يسمعها)) (1) .
وحديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله: ((بلغوا عني ولو آية وحدثوا عني بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) (2) .
ثم قال ابن حبان في أمر رسول الله أمته بالتبليغ عنه من بعدهم مع ذكر إيجاب النار للكاذب عليه دليل على أنه إنما أمر بالتبليغ عنه ما قاله صلى الله عليه وسلم، أو ماكان من سننه فعلاً أوة سكوتا عند المشاهدة لا إنه يدخل في قوله: ((نضر الله امرأ)) المحدثون بأسرهم، بل لا يدخل في ظاهر هذا الخطاب إلا من أدى صحيح حديث رسول الله دون سقيمة، وإني خائف على من روي ما سمع من الصحيح والسقيم أن يدخل في جملة الكذبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عالماً بما يروي.
ثم قال ابن حبان: حدثنا أحمد بن يحيى بن زهير بتستر، حدثنا محمد بن الحسين بن أشكاب، حدثنا علي بن حفص المدائني، حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع)) (3) .
قال أبو حاتم: في هذا الخبر زجر للمرء أن يحدث بكل ما سمع حتى يعلم على اليقين صحته، ثم يحدث به دون ما لا يصح على حسب ما ذكرناه قبل.


(1) انظر 1/143-144، 2/35 والحديث أيضاً متواتر وللشيخ العباد كتاب في تخريج هذا الحديث وشرحه.
(2) أخرجه البخاري 6/496 والترمذي 5/40 وابن حبان 8/51، وأحمد 2/159-202-214 من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3) رواه مسلم في المقدمة مسنداً ومرسلاً وأبو داود 5/265-266 وابن حبان 1/118 مسنداً، وقد رجح الدارقطني إرساله.
(1/178)

قال المعترض
الحديث الثالث عشر: ((من زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً أو قال شفيعاً)) ذكره الحافظ أبو جعفر العقبلي في كتاب الضعفاء في ترجمة فضالة بن سعيد بن زميل المازني، قال: حدثنا سعيد بن محمد الحضرمي، حدثنا فضالة بن سعيد بن زميل المازني، حدثنا محمد بن يحيى المازني عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي، ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً أو قاله شفيعاً)) .
وذكره الحافظ ابن عساكر من جهته أيضاً: أنبأنا به أبو محمد الدمياطي، عن ابن هبة الله بسماعه منه قال: ((أنبأنا أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي، أنبأنا أبو بكر محمد بن المظفر الشامي، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد العتيقي، أنبأنا أبو يعقوب يوسف بن أحمد الصيدلاني، حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو العقيلي، فذكره بإسناد إلا أنه قال: ((من زارني في المنام كان كمن زارني في حياتي)) والباقي سواء.
ووقع في روايته أيضاً شعيب بن محمد الحضرمي، ولعله تصحيف، وفضالة بن سعيد، قال العقيلي في ترجمته، حديثه غير محفوظ لا يعرف إلا به. هكذا رأيته في كتاب العقيلي.
وذكر الحافظ بن عساكر عنه أنه قال: لا يتابع على حديثه من جهة تثبت ولا يعرف إلا به، ومحمد بن يحي المازني ذكره ابن عدي في كتاب الكامل وقال: إن أحاديثه مظلمة منكرة، ولم يذكر ابن عدي هذا الحديث في أحاديثه ولم يذكر فيه ولا العقيلي في فضالة شيء من الجرح سوى التفرد والنكارة، انتهى ما ذكره المعترض على هذا الحديث.
وهو حديث منكر جداً ليس بصحيح، ولا ثابت، بل هو حديث موضوع (1) ابن جريح، وقد وقع تصحيف في متنه وفي إسناده.
أما التصحيف في متنه فقوله: ((من زارني)) من الزيارة وإنما هو ((من رآني في المنام


(1) سقطت لفظ (علي) وصوابه: موضوع على ابن جريج.
(1/179)

كان كمن زارني في يحياتي (هكذا رأيته في كتاب العقيلي في نسخه ابن عساكر (من رآني) من الرؤية وعلى هذا يكون معناه معنى الحديث الصحيح: (من زارني في المنام فقد رآني لأن الشيطان لا يتمثل بي) وفي رواية: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة،أو فكأنما في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي) .
وأما التصحيف في اسنادة فقوله: سعيد بن محمد الحضرمي، والصواب شعيب بن محمد، كما في رواية ابن عساكر.
والحديث ليس بثابت على كل حال، سواء كان بلفظ الزيادة، أو الرؤية، ورواية فضالة بن سعيد بن زميل المازني شيخ مجهول لا يعرف له ذكر إلا في هذا الخبر الذي تفرد به ولم يتابع عليه.
وأما محمد بن يحيى المازني، فإنه شيخ معروف لكنه مختلف في عدالته، وقد ذكره ابن عدي في كتاب الضعفاء (1) ، وقال: وهو منكر الحديث.
ثم قال: حدثنا محمد بن هارون بن حميد، حدثنا محمد بن إبان البلخي، حدثنا خطاب بن عمرو الهنداني الصنعاني، قال: حدثني محمد بنيحيى المازني عن موسى بن عقبة عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربع محفوظات وسبع ملعونات)) .
فأما المحفوظات: فمكة، والمدينة، وبيت المقدس، ونجران.
وأما الملعونات: فبرذعة، وصهب أو صهر، وصعدة، ويافث، وبكلا، ودلان، وعدن.
قال ابن عدي (2) : وهذا منكر بهذا الإسناد، وروي له حديثاً آخر ثم قال: وإنما ذكرت محمد بن يحيى لأن أحاديثه مظلمة منكرة، ولم يذكر ابن عدي في ترجمته هذا الحديث الذي ذكره العقيلي في ترجمة فضالة بن سعيد، والأولى ذكره في ترجمة فضالة كما فعل، ولا نعلم أحداً روى هذا الحديث غير العقيلي في كتاب الضعفاء، أو من ذكره من طريقة والله أعلم.


(1) 6/2238 صوابه محمد بن يحيى بن قيس الماربي كما قال ابن عدي وذكره صاحب الأنساب 5/161.
(2) 6 / 2238.
(1/180)

قال المعترض
الحديث الرابع عشر: ((من لم يزر قبري فقد جفاني)) قال أبو الحسن يحيى بن الحسن بن جعفر الحسيني في كتاب أخبار المدينة، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني أبو أحمد الهمداني، حدثنا النعمان بن شبل،حدثنا محمد بن الفضل المديني سنة ست وسبعين عن جابر عن محمد بن علي، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ولم يزرني فقد جفاني)) .
وقال الحافظ أبو عبد الله بن النجار في الدرة الثمينة: روى عن علي رضي الله عنه أنه قال: رسول الله: صلى الله عليه وسلم: ((من لم يزر قبري فقد جفاني)) ،وقال أبو سعيد عبد الملك بن محمد بن إبراهيم بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن لم يزر قبري فقد جفاني)) وهذا الكتاب في ثمان مجلدات،ومصنفه عبد الملك النيسابوري، صنف في علوم الشريعة كتاباً، توفي سنة ست وأربعمائة بنيسابور وقبره بها مشهور يزار ويترك به (1) ، وشيخه في الفقه أبو الحسن الماسرجسي. انتهى ما ذكره المعترض.
والجواب: أن يقال: هذا الحديث من الموضوعات المكذوبة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والنعمان بن شبل [ليس] بشيء، ولا يعتمد عليه (2) ، ومحمد بن الفضل بن عطية (3) ، كذاب مشهور بالكذب ووضع الحديث، وجابر هو الجعفي ولم يكن بثقة (4)


(1) صزابه (وتبرك به)
(2) تقدم الكلام عليه عند ذكر المعترض للحديث الخامس.
(3) انظر ترجمته في العلل لأحمد 3/396 برقم 5744 وفي 2/549 رقم 3601 قال فيه: حديثه حديث أهل الكذب.
وقال البخاري فيه سكتوا عنه: انظر الضعفاء ص217 وقال الذهبي: تركوه انظر الكشاف 3/79 وقال الميزان 4/6: مناكير هذا الرجل كثيرة لأنه صاحب حديث، وقال ابن معين ليس بشيء، انظر التاريخ 4/355 وقال ابن أبي حاتم، ذاهب الحديث ترك حديثه، انظر الجرح والتعديل 8/57.
وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: كذبوه 2/200.
قال فيه البخاري في الضعفاء الصغير: تركه يحيى بن مهدي قال: وقال بيان سمعت يحيى بن سعيد يقول: تركنا جابراً قبل أن يقدم عليها الثوري وقال أبو سعيد الحر: سمعت يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قال الشعبي: يا جابر لا تموت حتى تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم،وقال إسماعيل: فما مضت الأيام والليالي حتى اتهم بالكذب.
وقال النسائي في الضعفاء: متروك وانظر التاريخ الكبير للبخاري 2/210 والمجروحين لابن حبان 1/208 والكاشف للذهبي 1/122 والميزان 1/379 والتهذيب 2/46.
(1/181)

ومحمد علي أبو جعفر الباقر (1) ، ولم يدرك جد أبيه علي بن أبي طالب، فلو كان الإسناد صحيحاً إليه كانت روايته عن علي منقطعة، فكيف والإسناد إليه ساقط مظلم، وقد تقدم ذكر هذا الحديث وبيان حاله، وكلام الأئمة في رواية بما فيه كفاية والله أعلم.
ثم قال المعترض: وقد روى حديث علي رضي الله عنه من طريق أخرى ليس فيه تصريح بالرفع، ذكر هذا ابن عساكر، أنبأنا عبد المؤمن وآخرون عن ابن الشيرازي، أنبأنا ابن عساكر، حدثنا أبو العز أحمد بن عبد الله، أنبأنا أبو محمد الجوهري، أنبأنا علي بن محمد بن أحمد بن نصير بن عرفة، حدثنا محمد بن إبراهيم الصلحي، حدثنا منصور بن قدامة الواسطي، حدثنا المضاء بن الجارود، حدثنا عبد الملك بن هارون بن عسرة عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من سأل لرسول الله صلى الله عليه وسلم الدرجة الوسيلة حلت له الشفاعة يوم القيامة، ومن زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: وهذا من المكذوبات أيضاً على علي رضي الله عنه، وعبد الملك بن هارون بن عسرة متهم بالكذب ووضع الحديث.
قال أبو حاتم بن حباب (2) في كتاب المجروحين (3) : كان ممن يضع الحديث لا يحل كتب حديثه إلا على جهة الاعتبار، وهو الذي روى عن أبيه عن جده عن علي قال


(1) قال الحافظ في التقريب: ثقة فاضل، وانظره في التهذيب 9/350 والثقات للعجلي ص410 رقم 1486.
(2) صوابه ابن حبان
(3) 2/133.
(1/182)

: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربعة أبواب من أبواب الجنة مفتحة في الدنيا أولها، الإسكندرية وعسقلان وقزوين، وعبدان، وفضل جدة على هؤلاء كفضل بيت الله الحرام على سائر البيوت)) .
قال البخاري في تاريخه (1) : عبد الملك بن هارون بن عنترة بن عبد الرحمن الشيباني منكر الحديث، وهكذا قال في كتاب الضعفاء (2) ، ثم روي له حديث: ((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيهاً شافعاً وشهيداً))
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول (3) : عبد الملك بن هارون بن عنترة ضعيف الحديث، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين (4) عبد الملك بن هارون بن عنترة كذاب، وقال أبو حاتم الرازي (5) : متروك الحديث ذاهب الحديث، وقال الجوزجاني (6) : دجال، كذاب، وقال أبو عبد الرحمن النسائي (7) ، وأبو بشر الدولابي (8) : متروك الحديث، وقال الحاكم: روي عن أبيه أحاديث موضوعة.
وقال أبو بكر البرقاني: سألت الدارقطني (9) عن عبد الملك بن هارون بن عنترة قال: متروك يكذب، وأبوه يحتج به وجده يعتبر به حدث عن علي، وقال ابن عدي (10) في ترجمة عبد الملك بن هارون: حدثنا محمد بن أبي علي الخوارزمي، حدثنا الحسن بن محمد بن رافع البغدادي عن عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال للمسكين أبشر فقد وجبت له الجنة)) قال ابن عدي، وهذا حديث باطل بهذا الإسناد، قال: وعبد الملك بن هارون له أحاديث، عن أبيه، عن جده، عن الصحابة لا يتابعه عليها


(1) 5/4386 رقم 1433.
(2) ص 148 رقم 218 ,
(3) انظر في العلل 2/371 رقم 2648 بتحقيق وصي الله عباس.
(4) انظر برقم 1688 من تاريخ ابن معين.
(5) 5/374.
(6) ص68 رقم 77.
(7) ص166 رقم 405.
(8) وانظر أيضاً الميزان 2/666 واللسان 4/71 والمغني 2/409.
(9) في الضعفاء والمتروكين له ص125 رقم 362 قال يروي عن أبيه وأبوه أيضاً متروك.
(10) انظر الكامل 5/1942.
(1/183)

أحد فقد تبين أن ما روي عن علي في هذا الباب مرفوعاً وموقوفاً ليس له أصل، بل هو من الكذب المفترى عليه والله أعلم.
قال المعترض
الحديث الخامس عشر: من أتى المدينة زائراً، قال يحيى الحسيني في أخبار المدينة في باب ما جاء في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وفي السلام عليه حدثنا محمد بن يعقوب، حدثنا عبد الله بن وهب عن رجل عن بكير بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أتى المدينة زائراً لي وجبت له شفاعتي يوم القيامة ومن مات في أحد الحرمين بعث آمناً)) .
قال وقد وردت أحاديث أخرى في ذلك منها من لم يمكنه زيارتي فليزر قبر إبراهيم الخليل عليه السلام، وسأذكر ذلك إن شاء الله تعالى في الكلام على زيارة سائر الأنبياء والصالحين، انتهى ما ذكره المعترض.
وهذا آخر الأحاديث التي ذكرها في الباب الأول وهو حديث باطل لا اصل له وخبر معضل لا يعتمد على مثله، وهو من أضعف المراسيل وأوهى المنقطعات، ولو فرض أنه من الأحاديث الثابتة لم يكن فيه دليل على محل النزاع.
أما ما ذكره من قوله: ((من لم يمكنه زيارتي فليزر قبر إبراهيم الخليل)) فإنه من الأحاديث المكذوبة والأخبار الموضوعة وأدنى من يعد من طلبة العلم بعلم أنه حديث موضوع وخبر مفتعل مصنوع، وأن ذكر مثل هذا الحديث المكذوب من غير تبيين لحالة القبيع بمن ينتسب إلى العلم.
فقد تبين أن جميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفة أو موضوعة لا أصل لها، وكم من حديث له طرق أضعاف هذه الطرق التي ذكرها المعترض، وهو موضوع عند أهل هذا الشأن فلا يعتبر بكثرة الطرق وتعددها، وإنما الاعتماد على ثوبتها وصحتها.
والحاصل: أن ما سلكه المعترض من جميع الطرق في هذا الباب وتصحيح بعضها واعتماده عليه، وجعل بعضها شاهداً لبعض ومتابعاً له، هو مما تبين خطوة فيه، وظهر تعصبه وتحامله في فعله، وأن ما ذهب إليه شيخ الإسلام من تضعيفها وردها وعدم قبولها هو الصواب، وقد قال في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)) (1) .


(1) انظر 2/764 بتحقيق الدكتور ناصر عبد الكريم العقل.
(1/184)

ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روي في ذلك شيئاً لا أهل الصحاح، ولا السنن ولا الأئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره (1) .
وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره، وأجل حديث روي في ذلك رواه الدارقطني وهو ضعيف باتفاق أهل العلم، بل الأحاديث المروية في زيارة قبره كقوله ((من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة)) (2) ومن زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ومن حج ولم يزرني فقد جفاني)) ونحو هذه الأحاديث كلها مكذوبة موضوعة.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور مطلقاً بعد أن كان قد نهى عنها كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) (3) وفي الصحيح إنه قال: استأذنت ربي في أن استغفر لأمتي فلم يأذن لي واستأذنته في أ، أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (4) ، فهذه زيارة لأجل تذكر الآخرة، ولهذا يجوز زيارة قبر الكافر لأجل ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع ويسلم على موتى المسلمين ويدعو لهم (5) ، فهذه زيارة مختصة بالمسلمين كما أن الصلاة على الجنازة تختص بالمؤمنين،وقد استفاض عنه في الصحيح أنه قال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة، ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً (6) .


(1) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه المجموع شرح المهذب 8/481 في هذا الحديث: وهذا باكل ليس هو مروياً عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا يعرف في كتاب صحيح ولا ضعيف بل وضعه بعض الفجرة.
(2) تقدم الكلام على هذين الحديثين وهما يحدثنان موضوعان النظر الفوائد المجموعة للشوكاني ص117 – 118 وكشف الخفا 2/346، 347، 348 والمقاصد الحسنة ص427-428.
(3) رواه مسلم 2/672 عن بريده وفي رواية لأحمد 5/361 والنسائي 4/89 فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هدراً، وانظر أيضاً الموطأ 2/458 والأم للشافعي 1/278 ورواه أحمد أيضاً 1/145 من حديث علي رضي الله عنه.
(4) رواه مسلم من حديث أبي هريرة 2/671 ورواه أبو داود 3234 والنسائي 4/90 وابن ماجه رقم 1572.
(5) تقدم الكلام على بعض أحاديث الزيارة صفحة 30 حاشية (1) .
(6) رواه البخاري 1/532 فتح ومسلم 1/377 (ولولا ذلك لابرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجداً) هذه الزيادة رواها البخاري 3/200 ومسلم 1/376.
(1/185)

وفي الصحيح أنه ذكرت له أم سلمة كنيسة بأرض الحبشة وذكرت من حسنها وتصاوير فيها فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد بنوا على قبرة مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة (1) .
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: إني أبرأ إلى أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، إلا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (2) .
وفي السنن عنه قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني (3) ، وفي الموطأ وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (4) ، وفي المسجد وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه وسلم قال: أن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبر مساجد (5) .
ومعنى هذه الأحاديث متواتر عنه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي،ـ وكذلك عن أصحابه، فهذا الذي نهى عنه من اتخاذ القبور مساجد مفارق، لما أمر به وشرعه من السلام على الموتى والدعاء لهم، فالزيارة المشروعة من جنس الثاني، والزيارة المبتدعة من جنس الأول، فإن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد يتضمن النهي عن بناء المساجد عليها، وعن قصد الصلاة عندها، وكلاهما منهي عنه باتفاق العلماء فإنهم قد نهوا عن بناء المساجد على القبور، بل صرحوا بتحريم ذلك كما دل عليه النص، واتفقوا أيضاً على أنه لا يشرح قصد الصلاة والدعاء عند القبور، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين أن الصلاة عندها والدعاء عندها أفضل


(1) أخرجه البخاري 1/523 ورقم 434، 1341، 3878 ومسلم 1/375 من حديث أم سلمة وأم حبيبة.
(2) انظر 1/377، 378.
(3) تقدم الكلام عليه والزيادة فيه (ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء) من كلام الحسن لا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام وانظر كشف الأستار رقم 707.
(4) رواه أحمد في مسنده 2/246 ورواه مالك مرسلاً 1/172.
(5) رواه أحمد في مسند 1/435 ورواه عبد الرزاق في مصنفه 1/405رقم 1586 قال: وأحسب أن معمراً رفعه.
(1/186)

منه في المساجد الخالية عن القبور، بل اتفق علماء المسلمين على أن الصلاة والدعاء في المساجد التي لم تبنى عند القبور أفضل من الصلاة والدعاء في المساجد التي بنيت على القبور، بل الصلاة والدعاء في هذه منهي عنه مكروه باتفاق، وقد صرح كثير منهم تحريم ذلك بل وبإبطال الصلاة فيها، وإن كان في هذا نزاع، ثم بسط الشيخ القول في ذلك بسطاً شافياً والله سبحانه الموفق للصواب.
(1/187)

الباب الثاني: فيما ورد من الأخبار والأحاديث دالاً على فضل الزيارة، وإن لم يكن فيه لفظ الزيارة.
قال المعترض
روينا في سنن أبي داود السجستاني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) ثم ذكر المعترض إسناده إلى أبي داود في صفحة، وأنه رواه عن محمد بن عوف حدثنا المقري، حدثنا حيوة عن أبي صخر حميد بن زياد، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة قال: وهذا إسناد صحيح، فإن محمد بن عوف شيخ أبي داود جليل حافظ لا يسأل عن مثله، وقد رواه معه عن المقري عباس بن عبد الله الترقفي، رواه من جهته أبو بكر البيهقي والمقري وحيوه ويزيد بن عبد الله بن قسيط متفق عليهم، وحميد بن زياد، رواه له مسلم (1) .
وقال أحمد: لا بأس به، وكذلك قال أبو حاتم (2) وقال يحيى بن معين: ثقة ليس به بأس، وروى عن ابن معين فيه رواية أنه ضعيف ورواية التوثيق تترجح عليها لموافقتها أحمد، وأبا حاتم وغيرهما، وقال ابن عدي: هو عندي صالح الحديث، وإنما أنكرت عليه حديثين: المؤمن مألف وفي القدرية وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيماً.
وأما قول الشيخ زكي الدين فيه أنه أنكر عليه شيء من حديثه فقد بينا عن ابن عدي تعيين ما أنكر عليه، وليس منه هذا الحديث، وبمقتضى هذا يكون هذا الحديث صحيحاً إن شاء الله،وقد اعتمد جماعة من الأئمة على هذا الحديث في مسألة الزيارة، وصدر به


(1) تقدم الكلام عليه وهو في أبي داود رقم 1047، 1531، وابن ماجة رقم 1636 وأحمد 4/8.
(2) الجرح والتعديل 3/222 وكلام ابن عدي الآتي فيه انظره في الكامل 2/685.
(1/188)

أبو بكر البيهقي في باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم،وهو اعتماد صحيح واستدلال مستقيم، لأن الزائر المسلم على النبي صلى الله عليه وسلم يحصل له فضيلة رد النبي صلى الله عليه وسلم السلام عليه وهي رتبة شريفة ومنقبة عظيمة ينبغي التعرض لها، والحرص عليها لينال بركة سلامه صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: ليس في الحديث تخصيص بالزائر فقد يكون هذا حاصلاً لكل مسلم قريباً كان أو بعيداً، وحينئذ تحصل هذه الفضيلة بالسلام من غير زيارة، والحديث عام، قلت: قد كذره ابن قدامه من رواية أحمد ولفظه: ((مامن أحد يسلم علي عند قبري)) وهذا زيادة مقتضاها التخصيص، فإن ثبت فذاك، وإن لم يثبت فلا شك أن القريب من القبر يحصل له ذلك، لأنه في منزلة المسلم بالتحية التي تستعدي الرد كما في حال الحياة، فهو بحضوره عند القبر قاطع بنيل هذه الدرجة على مقتضى الحديث متعرض لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم له برد السلام عليه، وفي المواجهة بالخطاب فضيلة زائدة على الرد على الغائب انتهى ما ذكره المعترض.
وقد روى الإمام أحمد بن حنبل حديث أبي هريرة هذا في مسنده (1) ، وليس في هذه الزيارة (2) المضافة إلى روايته، فقال: حدثنا عبد الله بن يزيد هو أبو عبد الرحمن المقرئ حدثنا حيوه، حدثنا أبو صخر أن يزيد بن عبد الله بن قسيط أخبره عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله عز وجل علي روحي حتى أرد عليه السلام)) هكذا رواه في هذا اللفظ ليس فيه عند قبري، وما أضيف إليه من هذه الزيادة فهو على سبيل التفسير منه لا أنه مذكور في روايته.
وأعلم أن هذا الحديث هو الذي اعتمد عليه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من الأئمة في مسألة الزيارة، وهو أجود ما استدل به في هذا الباب، مع هذا فإنه لا يسلم من مقال في إسناده، ونزاع في دلالته: أما المقال في إسناده فمن جهة تفرد أبي صخر به عن ابن قسيط، عن أبي هريرة، ولم يتابع ابن قسيط أحد في روايته عن ابن قسيط، وأبو صغر هو حميد بن زياد وهو ابن أبي المخارق المدني الخراط صاحب العباء سكن مصر، ويقال: حميد بن صخر، وقال ابن


(1) 2/527 وقال الحافظ في النكت الظراف 10/421 تحفة الأشراف، أدخل مهدي جعفر عن عبد الله بن يزيد الإسكندراني عن جده بين يزيد وأبي هريرة رجلاً وهو أبو صالح أخرجه الطبراني في الأوسط في ترجمة جعفر بن سهل.
(2) صوابه (فيه هذه الزيادة) .
(1/189)

حبان (1) : حميد بن زياد مولى بن هاشم، وهو الذي يروي عنه حاتم بن إسماعيل، ويقول: حميد بن صخر إنما هو حميد بن زياد أبو صخر.
وقال البخاري في تاريخه (2) : حميد بن زياد أبو صخر الخراط المديني مولى بني هاشم سمع نافعاص، ومحمد بن كعب وعماراً الدهني، وأبن قسيط،وقال: بعضهم حماد سمع منه ابن وهب وحيوة بن شريح، وقال بعضهم: حميد بنصخر، وقال أبو مسعود الدمشقي: حميد بن صخر أبو مودود الخراط، ويقال: إنهما إثنان، والصحيح أنه واحد (3) وهو حميد بن زياد أبو صخر وقد اختلف الأئمة في عدالته فوثقه بعضهم، وتكلم فيه آخرون واختلف الرواية عن يحيى بن معين فيه فقال: أحمد بن سعيد بن أبي مريم عنه أبو صخر حميد بن زياد الخراط، ضعيف الحديث، وقال إسحاق بن منصور عنه أبو صخر حميد بن زياد ضعيف (4) ، وروى عثمان بن سعيد الدارمي (5) ، عنه حميد بن زياد الخراط، ليس به بأس.
وقال في موضع آخر: قلت ليحيى: فأبو صخر، قال: ثقة، وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل سئل أبي عن أبي صخرة، فقال ليس به بأس، وروي عن الإمام أحمد رواية أخرى أنه ضعيف.
قال العقيلي: في كتاب الضعفاء (6) : حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا حمدان بن علي الوراق قال: سألت أحمد بن حنبل عن حميد بن صخر، فقال ضعيف: وقال النسائي: حميد بن صخر ضعيف، هكذا حكاه غير واحد عنه، والذي رأيته في كتاب الضعفاء (7) له حميد بن صخر يروي عن حاتم بن إسماعيل ليس بالقوي، ثم قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن


(1) انظر الثقات 6/188-189.
(2) 2/350 رقم 2712.
(3) وقد فرق بينهما ابن الجوزي في الضعفاء.
(4) هتان الروايتان ليست في متناول اليد وقد ذكر هذه اللفظة عن ابن معين ابن الجوزي كما في الضعفاء والمتروكين له.
(5) ص95 رقم 260
(6) 1/27.
(7) ص85 رقم 145.
(1/190)

يزيد عن أبيه، حدثنا حيوة بن شريح،قال: أخبرني أبو صخر حميد بن زياد، وقال أبو عمر: ابن عبد البر أبو صخر الخراط حميد بن زياد المصري، وهو حميد بن أبي المخارق القيني رأى سهل بن سعيد الساعدي، وروى عن نافع ومحمد بن كعب القرظي ويزيد بن قسيط وعمار الدهني.
وروى عنه حيوة بن شريح والمفضل بن فضالة، وحاتم بن إسماعيل وابن لهيعة وابن وهب وصفوان بن عيسى ليس به بأس عند جميعهم، وقال أبو أحمد بن عدي (1) : حميد بن زياد أبو صخر الخراط مديني، وروى له ثلاثة أحاديث.
أحدهما: حديثه عن حازم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن يألف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف،رواه عن أبي بكر بن أبي داود، عن أبي الربيع، عن ابن وهب، أبي صخر فذكره، قال أبو صخر: حدثني صفوان بن سليم، وزيد بن أسلم عن رسول الله بذلك، قال ابن عدي: ورواه عن أبي حازم عن أبي صالح عن أبي هريرة خالد بن الوضاح، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، عن الزبير بن بكار عنه، ورواه مصعب بن ثابت وعمر بن صهبان عن أبي حازم عن سهل بن سعد وروى عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه عن سهل.
والثاني: عن الحسن بن محمد المديني، عن يحيى بن بكيرة، عن ابن لهيعة، عن أبي صخر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سيكون في أمتي مسخ وقذف: يعني الزنادقة والقدرية.
والثالث عن الحسن بن الفرد، عن عمرو بن خالد الحراني، عن ابن لهيعة عن أبي صخر، عن نافع، عن ابن عمر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: لمن الملك اليوم، فيقول: لله الواحد القهار فيرمي السموات والأرض، الحديث ثم قال: وأبو صخر هذا حميد بن زياد له أحاديث صالحة، روى عنه ابن لهيعة نسخه، حدثنا الحسن بن محمد المديني، عن يحيى بن بكير عنه، وروى عنه ابن وهب نسخه أطول من نسخه ابن لهيعة، حدثنا إبراهيم بن عمر بن ثور الزوقي عن أحمد بن صالح عنه وروى عنه حبوة أحاديث، وهو عندي صالح الحديث، وإنما أنكر عليه هذان الحديثان (المؤمن بألف) وهي القدرية، وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيماً.


(1) 2/684.
(1/191)

ثم قال في موضع آخر (1) : حميد بن صخر سمعت ابن حماد (2) يقول: حميد بن صخر يروي عنه حاتم بن إسماعيل ضعيف قاله أحمد بن شعيب النسائي، وروى له ثلاثة أحاديث أيضاً.
أحدهما: عن المقبري عن أبي هريرة بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً فأعظموا الغنيمة وأسرعوا الكرة الحديث.
والثاني: عن المقبري عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فمن جاء مسجدي هذا لم يأت إلا لخير يتعلمه أو يعلمه، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره.
والثالث: عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من صلى صلاة الغداة فأصيب دمه، فقد استبيح حمى الله، وأخفرت ذمته، وأنا طالب بدمه)) رواه عن القاسم بن مهدي، عن أبي مصعب، عن حاتم عنه، ثم قال: ولحاتم بن إسماعيل عن حميد بن صخر أحاديث غير ما ذكرته، وفي بعض هذه الأحاديث عن المقبري، ويزيد الرقاشي ما لا يتابع عليه.
هكذا فرق ابن عدي بينهما وجعلهما رجلين، والصحيح أنهما رجل واحد وهو أبو صخر حميد بن زياد، لكن حاتم بن إسماعيل كان يسميه حميد بن صخر وسماه بعهم حماداً، وقد روى له الجماعة كلهم أما البخاري ففي كتاب الأدب، وأما النسائي ففي مسند علي، وقد عرف اختلاف الأئمة في عدالته والاحتجاج بخبره مع الاضطراب في اسمه وكنيته واسم أبيه فما تفرد به من الحديث ولم يتابعه عليه أحد لا ينهض إلى درجة الصحيح، ولا ينتهي إلى درجة الصحة، بل يستشهد به ويعتبر به، وأما ابن قسيط شيخ أبي صخر فهو يزيد بن عبد الله بن قسيط بن أسمة بن عمير الليثي أبو عبد الله المدني الأعرج.
قد روى له البخاري ومسلم في صحيحهما حديثه عن عطاء بن يسار، وروى له مسلم أيضاً من روايته عن عروة بن الزبير وعبيد بن جريج وداود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص، ولم يخرج له في الصحيح شيء من روايته، عن أبي هريرة، بل هو قليل الحديث، عن أبي هريرة، روى له أبو داود في سننه حديثين من روايته عنه.


(1) 2/691
(2) هو الدولابي صاحب الكنى.
(1/192)

قال إسحاق بن منصور (1) : عن يحيى بن معين: يزيد بن عبد الله بن قسيط صالح ليس به بأس، وقال محمد بن سعد (2) : كان ثقة كثير الحديث، وقال النسائي (3) : ثقة وقال إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق، حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط، وكان فقيهاً ثقة، وكان ممن يستعان به على الأعمال لأمانته وفقهه، وقال ابن أبي حاتم (4) سئل أبي عن يزيد بن عبد الله بن قسيط؟ فقال: ليس بقوي.
وقال ابن حبان في كتابه الثقات (5) : روى عنه مالك وابن أبي دئب، وابن إسحاق ربما أخطأ، وذكره في كتاب التاريخ (6) في مشاهير التابعين في المدينة فقال: يزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي أبو عبد الله مات سنة اثنتين وعشرين ومائة وكان ردئ الحفظ.
وذكره في التاريخ ايضاً في مشاهير أتباع التابعين بالمدينة فقال: يزيد بن عبد الله بن قسيط من بني ليث من جملة أهل المدينة وقدماء شيوخهم مات سنة اثنين وعشرين ومائة، وهكذا ذكره في موضعين في التابعين، وفي أتباعهم،وقال في أحد الموضعين: كان رديء الحفظ، وقال في الآخر: من جملة أهل المدينة.
وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل (7) : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا إسماعيل بن يحيى بن كيسان، حدثنا عبد الرزاق قال:قلت لمالك ما شأنك لا تحدثني بحديث يزيد بن عبد الله بن قسيط عن ابن المسيب، عن عمر وعثمان في الملطاة قال: العمل عندنا على غير هذا، والرجل ليس هناك عندنا يعني يزيد بن قسيط وقال أبو أحمد بن عدي في الكامل (8) : يزيد بن قسيط مديني، ثم روى عن عبد الله بن محمد بن المنهال وغيره عن الرمادي، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا ابن جريح، حدثنا سفيان الثوري عن مالك بن أنس، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن سعيد بن


(1) رواه إسحاق بن منصور هذه عن ابن معين أخرجها ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 9/274.
(2) انظر الطبقات 5/246 ترجمة محمد بن أسامة حيث قال: وروى عنه يزيد بن عبد الله بن قسيط وكان ثقة قليل الحديث.
(3) انظر كلامه في الميزان 4/430.
(4) انظر الجرح والتعديل 9/274.
(5) انظر الثقات 5/543.
(6) انظر الثقات 7/616 وقال وكان ممن يخطئ.
(7) انظر الجرح والتعديل 9/274.
(8) انظر الكامل 7/2713.
(1/193)

المسيب أن عمر وعثمان في الملطاة وهي المسحاق (1) بنصف ما في الموضحة، قال عبد الرزاق: ثم قدم علينا الثوري فسألناه فحدثنا به عن مالك، قال عبد الرزاق: ثم لقيت مالكاً فقلت إن سفيان الثوري، حدثنا عنك عن ابن قسيط، عن ابن المسيب أنعمر وعثمان قضيا في الملطاة بنصف الموضحة، فقال: صدق أنا حدثته فقلت حدثني فأبى أن يحدثني فقال له مسلم بن خالد: يا أبا عبد الله ألا تحدثه قال: لا، العمل ببلدنا بخلافه ورجه عندنا ليس هناك يعني يزيد بن عبد الله بن قسيط.
ثم قال ابن عدي (2) : حدثنا الفضل بن الحباب، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن بكر أنبأنا ابن جريح عن سفيان، عن مالك بن أنس، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن سعيد بن المسيب، عن عمر وعثمان أنهما قضيا في الملطاة بنصف عقل الموضحة، هي السمحاق.
وقال ابن عدي (3) : حدثنا محمد بن علي المروري، حدثنا عثمان بن سعيد قال سألت يحيى بن معين عن يزيد بن قسيط ما حاله؟ قال: صالح، وقال ابن عدي ويزيد بن عبد الله بن قسيط، مديني مشهور عندهم بالرواية، وقد حدث عنه ابن عجلان ومالك بن أنس وجماعة معهما، وقد روى عنه مالك غير حديث، وهو صالح الروايات.
فقد تبين أن هذا الحديث الذي تفرد به أبو صخر عن ابن قسيط عن أبي هريرة لا يخلوا من مقال في إسناده، وإنه لا ينتهي به إلى درجة الصحيح.
وقد ذكر بعض الأئمة أنه على شرط مسلم، وفي ذلك نظر، فإن ابن قسيط، وإن كان مسلم قد روى في صحيحه من رواية أبي صخر عنه، لكنه لم يخرج من روايته عن ابي هريرة شيئاً (4) فلو كان قد أخرج في الأصول حديثاً من رواية أبي صخر، عن ابن قسيط عن أبي هريرة أمكن أن يقال في هذا الحديث: أنه على شرطه.
وأعلم أن كثيراً ما يروي أصحاب الصحيح حديث الرجل عن شيخ معين


(1) السمحاق: الجلدة الرقيقة التي على قحف الرأس فإن انتهت الشبحة إليها سميت سمحاقاً،انظر اللسان.
(2) انظر الكامل 7/2713.
(4) قلت وإذا راجعت تحفة الأشراف تجد أن ما قاله الحافظ ابن عبد الهادي حقاً فليس له رواية عن أبي هريرة في مسلم بل روى حديثين عن أبي هريرة وهي في أبي داود.
(1/194)

لخصوصيته به ومعرفته بحديثه وضبطه له، ولا يخرجون من حديثه عن غيره لكونه غير مشهور بالرواية عنه، ولا معروف بضبط حديثه، أو لغير ذلك، فيجيء من لا تحقيق عنده، فيرى ذلك الرجل المخرج له في الصحيح قد روى حديثاً عمن خرج له في الصحيح من غير طريق ذلك الرجل، فيقول: هذا على شرط الشيخين، أو على شرط البخاري، أو على شرط مسلم، لأنهما احتجا بذلك الرجل في الجملة (1) .
وهذا فيه نوع تساهل، فإن صاحبي الصحيح لم يحتجا به إلا في شيخ معين لا في غيره فلا يكون على شرطهما، وهذا كما يخرج البخاري ومسلم حديث خالد بن مخلد القطواني عن سليمان بن بلال، وعلي بن مسهر وغيرهما (2) ، ولا يخرجان حديثه عن عبد الله بن المثنى، وإن كان البخاري قد روى لعبد الله بن المثنى من غير رواية خالد عنه.
فإذا قال قائل في حديثه عن عبد الله بن المثنى: هذا على شرط البخاري كما قاله بعضهم في حديثه عنه عن ثابت البنائي عن أنس بن مالك قال: أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذا ثم رخص النبي بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم (3) ، كان في كلامه نوع مساهلة، فإن خالداً غير مشهور بالرواية عن عبد الله بن المثنى.
والحديث فيه شذوذ وكلام مذكور في غير هذا الموضع، وكما يخرج مسلم حديث حماد بن سلمة عن ثابت في الأصول دون الشواهد، ويخرج حديثه عن غيره في الشواهد، ولا يخرج حديثه عن عبد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك وعامر الأحوال وهشام بن حسان وهشام بن زيد بن أنس بن مالك وغيرهم، وذلك لأن حماد بن سلمة من


(1) قلت: ويمثل هذا وقع الحاكم رحمه الله تعالى في المستدرك فإنه مثلاً يخرج حديثاً من طريق سفيان بن حسين عن الزهري ثم يقول على شرط مسلم.
وهذا خطأ فإن سفيان بنحسين مضعف في الزهري وهو من رجال البخاري تعليقاً ومسلم والأربعة فمسلم لم يخرج له عن الزهري فلا يقال إذاً هو على شرطه كما ذكره الحافظ ابن عبد الهادي فليتنبه لهذه الفائدة العظيمة.
(2) ذكر الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي فقال: ذكر الغلابي في تاريخه قال: القطواني يأخذ عن مشيخة المدينة وابن بلال فقط، يريد سليمان بن بلال ويعني بهذا أنه لا يؤخذ منه إلا حديثه عن أهل المدينة وسليمان بن بلال منهم لكن أفرده بالذكر.
(3) أخرجه الدارقطني 2/182 وقال في رجاله كلهم ثقات ولا أعلم له علة.
(1/195)

أثبت من روى عن ثابت، أو أثبتهم، قال يحيى بن معين (1) : أثبت الناس في ثابت البنائي حماد بن سلمة.
وكما يخرج مسلم أيضاً حديث سويد بن سعيد، عن حفض بن ميسرة الصنعاني، مع أن سويداً ممن كثر الكلام فيه واشتهر، لأن نسخه حفص ثابته عن مسلم من طريق غير سويد لكن بنزول، وهي عنده من رواية سويد بعلو، فلذلك رواها عنه، قال إبراهيم بن أبي طالب: قلت لمسلم: كيف استخرجت الرواية عن سويد في الصحيح؟ فقال: ومن أين كنت أتى بنسخه حفص بن ميسرة، فليس لقائل أن يقول في كل حديث، رواه سويد بن سعيد عن رجل روى له مسلم من غير طريق سويد عنه، هذا على شرط مسلم فاعلم ذلك.
وقد روى مسلم في صحيحه حديثاً من رواية أبي صخر، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، لكن ابن قسيط لا يرويه عن أبي هريرة، وإنما يرويه عن داود بن عامر ب سعيد بن ابي وقاص، قال في صحيحه (2) حدثني محمد بن عبد الله بن نمير، ثنا عبد الله بن يزيد، حدثني حيوة، حدثني أبو صخر، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط أنه حدثه أن داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص، حدثه عن أبيه أنه كان قاعداً عند عبد الله بن عمر إذ طلع خباب صاحب المقصورة فقال: يا عبد الله بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من خرج مع جنازة وصلى عليها، ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها، ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد)) فأرسل ابن عمر خباباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة، ثم رجع إليه فيخبره ما قلت، وأخذ ابن عمر قبضة من حصى المسجد يقلبها في يده حتى رجع إليه الرسول فقال: قال عائشة: صدوق أبو هريرة.
فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض ثم قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة، هكذا روى مسلم هذا الحديث في صحيحه من رواية أبي صخر، عن ابن قسيط بعد أن ذكره من طرق عن أبي هريرة من رواية سعيد بن المسيب والأعرج وأبي صالح


(1) انظر شرح علل الترمذي لابن رجب.
(2) انظر صحيح مسلم 2/653.
(1/196)

وأبي حازم وغيرهم عنه، ورواه أيضاً من حديث معدان بن أبي طلحة الميعمري، عن ثوبان، فرواية أبي صخر متابعة لهذه الروايات وشاهدة لها (1) .
وهكذا عاد مسلم غالباً إذا روى لرجل قد تكلم فيه ونسب إلى ضعف وسوء حفظه وقلة ضبطه، إنما يروي له في الشواهد والمتابعات، ولا يخرج له شيئاً انفرد به ولم يتابع عليه (2) .
فعلم أن هذا الحديث الذي تفرد به أبو صخر، عن ابن قسيط عن أبي هريرة لا ينبغي أن يقال هو على شرط مسلم، وإنما هو حديث إسناده مقارب وهو صالح أن يكون متابعاً لغيره وعاضداً له، والله أعلم (3) .
وأما النزاع في دلالة الحديث فمن جهة احتمال لفظه، فإن قوله: ((ما من أحد يسلم علي)) يحتمل أن يكون المراد به عند قبره كما فهمه جماعة من الأئمة، ويحتمل أن يكون معناه على العموم، وأنه لا فرق في ذلك بين القريب والبعيد، وهذا هو ظاهر الحديث وهو الموافق للأحاديث المشهورة التي فيها فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم، وإن صلاتكم تبلغي حيثما كنتم، يشير بذلك صلى الله عليه وسلم إلى أن ما ينالي منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً، كما قال: ((ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنت)) .
والأحاديث عنه بأن صلاتنا وسلامنا تبلغه وتعرض عليه كثير قد تقدم ذكر بعضها.
وقد روى أبو يعلي الموصلي عن موسى بن محمد بن حبان، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا عبد الله بن نافع، أنبأنا العلاء بن عبد الرحمن قال: سمعت الحسن بن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً ولا تتخذوا بيتي عيداً وصلوا علي وسلموا فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني أينما كنتم وقد تقدم الحديث الذي رواه أبو يعلي في مسنده أيضاً عن أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين، حدثنا علي بن عمر عن


(1) انظر كلام الإمام مسلم في مقدمة صحيحه ص5.
(2) تقدم الكلام على الحديث ونقلنا كلام الحافظ في النكت الطراف.
(3) تقدم الكلام عليه.
(1/197)

أبيه عن علي بن حسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيها فيدعو، فنهاه فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم)) (1) .
روى هذين الحديثين من طريق أبي يعلي الموصلي الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين، وشرطه في أحسن من شرط الحاكم في صحيحه، وقال سعيد في سننه: حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) (2) .
وروى عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري، عن ابن عجلان، عن رجل يقال له سهل، عن الحسن بن الحسن بن علي أنه رأى قوماً عند القبر فنهاهم، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) (3) .
وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فنادني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء)) .
فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة، وأهل البيت رضي الله عنهم عن رواية علي بن أبي طالب، وأبنه الحسن وأبني ابيه علي بن الحسين زين العابدين والحسن بن الحسن شيخ بني هاشم في زمانه الذي لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار.


(1) تقدم الكلام عليه وجعفر بن إبراهيم مستور الحال وسقط (علي بن عمر عن أبيه عن) وتصويبه من اقتضاء الصراط المستقيم ص322 فيكون هذا (حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين، حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن حسين.
(2) هذا مرسل وتقدم الكلام عليه.
(3) انظر 3/877 طبع المكتب الإسلامي.
(1/198)

وهذان المرسلان: مرسل أبي سعيد (1) مولى المهري أحد ثقات التابعين، ومرسل الحسن بن الحسن من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج من أرسله به، وذلك يقتضي ثبوته عنده لولم يكن روي من وجوه مسنده غير هذين فكيف وقد جاء مسنداً من غير وجه.
قال أبو داود في سننه (2) : حدثنا أحمد بن صالح، قال: قرأت على عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقيري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم)) صلى الله عليه وسلم تسليماً.
وقال الشيخ (3) : وهذا إسناد حسن فإن رواته كلهم ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه. قال يحيى بن معين: هو ثقة وحسبك بابن معين موثقاً (4) .
وقال أبو زرعة لا بأس به (5) .
وقال أبو حاتم الرازي (6) : ليس بالحافظ هو لين تعرف من حفظه وتنكر.
فإن هذه العبارات منهم تنزل حديثه من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن، إذ لا خلاف في عدالته وفقه، وإن الغالب عليه الضبط، لكن قد يغلط أحياناً، ثم إن هذا الحديث مما يعرف من حفظه ليس مما ينكر، لأنه سنة مدنية هو محتاج إليها في فقهه. ومثل هذا يضبطه الفقيه، وللحديث شواهد من غير طريقة، فإن هذا الحديث روي من


(1) سعيد هو ابن منصور الخراساني صاحب السنن والحديث أخرجه إسماعيل القاضي رقم 30 والحديث له طرق كثيرة وألفاظه متقاربة وهو بمجموع طرقه يرتقي إلى الصحة إن شاء الله، تقدم الكلام عليه، وقوله (ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء) ليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام وإنما من كلام الحسن.
(2) 21/534.
(3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم 321-322.
(4) انظر رواية أبي خالد الدقاق يزيد بن الهيثم لابن معين رقم 373 ص116.
وفي رواية لابن معين في تاريخه برقم 952 قال ضعيف.
(5) انظر الجرح والتعديل 5/183 – 184.
(6) انظر الجرح والتعديل 5/183-184، وانظر الميزان 5/513.
(1/199)

جهات أخرى، فما بقي منكراً، وكل جملة من هذا الحديث رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد معروفة، وقد ذكر الشيخ هذه الأحاديث وغيرها في الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال:
فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم التي جاءت من وجوه حسان يصدق بعضها بعضاً، وهي متفقة على أن من صلى عليه وسلم من أمته، فإن ذلك يبلغ ويعرض عليه وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي والمسلم بنفسه، إنما فيها أن ذلك يعرض عليه ويبلغه صلى الله عليه وسلم تسليماً.
ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر الله به، سواء صلى عليه وسلم في مسجده، أو مدينته أو مكان آخر.
فعلم أن ما أمر الله به من ذلك، فإنه يبلغه وأما من سلم عليه عند قبره، فإنه يرد عليه.
وذلك كالسلام على سائر المؤمنين، ليس هو من خصائصه، ولا هو السلام المأمور به الذي يسلم الله على صاحبه عشراً كما يصلي على من صلى عليه عشراً، فإن هذا هو الذي أمر به في القرآن الكريم، وهو لا يختص بمكان دون مكان، وقد ذكرنا كلام الشيخ مستوفي فيما تقدم على قوله: ما من أحد يسلم علي، وهل هو عام لا يختص بمكان أو المراد به عند قبره؟ وأي شيء معنى كونه عند القبر بما فيه كفاية فغنينا عن إعادته في هذا الموضع والله أعلم.
ومن الأحاديث المروية في تبليغه صلى الله عليه وسلم سلام من يسلم عليه من أمته ما أخبرنا به قاضي القضاة تقي الدين أبو الفضل المقدسي مشافهة قال: حدثنا الحافظ أبو عبد الله المقدسي سماعاً، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن معمر بأصبهان أن جعفر بن عبد الواحد أخبرهم إجازة، أنبأنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الهمداني، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن بشر، حدثنا محمد بن عامر،حدثنا أبو قرصافة جندرة، وكان لأبي قرصافة صحبه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد كساه برنساً، وكان الناس يأتونه فيدعو لهم ويبارك فيهم فتعرف البركة فيهم.
وكان لأبي قرصافة ابن في بلاد الروم غازياً، وكان أبو قرصافة إذا أصبح في السحر بعسقلان نادى بأعلى صوته يا قرصافة الصلاة، فيقول قرصافة من بلاد الروم: لبيك يا أبتاه
(1/200)

فيقول أصحابه: ويحك لمن تنادي؟ فيقول: لأبي ورب الكعبة، يوقظني للصلاة.
قال ابو قرصافة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أوى إلى فراشة، ثم قرأ سورة تبارك، قم قال: ((اللهم رب الحل والحرام، ورب البلد الحرام ورب الركن والمقام ورب المشعر الحرام، وبحق كل آية أنزلتها في شهر رمضان بلغ روح محمد تحية مني وسلاماً أربع مرات وكل الله به ملكين حتى يأتيا محمداً فيقولان له ذلك فيقول صلى الله عليه وسلم وعلى فلان بن فلان مني السلام ورحمة الله وبركاته، هكذا أخرجه الحافظ أبو عبد الله في الأحاديث المختارة، وقال: لا أعرف هذا الحديث،إلا بهذا الطريق وهو غريب جداً وفي رواية من فيه بعض المقال.
وقال أبو القسم الطبراني: حدثنا عبيد الله بن محمد العمري (1) ، حدثنا أبو مصعب حدثنا مالك عن أبي الزناد، عن الأعرض، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يسلم علي في شرق ولا غرب إلا أنا وملائكة ربي ترد عليه السلام فقال له قائل: يا رسول الله فما بال أهل المدينة؟ فقال له: وما يقال لكريم في جيرته وجيرانه)) أنه مما أمر به من حفظ الجوار وحفظ الجيران، قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي، قيل: غريب من حديث مالك تفرد به أبو مصعب.
قلت: بل هو حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له أصل من حديث أبي هريرة، ولا حديث الأعرج، ولا حديث أبي الزناد، ولا حديث مالك، ولا حديث أبي مصعب، بل هو موضوع كله والمتهم بوضعه هذا الشيخ العمري المدني الذي روى عنه الطبراني، ويكفي في افتضاحه روايته هذا الحديث بمثل هذا الإسناد الذي كالشمس، ويجوز أن يكون وضع له وأدخل عليه فحدث به، نعوذ الله من الخذلان.
ثم ذكر المعترض أن السلام على نوعين نوع يقصد به الدعاء، ونوع يقصد به التحية والتكلم في ذلك بكلام عليه في بعضه مناقشات ومؤاخذات يطول الكتاب بذكرها.


(1) هو عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز العمري، قال الذهبي في الميزان، من شيوخ الطبراني يروي عن طبقة إسماعيل بن أبي أويس رماه النسائي بالكذب، وذكر صاحب اللسان هذا الحديث من مناكير قال الدارقطني ليس يصحيح تفرد به العمري وكان ضعيفاً.
(1/201)

فصل: في علم النبي صلى الله عليه وسلم بمن يسلم عليه
روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله ملائكة سياجين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام)) رواه النسائي (1) وإسماعيل القاضي وغيرهما من طرق مختلفة بأسانيد صحيحة لا ريب فيها إلى سفيان الثوري، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله، وصرح الثوري بالسماع، فقال: حدثني عبد الله بن السائب، هكذا في كتاب القاضي إسماعيل، وعبد الله بن السائب، وزاذان روى لهما مسلم ووثقهما ابن معين فالإسناد إذا صحيح.
ورواه أبو جعفر محمد بن الحسن الأسدي عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لله ملائكة بسيحون في الأرض يبلغوني صلاة من صلى علي من أمتي، قال الدارقطني، المحفوظ عن زاذان عن ابن مسعود: يبلغوني عن أمتي السلام.
قلت: وقد روى الإمام بن حنبل حديث عبد الله بن مسعود هذا في مسنده، فقال: قال حدثنا ابن نمير، أنبأنا سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان (2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن لله في الأرض ملائكة سياجين يبلغوني من أمتي السلام)) ، رواه أبو يعلي الموصلي، عن أبي خيثمة، عن وكيع، عن سفيان.
ورواه أبو بكر بن أبي عاصم، عن أبي بكر عن وكيع، ورواه النسائي (3) من رواه ابن المبارك ووكيع وعبد الرزاق ومعاذ بن معاذ أربعتهم عن سفيان، ورواه الحاكم في


(1) 3/43.
(2) سقط ذكر الصحابي هنا وهو مثبت في النسخ الأخرى.
(3) 3/43 رقم 1282.
(1/202)

المستدرك (1) من رواية أبي إسحاق الفزاري عن الأعمش وسفيان، عن عبد الله بن السائب وحكم له بالصحة.
ورواه أبو حاتم بن حبان البستي (2) في كتاب الأنواع والتقاسيم عن أبي يعلي، عن أبي خيثمة، وقد سئل الدارقطني في كتاب العلل عن حديث زاذان أبي عمر الكندي عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم إن لله ملائكة يسيحون في الأرض يبلغوني من أمتي صلاة من صلى علي؟ فقال: هو حديث رواه محمد بن الحسن بن الزبير الأسدي المعروف بالتل عن الثوري، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان عن علي ووهم فيه.
وإنما رواه أصحاب الثوري منهم يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ومعاذ بن معاذ، وفضيل بن عياض وغيرهم عن الثوري عن عبد اللهبن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود.
وكذلك رواه الأعمش والحسين الخلقاني، حدثنا المحاملي، حدثنا يوسف ابن موسى القطان، حدثنا جرير عن حسين الخلقاني بذلك، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والعوام بن حوشب وشعبة، قال ذلك داود عبد الجبار، عن العوام وشعبه، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن ابن مسعود وهو الصحيح.
قال المعترض
وقال بكر بن عبد الله المزني، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فإن رأيت خير لكم تحدثون ويحدث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فإن رأيت خيراً حمدت الله وإن رأيت غير ذلك استغفرت الله لكم)) .
قلت: هذا خبر مرسل رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (3) ، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن غالب القطان عن


(1) 2/421.
(2) 2/134 ورواه أيضاً في الكبرى كما في تحفة الأشراف 7/21 وفي عمل اليوم والليلة برقم 66. قال الهيثمي في المجمع 9/24 رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، وفي فيض القدير 2/ قال الحافظ العراقي الحديث متفق عليه دونقول سياجين، قلت: قال شيخنا مقبل بن هادي الوادعي: ألا أن عبد المجيد بن رواد وإن أخرج له مسلم ووثقه ابن معين والنسائي فقد ضعفه بعضهم. وهذا الحديث من مناكير حيث أسنده حيث أسنده وبقية الرواة يرسلونه.
(3) ص36 رقم 25 والطريق الأخرى الآتية برقم 26.
(1/203)

بكر بن عبد الله، وهذا إسناد صحيح إلى بكر المزني، وبكر من ثقات التابعين وأثمتهم، وقال القاضي إسماعيل: حدثنا حجاج بن المنهال، حدثنا حماد بن سلمه عن كثير بن الفضل، عن بكر بن عبد اله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حياتي خير لكم ووفاني خير لكم تحدثون فيحدث لكم فإذا أنا مت عرضت على أعمال فإن رأيت خير حمدت الله وإن رأيت شراً استغفرت الله لكم)) .
وقال أيضاً (1) : حدثنا إبراهيم بن الحجاج، حدثنا وهيب عن أيوب قال: بلغني والله أعلم أن ملكاً موكل بكل من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المعترض
وفي كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للقاضي إسماعيل، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم)) وهذا الحديث في سنن أبي داود من غير ذكر السلام، وفي هذه الرواية زيادة السلام.
قلت: أما الذي في سنن أبي داود (2) فحديث ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) .
هذا رواه من حديث أبي هريرة، وأما ما ذكره من كتاب القاضي إسماعيل، فإنه رواه من حديث علي بن الحسين، عن أبيه عن جده فقال (3) : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس (4) ، حدثنا جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عمن أخبره من أهل بيته، عن علي بن الحسين بن علي أن رجلاً كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه ويصنع من ذلك ما انتهره عليه علي بن الحسين، فقال له علي بن الحسين (5) : هل لك أن أحدثك حديثاً عن أبي؟ قال: نعم فقال له علي بن


(1) انظر فضل الصلاة على النبي صفحة 45. قلت: وإسناده إلى أيوب صحيح.
(2) تقدم صفحة 119 حاشية (2) .
(3) انظر فضل الصلاة على النبي صفحة 45.
(4) سقط إسماعيل بن أبي اويس من المطبوعة من فضل الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، وفي المطبوعة أيضاً (من أهل بلده) بدلاً من أهل بيته كما هنا.
(5) هنا سقط وصوابه كما في فضل الصلاة على النبي (فقال به علي بن الحسين: ما يحملك على هذا؟ قال: أحب التسليم علي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال له علي بن الحسين: هل لك..) فليتنبه.
(1/204)

الحسين: أخبرني أبي عن جدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تجعلوا قبري عيداً ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم)) .
هكذا رواه من حديث أهل البيت، والذي رواه أبو داود هو من حديث أبي هريرة وكان ينبغي للمعترض التنبيه على هذا، وقد ذكرنا هذا الحديث الذي رواه القاضي إسماعيل فيما تقدم من رواية أبي يعلي الموصلي، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن زيد بن الحباب عن جعفر بن إبراهيم، وفي رواية أبي يعلي يسميه من أخبر جعفر بن إبراهيم من أهل بيته، وهو علي بن عمر بن علي بن الحسين، أخبره به عن أبيه عمر، عن جده علي بن الحسين زين العابدين والله أعلم.
قال المعترض
وروى ابن عساكر من طرق مختلفة عن نعيم بن ضمضم العامري، عن عمران بن حميري الجعفي قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أعطاني ملكاً من الملائكة يقوم على قبري إذا أنا مت فلا يصلي علي عبد صلاة إلا قال يا أحمد فلان (1) يصلي عليك بسمه واسم أبيه فيصلي الله عليه مكانها عشراً)) وفي رواية إن الله أعطى ملكاً من الملائكة أسماء الخلائق وفي رواية أسماع الخلائق فهو قائم على قبري إلى يوم القيامة، وذكر الحديث.
قلت: هذا حديث ليس بثابت وعمران بن حميري: مجهول، وقد ذكر البخاري (2) أنه لا يتابع على حديثه، هذا ونعيم بن ضمضم ويقال ابن جهضم: لم يشتهر من حاله ما يوجب قبول خبره.
قال ابن عدي في كتاب الكامل في الضعفاء (3) ، عمران بن حميري قال لي عمار قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل أعطاني ملكاً لا يتابع عليه سمعت ابن حماد يذكره عن البخاري، وقال البخاري في تاريخه (4) : عمران بن حميري، قال لي عمار بن ياسر: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل أعطاني ملكاً أسماع الخلائق قائم على


(1) هنا سقط أيضاً (وصوابه: ألا قال أحمد فلان بن فلان) .
(2) انظر تاريخ البخاري الكبير 6/416 وفيه لا يتابع عليه.
(3) 5/1747.
(4) هذا كلامه في التاريخ 6/416.
(1/205)

قبري)) قاله أبو أحمد الزبيري، حدثنا نعيم بن جهضم عن عمران لا يتابع عليه.
وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل (1) : عمران بن حميري الجعفي ويقال: عمران الحميري، قال: قال لي عمار بن ياسر: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل أعطى ملكاً من الملائكة أسماع الخلائق قائم على قبري يبلغني صلاة أمتي علي)) .
ورواه عنه نعيم بن ضعضم، سمعت أبي يقول ذلك، هكذا ذكره ولم يزد على تعريفه بأكثر من روايته لهذا الحديث، ولم يذكر نعيماً في حرف النون.
وقال عيسى بن علي الوزير قرأ على القاضي أبي القاسم بدر بن الهيثم، وأنا أسمع قيل له: حدثكم عمرو بن النصر العزال، حدثنا عصمة بن عبد الله الأسدي، حدثنا نعيم بن ضمضم، عن عمران بن الحميري، قال: قال لي عمار بن ياسر: وأنا وهو مقبلان ما بين الحيرة والكوفة: يا عمران بن الحميري ألا أخبرك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: بلى فأخبرني قال: ((إن الله أعطى ملكاً من الملائكة أسماع الخلائق، فهو قائم على قبري إلى يوم القيامة لا يصلي على أحد صلاة إلا سماه باسمه واسم أبيه وقال: يا أحمد صلى علي فلان بن فلان وتكفل لي الرب تبارك وتعالى أن أرد عليه بكل صلاة عشراً)) وقال عثمان بن خزاذ: حدثني سعيد بن محمد الجرمي حدثنا علي بن القاسم الكندي عن نعيم بن ضمضم، عن عمران بن حمير قال: قال لي عمار بن ياسر: ألا أحدثك عن حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الني صلى الله عليه وسلم: ((يا عمار إن الله عز وجل أعطى ملكاً من الملائكة أسماع الخلائق فهو على قبري إذا أنا مت فليس أحد من أمتي يصلي علي صلاة إلا سماه باسمه، واسم أبيه يا أحمد إن فلاناً يصلي عليك يوم كذا وكذا بكذا،قال وتكفل لي الرب تبارك وتعالى أن يصلي على ذلك العبد عشراً بكل واحدة)) وقد روى هذا الحديث أيضاً محمد بنهارون الروياني في مسنده عن أبي كريب، عن قبيصة، عن نعيم بن ضمضم،وهو حديث غريب تفرد به نعيم عن عمران بن عمارة، والله أعلم.
قال المعترض
وعن ابن عباس قال: ليس أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يصلي عليه صلاة إلا وهي تبلغه يقول له الملك: فلان يصلي عليك كذا وكذا صلاة قال: وما تمضنته هذه الأحاديث


(1) 6/396 وانظر الميزان واللسان.
(1/206)

والآثار من تبليغ الملائكة للنبي صلى الله عليه وسلم بين ما ورد من كون الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم تعرض عليه، كما جاء ذلك في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي قال: فقالوا يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال يقولون بليت، قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء)) .
قال الشيخ الحافظ زكي الدين المنذري رحمه الله: وله علة دقيقة أشار إليها البخاري وغيره وقد جمعت طرقه في جزء الحديث المذكور من رواية حسين الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس، وهؤلاء ثقات مشهورون علته أن حسين بن علي الجعفي لم يسمع من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وإنما سمع من عبد الرحمن بن يزيد بن تميميم وهو ضعيف، فلما حدث به الجعفي غلط في اسم الجد، فقال ابن جابر.
قال المعترض
قلت: وقد رواه أحمد في مسنده، عن حسين الجعفي، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هكذا بالعنعنة، وروى حديثين آخرين بعد ذلك قال فيهما: حسين حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وذلك لا ينافي الغلط إن صح أنه لم يسمع منه.
قلت: ذكر ابن أبي حاتم هذا الحديث في كتاب العلل (1) ، فقال: سمعت أبي يقول: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر لا أعلم أحد من أهل العراق يحدث عنه، والذي عندي أن الذي يروي عنه: أبو أسامة، وحسين الجعفي واحد هو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، لأن أبا أسامة روى عن عبد الرحمن بن يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة خمسة أحاديث أو ستة أحاديث منكرة لا يحتمل أن يحدث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر مثله، ولا أعلم أحداً من أهل الشام روى عن ابن جابر من هذه الأحاديث شيئاً.
وأما حسين الجعفي فإنه روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة أنه قال: أفضل الأيام يوم الجمعة فيه الصعقة، وفيه النفخة، وفيه كذا، وهو حديث منكر لا أعلم أحداً رواه غير


(1) 1/197.
(1/207)

حسين الجعفي، وأما عبد الرحمن بن يزيد بن تميم: فهو ضعيف الحديث وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثقة.
وقال البخاري في تاريخه (1) : عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السلمي الشامي عن مكحول سمع منه الوليد بن مسلم عنده مناكير ويقال: هو الذي روى عنه أهل الكوفة أبو أسامة وحسين، فقالوا: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وقال في كتاب الضعفاء (2) : عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السلمي يعد في الشاميين مرسل، وروى عنه الوليد بن مسلم وعنده مناكير يقال: هو الذي روى عنه أهل الكوفة أبو أسامة وغيره فقالوا:عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وهو أبن يزيد بن تميم ليس بابن جابر، وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل (3) ، حدثني أبي قال: سألت محمد بن عبد الرحمن بن أخي حسين الجعفي، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، فقال: قدم الكوفة عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، ويزيد بن يزيد بن جابر، ثم قدم عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بعد ذلك بدهر، فالذي يحدث عنه أبو أسامة ليس هو ابن جابر، وهو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم.
قال ابن أبي حاتم وسألت أبي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم فقال: عنده مناكير يقال: هو الذي روى عنه أبو أسامة وحسين الجعفي، وقالا هو ابن يزيد بن جابر، وغلطا في نسبه وهو ابن يزيد بن تميم، وهو أصح وهو ضعيف الحديث، وقال أبو داود (4) : وعبد الرحمن بن يزيد بن تميم متروك الحديث حديث عنه أبو أسامة وغلط في أسمه، فقال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الشامي، وكل ما جاء عن أبي أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد، فإما هو ابن تميم، وقال أبو بكر: ابن أبي داود (5) قدم يعني (الكوفة) فاراً مع القدرية، وقد سمع أبو أسامة من ابن المبارك عن ابن جابر، وجميعاً يحدثان عن مكحول.
وابن جابر أيضاً دمشقي، فلما قدم هذا قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد الدمشقي وحدث عن مكحول، فظن أبو أسامة أنه ابن جابر الذي روى عنه ابن المبارك، وابن جابر ثقة


(1) 5/365.
(2) ص144 رقم 210 وما نقله هنا الإمام ابن عبد الهادي فيه تصرف.
(3) 5/300 رقم 1433.
(4) انظر كلامه في التهذيب 6/297.
(5) انظر كلامه في التهذيب 6/297 وفيه تصرف هنا.
(1/208)

مأمون يجمع حديثه، وابن تميم ضعيف روى عنه الزهري أحاديث مناكير، حدثنا ببعضها محمد بن يحيى النيسابوري في علل حديث الزهري، وقال: أخرج علي من حدث عني هذه الأحاديث مفردة، قال:وقدم ابن تميم هذا مع نور بن يزيد ويرد بن سنان ومحمد بن راشد وابن ثوبان فروا من القتل، وكانوا قدرية فقدموا العراق فسمع منهم أهل العراق.
وقال النسائي: في كتاب الضعفاء (1) : عبد الرحمن بن يزيد بن تميم متروك الحديث شامي، وروى عنه أبو أسامة، وقال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وقال موسى بن هارون الحافظ، روى أبو أسامة عن عبد الرحمن بنيزيد بن جابر، وكان ذلك وهماً منه وهو لم يلق عبد الرحمن بنيزيد بن جابر، وإنما لقي عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، فظن أنه ابن جابر، وأبن جابر ثقة، وأبن تميم ضعيف.
وقال الخطيب (2) : روى الكوفيون أحاديث عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر فوهموا في ذلك،والحمل عليه في تلك الأحاديث، وقال بعض الحفاظ المتأخرين: قدم عبد الرحمن بن يزيد على ذلك فظنوه ابن جابر، لأنه أشهر الرجلين، فغلطوا في ذلك لتدليسه نفسه، وقال أبو حاتم بن حبان البستي في كتاب المجروحين (3) : عبد الرحمن بن يزيد بن تميم من أهل دمشق كنيته أبو عمرو ويروي عن الزهري، وروى عنه الوليد بن مسلم وأبو المغيرة، وكان ممن ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الإثبات من كثرة الوهم والخطأ وهو اذلي يدلس عنه الوليد بن مسلم ويقول: قال أبو عمرو: حدثنا أبو عمرو عن الزهري يوهم أنه الأزاعي، وإنما هو ابن تميم.
وقد روى عنه الكوفيون أبو أسامة والحسين الجعفي ذووهما، وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: قوله حسين الجعفي روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم خطأ الذي يروي عنه حسين هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وأبو أسامة يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم فيقول ابن جابر، ويغلط في اسم الجد.
قلت: وهذا الذي قاله الحافظ أبو الحسن هو أقرب وأشبه بالصواب، وهو أن الجعفي روى عن ابن جابر ولم يرو عن ابن تميم، والذي يروي عن ابن تميم ويغلط في


(1) ص158 رقم 380.
(2) 10/212.
(3) 2/55-56.
(1/209)

اسم جده هو أبو أسامة كما قاله الأكثرون، فعلى هذا يكون الحديث الذي رواه حسين الجعفي، عن ابن جابر، عن أبي الأشعث، عن أوس حديثاً صحيحاً، لأن رواته كلهم مشهورون بالصدق والأمانة والثقة والعدالة، ولذلك صححه جماعة من الحفاظ كأبي حاتم بن حبان، والجاحظ عبد الغني المقدسي، وابن دحية وغيرهم، ولم يأت من تكلم فيه وعلله بحجة بينه.
وما ذكره أبو حاتم الرازي في العلل (1) لا يدل على تضعيف رواية أبي أسامة، عن ابن جابر لا على ضعف رواية الجعفي عنه، فإنه قال: والذي عندي أن الذي يروي عنه ابو أسامة وحسين الجعفي واحد، ثم ذكر ما يدل على أن الذي روى عنه أبو أسامة فقط هو ابن تميم، فذكر أمراً عاماً، واستدل بدليل خاص، وقد قيل: إن أبا أسامة كان يعرف أن عبد الرحمن بن يزيد هو ابن تميم ويتغافل عن ذلك، قال يعقوب بن سفيان: قال محمد بن عبد الله بن نمير، وذكر أبا اسامة، فقال: الذي يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر يرى أنه ليس بابن جابر المعروف، وذكر لي أنه رجل يسمى باسم ابن جابر، قال يعقوب: صدق هو عبد الرحمن بن فلان بن تميم، فدخل عليه أبو أسامة فكتب عنه هذه الأحاديث، فروى عنه، وإنما هو إنسان يسمى باسم ابن جابر قال يعقوب، وكأني رأيت ابن نمير يتهم أبا أسامة أنه علم ذلك وعرف، ولكن تغافل عن ذلك، قال: وقال لي ابن نمير: أما ترى روايته لا تشبه سائر حديثه الصحاح الذي روى عنه أهل الشام وأصحابه.
وقوله في الحديث: وقد أرمت هو بفتح الراء وبعضهم يقول بكسرها، وليس له وجه، يقال: أرم، أي صار رميماً، أي عظماً بالياً، وفإذا اتصلت به تاء الضمير فأفصح اللغتين أن يفك الإدغام فيقال: أرممت، وفيه لغة أخرى، أرمت بتشديد الميم، وقد تخفف بحذف الميم الأولى، ونقل حركتها إلى الراء، فيقال: أرمت، وقد جاء في بعض الروايات: وقد أرممت بفك الإدغام على اللغة المشهورة.
قال أبو بكر: أحمد بن عمر بن أبي عاصم، حدثنا ابو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حسين بن علي بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الاشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فإن صلاتكم معروضة علي، فقال


(1) انظر العلل 1/197.
(1/210)

رجل: فكيف تعرض عليك وقد أرممت – يعني بليت – فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) هكذا رواه بهذا اللفظ.
ولهذا الحديث شواهد متعددة منها حديث أبي الدرداء، وقد تقدم، وسيأتي أيضاً مع الكلام عليه إن شاء الله تعالى، ومنها ما رواه الحاكم (1) وصححه من حديث الوليد بن مسلم قال: حدثني أبو رافع عن سعيد المقبري، عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فأكثروا علي الصلاة يوم الجمعة، فإنه ليس يصلي علي أحد يوم الجمعة إلإ عرضت علي صلاته))
هكذا رواه الحاكم وصححه، وابو رافع هو إسماعيل بن رافع المدني، وقد ضعفه الإمام أحمد بن حنبل (2) ويحيى بن معين (3) وغير واحد من الأئمة.
ومنها ما رواه ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أكثروا علي من الصلاة في الليلة الغراء واليوم الأزهر، فإنهما يؤديان عنكم، وإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وكل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، ورواه عمارة بن غزية عن ابن شهاب بنحوه وهو مرسل.
وقال أبو أحمد بن عدي في الكامل (4) : أخبرنا إسماعيل بن موسى الحاسب، حدثنا أبو إسحاق الحميسي عن يزيد الرقاشي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإن صلاتكم تعرض علي)) هذا إسناد ضعيف جداً وأبو إسحاق


(1) 2/421.
(2) في رواية: ضعيف وفي أخرى منكر الحديث أنظر التهذيب 1/295.
(3) انظر تاريخ ابن معين رقم 244 قال: ليس بشيء، وفي سؤالات ابن الجنيد ص486، رقم 874 سئل ابن معين عنه فقال ضعيف، وقال النسائي في الضعفاء ص49 رقم 34 متروك الحديث.
انظر الجرح والتعديل 2/168 والتاريخ الكبير 1/354 والمجروحين لابن حبان 1/124 والكاشف للذهبي 1/72 والمغني 1/80 والميزان 1/227 وانظر التهذيب.
(4) انظر الكامل 2/944، 969، 1039 وسقط هنا من الإسناد جبارة، وإسناده هكذا: أخبرنا إسماعيل بن موسى الحاسب حدثنا جبارة ثنا أبو إسحاق الحميسي عن يزيد الرقائي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكره.
(1/211)

الحميسي أسمه حازم بن الحسين وهو شيخ ضعيف (1) ، ويزيد الرقاشي (2) وجبارة بن المغلس (3) لا يحتج بهما.
وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق (4) ، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا حسين بن علي الجعفي، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر سمعته يذكر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي)) قالوا يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ يقولون: قد بليت – قال: ((إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) هكذا رواه عن علي بن المديني زين الحفاظ، عن حسين الجعفي مجرداً بالتصريح بسماع الجعفي من ابن جابر.
ثم قال (5) : حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا جرير بن حازم، قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تأكل الأرض جسد من كلمه روح القدس)) وقال أيضاً (6) : حدثنا مسلم حدثنا المبارك بن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة)) .
حدثنا سالم (7) : بن سليمان الضبي، حدثنا أبو حرة عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا علي الصلاة يوم الجمعة فإنها تعرض علي)) ، حدثنا عارم حدثنا جرير بن حازم، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة)) (8) . وقد روي بعض الحفاظ بإسناده عن عمر بن عبد العزيز قال: انشروا العلم يوم الجمعة، فإن غافله (9) العلم النسيان وأكثروا الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة.


(1) في الميزان واللسان والمغني في الضعفاء، حازن بن حسين بصري مجهول. وانظر الكنى للدولابي 1/100.
(2) هو يزيد بنأبان الرقاشي وهو متروك الحديث، انظر الضعفاء والمتروكين للنسائي، ص253 رقم 673 والتاريخ الكبير 8/320 والجرح والتعديل 9/251 والمجروحين 3/98 والمغني 2/747 والكاشف 3/240 والتهذيب.
(3) وهو ضعيف انظر الجرح والتعديل 2/550 والمغني 1/127 والكاشف 1/123 والميزان 1/287 والضعفاء والمتروكين للنسائي ص72 رقم 103 والمجروحين 1/221 والتهذيب 2/57
(4) ص35 رقم 22 فضل الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام.
(5) رقم 23
(6) رقم 28
(7) رقم 29 وشيخ إسماعيل القاضي فيه سلم بن سليمان الضبي.
(8) رقم 40.
(9) في نسخة (عائلة) .
(1/212)

قال المعترض
وروى ابن ماجه الحديث المذكور من طريق آخر ذكره في آخر كتاب الجنائز وفي متنه زيادة، ثم ذكر إسناده إلى ابن ماجه.
حدثنا عمرو بن سواد المصري، حدثنا عبد الله بن وهب عن عمر بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أيمن، عن عبادة بن نسبي، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة، وإن أحداً لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها)) قال: قلت: وبعد الموت؟ قال: ” وبعد الموت ” إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق)) قال هذا لفظ ابن ماجه، وفيه زيادة قوله ” حين يفرغ منها ” وفي الأصل “حتى” التي هي حرف غاية وعليه تصيب، وفي الحاشية ” حين ” التي هي ظرف زمان، فإن كانت هي الثابت استفيد منها أن وقت عرضها على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام حين الفراغ من غير تأخير، وإن كان الثابت ” حتى ” كما في الأصل دل عرضها، عليه وقت قوله، فيدل على عدم التأخير أيضاً وفيه زيادة أيضاً، وهي قوله: ((وبعد الموت)) بحرف العطف وذلك يقتضي أن عرضها عليه في حالتي الحياة والموت جميعاً.
قلت: وقد روى هذا الحديث أيضاً حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، أخبرنا، الحافظ أبو الحجاج قال،: أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل القرشي، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن معمر بن الفاخر القرشي، وأبو مسلم المؤيد بن عبد الرحيم بن الأخوة، وأبو المجد زاهر بن أبي طاهر الثقفي، وأبو الفخر أسعد بن سعيد بن روح، قالوا أنبأنا سعيد بن ابي الرجاء الصيرفي، أنبأنا أبو الفتح منصور بن الحسين وأبو طاهر بن محمود، قال أنبأنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن هلال، عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة وإن أحداً لا يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ، قال:قلت وبعد الموت؟ قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فنبي الله حي يرزق هكذا رواه حرملة عن ابن وهب بهذا اللفظ، وهو
(1/213)

حديث فيه إرسال، فإن عبادة بن نسي (1) ، لم يدرك ابا الدرداء، وزيد بن أيمن شيخ مجهول الحال (2) ، لا نعلم أحداً روى عنه غير سعيد بن أبي هلال، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة غير ابن ماجه (3) هذا الحديث الواحد.
وقال البخاري في التاريخ (4) : زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي: مرسل،روى عنه سعيد بن أبي هلال، انتهى كلامه، وهذا الحديث وإن كان في إسناده شيء، فهو شاهد لغيره، وعاضد له، والله أعلم.
ثم ذكر المعترض من طريق البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد الكاتب، ثنا أحمد بن عبيد، ثنا الحسين بن سعيد ثنا إبراهيم بن الحجاج، ثنا حماد بن سلمة، عن برد بن سنان، عن مكحول الشامي، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا علي من الصلاة في كل يوم جمعة، فإن صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم من بمنزلة)) قال: وهذا إسناد جيد.
قلت: فيه إرسال، فإن مكحولاً لم يسمع من أبي أمامة، قال ابن أبي حاتم (5) : سمعت أبي يقول: مكحول لم ير أبا أمامة، وقال غير أبي حاتم: رآه ولم يسمع منه وقال أبو حاتم (6) : سألت أبا مسهر هل سمع مكحول من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما صح عندنا إلا أنس بن مالك، قلت، وأثلة فأنكره، والله أعلم.
قال المعترض
وعن حصين بن عبد الرحمن عن يزيد الرقاشي قال أنا ملكاً موكل يوم الجمعة بمن صلى علي النبي صلى الله عليه وسلم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن فلاناً من أمتك صلى عليك، وعن أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني جبريل عليه السلام فقال بشر أمتك من صلى عليك


(1) هو قاضي طبرية ثقة فاضل (التقريب) وانظر جامع التحصيل ص206 رقم 334.
(2) زيد بن أيمن مقبول كما في التقريب.
(3) برقم 1637، قلت والحديث له علة أخرى وهي ما حكاه البخاري في التاريخ الكبير 3/387 حيث قال: زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي مرسل وسيأتي نقل المؤلف لهذا.
(4) 3/387.
(5) انظر جامع التحصيل ص285.
(6) انظر الجرح والتعديل 8/407-408.
(1/214)

صلاة كتب الله له بها عشر حسنات وكفر بها عنه عشر سيئات ورفع له بها عشر درجات ورد الله عليه مثل قوله وعرضت علي يوم القيامة)) . رواه ابن عساكر، وقال: ولا تنافي بين هذه الأحاديث، فقد يكون العرض عليه مرات وقت الصلاة، ويوم القيامة.
وحديث أبي هريرة وحديث ابن مسعود مصرحان بأنه يبلغه سلام كل من سلم عليه، وهم اصحيحان إن شاء الله تعالى: وحديث أوس بن أوس، وما في معناه يدل على أن الموت غير مانع من ذلك، وكان مقصودنا يجمع هذه الأحاديث بيان العرض على النبي صلى الله عليه وسلم وأن مراد التبليغ من الملائكة له صلى الله عليه وسلم كما تمضنه حديث أبي هرير وحديث ابن مسعود، وهذا في حق الغائب بلا إشكال وأما في حق الحاضر عند القبر، فهل يكون كذلك، أو يسمعه صلى الله عليه وسلم بغير واسطة؟ ورد في ذلك حديثان: أحدهما: ((من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي ناباً بلغته، وفي رواية نائباً منه ابلغته، وفي رواية نائباً من قبري وفي رواية عن قبري)) .
والحديث الثاني: ((ما من عبد يسلم علي عند قبري إلا وكل بها ملك يبلغني وكفى أمر آخرته ودنياه وكنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة)) وفي رواية ((من صلى علي عند قبري وكل الله به ملكاً يبلغني وكفى أمر دنياه وآخرته وكنت له شهيداً وشفيعاً)) وفي رواية: ((ما من عبد صلى علي عند قبري إلا وكل الله به، وفيها شفيعاً وشهيداً)) وهذان الحديثان كلاهما من رواية محمد بن مروان السدي الصغير، وهو ضعيف عن الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: هذا الحديث موضوع على رسول الله ليس له أصل ولم يحدث به أبو هريرة، ولا أبو صالح، ولا الأعمش، ومحمد بن مروان السدي: متهم بالكذب والوضع ولفظ هذا الحديث الذي تفرد به مختلف، فإن اللفظ الأول يدل على إثبات السماع عند القبر، واللفظ الثاني يدل على نفي السماع عند القبر، واللفظ الأول هو المشهور عن محمد بن مروان، رواه عن العلاء بن عمرو الحنفي، ورواه عن العلاء جماعة، قال أحمد بن إبراهيم بن ملحان: حدثنا العلاء بن عمرو، حدثنا محمد بن مروان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي نائياً من قبري أبلغته)) . رواه العقيلي (1) عن شيخ له عن


(1) انظر الضعفاء الكبير للعقيلي 4/136-137، وقال بعد قوله وليس بمحفوظ ((ولايتباه إلا من هو دونه)) .
(1/215)

العلاء بن عمرو: وقال: لا أصل له من حديث الأعمش، وليس بمحفوظ، ورواه الطبراني من رواية العلاء أيضاً ولفظه: ((من صلى علي من قريب سمعته، ومن صلى علي من بعيد أبلغت)) وقد تكلم أبو حاتم بن حيان وأبو الفتح الأزدي في العلاء بن عمرو فقال ابن حبان (1) يجوز الاحتجاج به بحال، وقال الأزدي لا يكتب عنه بحال.
وقد روى بعضهم هذا الحديث من رواية أبي معاوية عن الأعمش وهو خطأ فاحش، وإنما هو حديث محمد بن مروان تفرد به وهو متروك الحديث متهم بالكذب.
قال ابن أبي حاتم (2) حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبد السلام بن عاصم الهشنجاني، قال سمعت جريراً يقول: محمد بن مروان كذاب، يعني صاحب الكلي وقال العقيلي (3) ، حدثنا الحسن بن عليب، حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي، قال: سمعت ابن نمير يقول: محمد بن مروان الكلي: كذاب، وما سمعته وقع في أحد غيره.
وقال عباس الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول (4) : السدي الصغير محمد بن مروان صاحب الكلي، ليس بثقة، وقال ابن أبي حاتم (5) : سمعت أبي يقول: هو ذاهب الحديث متروك الحديث لا يكتب حديثه البتة.
وقال النسائي (6) والدولابي والأزدي: متروك الحديث، وقال السعدي (7) : ذاهب الحديث، وقال صالح جزرة: كان يضع الحديث.
وقال ابن حبان (8) : كان ممن يروي الموضوعات عن الإثبات، لا يحل كتب حديثه


(1) انظر المجروحين 2/286.
(2) انظر الجرح والتعديل 8/86.
(3) الضعفاء الكبير للمقيلي 8/136.
(4) في التهذيب 9/436 الدوري عن ابن معين (ليس بثقة) .
(5) 8/136.
(6) الضعفاء والمتروكين ص219.
(7) انظر أحوال الرجال ص58 رقم 50.
وانظر التاريخ الكبير للبخاري 1/232 والصغير ص105 والجرح والتعديل 8/86 والميزان4/32 والمغني 2/631، ولسان الميزان 7/375.
(8) انظر المجروحين 2/286.
(1/216)

إلا على سبيل الاعتبار، ولا الاحتجاج به بحال من الأحوال، وقال ابن عدي (1) : عامة ما يرويه غير محفوظ، والضعف على رواياته بين، وقال الحاكم: هو ساقط في أكثر روايته.
وأما اللفظ الثاني الذي يدل على عدم السماع عند القبر فرواه البيهقي في كتاب شعب الإيمان.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله الصفار إملاء، حدثنا محمد بن موسى البصري، حدثنا عبد الملك بن قريب، ثنا محمد بن مروان، وهو يتيم لبني السدي لقيته ببغداد عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يسلم علي عند قبري إلا وكل الله بها ملكاً يبلغني وكفى أمر آخرته ودنياه وكنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة)) .
وقال أبو الحسين بن سمعون: حدثنا عثمان بن أحمد بن يزيد، ثنا محمد بن موسى، حدثنا عبد الملك بن قريب الأصمعي، حدثنا محمد بن مروان السدي، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي عند قبري وكل الله به ملكاً يبلغني وكفى أمر دنياه وآخرته وكنت له يوم القيامة شهيداً، أو شفيعاً.
هذا اللفظ تفرد به محمد بن موسى، عن الأصمعي، عن محمد بن مروان ومحمد بن موسى هو محمد بن يونس بن موسى بن سليمان بن عبيد بن ربيعة بن كديم القرشي الشامي الكديمي، أبو العباس البصري، وهو متهم بالكذب، ووضع الحديث.
قال ابن عدي (2) : اتهم بوضع الحديث وسرقته، وادعى رؤية قوم لم يرهم، ورواية عن قوم لا يعرفون، وترك عامة مشايخنا الرواية عنه، ومن حديث عنه ينسبه إلى جده موسى لئلا يعرف، وقال ابن حبان (3) : كان يضع على الثقات الحديث وضعاً، ولعله قد وضع أكثر من ألف حديث.


(1) انظر الكامل له 6/2266 – 2267.
(2) انظر الكامل له 6/2294.
(3) انظر المجروحين 2/312.
(1/217)

وقال أبو عبيد الأجري (1) : سمعت أبا داود يتكلم في محمد بن سنان، يعني القزاز وفي محمد بن يونس يطلق فيهما الكذب، وقال أبو بكر:محمد بن وهب البصري المعروف بابن التمار الوراق ما أظهر أبو داود تكذيب أحد إلا رجلين الكديمي وغلام خليل.
وقال الدارقطني (2) : قال لي أبو بكر: أحمد بن المطلب بن عبد الله بن الواثق الهاشمي كنا يوماً عند القاسم المطرز، وكان يقرأ علينا مسند أبي هريرة فمر به في كتابه حديث عن الكديمي، فامتنع من قراءته، فقام إليه محمد بن عبد الجبار، وكان قد أكثر عن الكديمي، فقال: أيها الشيخ (4) أن تقرأ فأبي، وقال: أنا أجاثية بين يدي الله تعالى يوم القيامة وأقول: إن هذا كان يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي، وقال موسى بن هارون الحمال (3) : تقرب إلى الكديمي بالكذب.
وقال الأزدي متروك الحديث، وقال حمزة بن يوسف السهمي سمعت الدارقطني يقول كان الكديمي يتهم بوضع الحديث (4) ، وقال ابن عدي (5) والكديمي: أظهر أمراً من أن يحتاج إلى تبين ضعفه،وكان مع وضعه للحديث وادعائه مشايخ لم يكتب عنهم يختلق لنفسه شيوخاً حتى كان يقول: حدثنا شاصونة بن عبيد منصرفاً عن عدن أبين فذكر عنه حديثاً قال ولو ذكرت ما أنكر عليه وادعائه ووضعه لطال ذلك.
وقال أبو بكر الخطيب (6) : وكان مما تكلم موسى بن هارون به في الكديمي حديث شاسونة بن عبيد الذي أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، أنبأنا ابو بكر محمد بن جعفر بن محمد الأدمي القاري، حدثنا محمد بن يونس القرشي، ح قال الخطيب: وأخبرنا القاضي أبوالفرج محمد بن أحمد بن الحسن الشافعي، أنبأنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد، حدثنا محمد بن يونس الكديمي ح، وقال: وأخبرنيه علي بن أحمد الرزاز وسياق الحديث له، حدثنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم إملاء، حدثنا محمد بن


(1) انظر التهذيب 9/541.
(2) انظر سؤالات حمزة السهمي للدارقطني ص111 رقم الترجمة 74 وفي آخر الناص (وعلى العلماء) .
(3) انظر تهذيب التهذيب 9/541.
(4) انظر سؤالاته ص112 رقم الترجمة 74.
(5) انظر الكامل 6/2294 – 2296.
(6) انظر تاريخ بغداد 3/435 – 445.
(1/218)

يونس بن موسى إملاء، حدثنا شاصونة بن عبيد أبو محمد اليماني منصرفاً من عدن سنة عشر ومائتين بقرية يقال لها: الحردة.
قال: حدثني معرض بن عبد الله بن معرض بن معيقيب اليماني عن أبيه، عن جده قال: حججت حجة الوداع فدخلت داراً بمكة، فرأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه مثل دارة القمر، وسمعت منه عجباً جاءه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد وقد لفه في خرقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا غلام من أنا)) قال أنت رسول الله، قال: ((صدقت بار الله فيك)) قال: ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها حتى شب قال: قال أبي فكنا نسميه مبارك اليمامة.
هذا آخر حديث الأدمي وابن خلاد وزاد أبو عمر قال. قال شاصونة سمعت هذا الحديث منذ ثمانين سنة، وكنت أمر بصنعاء على معمر،فأراه يحدث، فلم أسمع منه قال: ولم أسمع إلا هذا الحديث،وقال الخطيب:أخبرنا أبوعلي عبد الرحمن بن محمد بن فضالة النيسابوري بالري، قال:سمعت أبا الربيع محمد بن الفضل البلخي قال: سمعت محمد بن قريش بن سليمان بن قريش المروزي بها يقول: دخلت على موسى بن هارون الحمال منصرفي من مجلس الكديمي فقال لي: ما الذي حدثكم الكديمي اليوم؟ فقلت: حدثنا عن شاصونة بن عبيد اليمامي بحديث، وذكرته له وهو حديث مبارك اليمامة.
فقال موسى بن هارون: أشهد أنه حديث عمن لم يخلق بعد، فنقل هذا الكلام إلى الكديمي، فلما كان من الغد خرج فجلس على الكرسي، وقال بلغني أن هذا الشيخ يعني موسى بن هارون تكلم في ونسبني إلى أنني حدثت عمن لم يخلق بعد وقد عقدت بيني وبينه عقدة لا نحلها إلا بين يدي الملك الجبار، ثم أملي علينا فقال: حدثنا جبل من جبال البصرة أبو عامر العقيدي، حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من الشعر لحكمة)) .
وحدثنا جبل من جبال الكوفة أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود، عن عائشة قالت: أهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة غنماً قال وأملي علينا في ذلك المجلس كل حديث فرد، وانتهى الخبر إلى موسى بن هارون فما سمعته بعد ذلك يذكر الكديمي إلا بخير أو كما قال:
قال الخطيب: وأخبرنا أحمد بن محمد العتيقي، حدثنا أبو عبد الله عثمان بن جعفر
(1/219)

العجلي مستملي ابن شاهين بحديث عن الكديمي، عن شاصونة بن عبيد، قال سمعت بعض شيوخنا يقول: لما أملي الكديمي هذا الحديث استعظمه الناس، وقالوا هذا كذاب،من هو شاصونة، فلما كان بعد وفاته جاء قوم من الرحالة ممن جاءوا من عدن، فقالوا وصلنا إلى قرية يقال لها: الحردة، فلقينا شيخنا فسألناه عندك شيء من الحديث، فقال: نعم فكتبنا عنه، وقلنا: ما اسمك قال: محمد بن شاصونة بن عبيد وأملي علينا هذا الحديث فيما أملي عن أبية.
قال الخطيب: وقد وقع إلينا حديث شاصوته من غير طريق الكديمي،أخبرناه أبو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله الصوري ببغداد، وأبو محمد عبد الله بن علي بن عياض بنأبي عقيل القاضي بصورة، وابو نصر علي بن الحسين بن أحمد بن أبي سلمة الوراق بصيدا، قالوا: أنبأنا محمد بن أحمد بن جميع الغساني، حدثنا العباس بن محبوب بن عثمان بن شاصونة بن عبيد بمكة، قال: حدثنا أبي قال: حدثني جدي شاصونة بن عبيد، قال: حدثني معرض ابن عبد الله بن معيقب اليماني، عن أبيه، عن جده قال: حججت حجة الوداع، فدخلت دار بمكة، فرأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه كداره القمر، فسمعت منه عجباً أتاه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد، وقد لفه في خرفة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا غلام من أنا؟)) فقال: أنت رسول الله، قال: فقال له بارك الله فيك ثم إن العلام لم يتكلم بعد.
قلت: وقد روى من وجهة أخرى لا أصل له أنه صلى الله عليه وسلم يرد على من صلى عليه عند قبره، وأنه يبلغ صلاة من صلى عليه في مكان آخر، قال أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن المرزيان الجلان: حدثنا أبو العباس عن أبي البختري، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي عند قبري رددت عليه ومن صلى في مكان آخر بلغونيه)) ، هذا حديث موضوع لا أصل له من حديث عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر،وأبو البختري هو: وهب بن وهب القاضي،وهو كذاب يضع الحديث باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
قال أبو طالب (1) : سمعت أحمد بن حنبل يقول: كان أبو البختري يضع الحديث


(1) هذه العبارة عن أحمد في الميزان 4/354 إلا أنه قال: فيما نرى وكلامه بتهامة في الكامل لابن عدي 7/2526.
(1/220)

وضعاً فيما نرى وأشياء لم يروها عن أحد؛ قلت: الذي كان قاضياً، قال:نعم، وكنت عند أبي عبد الله،وجاء رجل فسلم عليه، وقال:أنا من أهل المدينة، وقال: يا أبا عبد الله كيف كان حديث البختري؟ فقال: كان كذاباً يضع الحديث، قال: أنا ابن عمه نحابية قال أبو عبد الله: الله المستعان ولكن ليس في الحديث محاباة، وقال محمد بن عوف الحمصي: سألت أحمد بن حنبل، عن أبي البختري، فقال:مطروح الحديث.
وقال إسحاق بن منصور، قال أحمد بن حنبل: أبو البختري أكذب الناس، قال إسحاق بن راهوية كما قال: كان كذاباً، وقال عباس الدوري (1) : سمعت يحيى بن معين يقول: ابن البختري كذاب خبيث يضع الأحاديث.
قلت ليحيى: رحمه الله قال: لا رحم أبا البختري، وقال الفلاس: كان يكذب ويحدث بما ليس له أصل (2) ، وقال السعدي (3) ،: كان يكذب ويجسر، وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عنه فقال: كان كذاباً (4) .
وسمعت أبا زرعة وذكر له شيئاً من حديث أبي البختري، فقال: لا تجعل في حوصلتك شيئاً من حديثه، وقال عثمان بن أبي شيبة أرى أنه يبعث يوم القيامة دجالاً، وقال العقيلي (5) : لا أعلم لأبي البختري حديثاً مستقيماً كلها بواطيل، وقال ابن حبان (6) : كان ممن يضع الحديث على الثقات، كان إذا جنه الليل سهر عامة الليلة يتذكر الحديث ويضع ثم يكتبه، لا يجوز الرواية عنه، ولا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب.
وقال ابن عدي (7) : وأبو البختري جسور من جملة الكذابين الذين يضعون الحديث، وقال الحاكم روى عن الصادق جعفر بن محمد وهشام بن عروة وعبيد الله بن عمر ومحمد بن عجلان وغيرهم من أهل المدينة أحاديث موضوعة لا ينبغي أن يكتب


(1) انظر تاريخ ابن معين رقم 779، 823، 2717.
(2) انظر كلامه في الكامل لابن عدي 7/527.
(3) انظر الكامل لابن عدي 7/2526 إلا أنه قال بدلاً من يجسر (يختصر ويسقط إذا مال) .
(4) انظر الجرح والتعديل 9/25-26.
(5) انظر الضعفاء للعقيلي 4/324-325.
(6) انظر المجروحين 3/74.
(7) انظر الكامل له 7/2526-2529.
(1/221)

حديثه، وذكر الخطيب (1) في تاريخه أن الرشيد لما قدم المدينة أعظم أن يرقى منبر النبي صلى الله عليه وسلم في قباء أسود ومنطقة فقال أبو البختري: حدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قباء ومنطقة مخنجراً بخنجر فقال المعافي التيمي:
عول وويل لأبي البختري … إذا توافى الناس للمحشر
من قوله الزور وإعلانه … بالكذب في الناس على جعفر
والله ما جالسة ساعة … للفقه في بدو ولا محضر
ولا رآه الناس في دهره … يمر بين القبر والمنبر
يا قاتل الله ابن وهب لقد … أعلن بالزور وبالمنكر
يزعم أن المصطفى أحمداً … أنا جبريل التقي البرى
وعليه خف وقبا أسود … خنجراً في الحقوا بالخنجر

قال المعترض
فإن قيل: ما معنى قوله إلا رد الله علي روحي؟
قلت: فيه جوابان.
أحدهما: ما ذكره الحافظ أبو بكر البيهقي أن المعنى إلا وقد رد الله علي روحي يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما مات ودفن رد الله عليه روجه لأجل سلام من يسلم عليه واستمرت في جسده صلى الله عليه وسلم.
والثاني: يحتمل أن يكون رداً معنوياً، وأن تكون روجه الشريفة مشتغلة بشهود الحضرة الإلهية والملأ الأعلى عن هذا العالم، فإذا سلم عليه أقبلت روحه الشريفة على هذا العالم لتدرك سلام من يسلم عليه ويرد عليه.
قلت: هذان الجوابان المذكوران في كل واحد منهما نظر، أما الأول وهو الذي ذكره البيهقي في الجزء اذلي جمعه في حياة الأنبياء عليهم السلام بعد وفاتهم فمضمونه رد روحه صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى جسده واستمرارها فيه قبل سلام من يسلم عليه، وليس هذا المعنى المذكور في الحديث، ولا هو ظاهره، بل هو مخالف لظاهره، فإن قوله: ((إلا رد الله علي روحي)) بعد قوله: ((ما من أحد يسلم علي يقتضي رد الروح بعد السلام، ولا يقتضي استمرارها في الجسد)) .


(1) انظر تاريخ بغداد 13/451-457 وانظر الضعفاء الصغير للبخاري رقم 386 والضعفاء والمتروكين للنسائي رقم 605 والميزان 4/353-354.
(1/222)

وليعلم أن رد الروح (إلى البدن) (1) وعودها إلى الجسد بعد الموت لا يقتضي استمرارها فيه، ولا يستلزم حياة أخرى قبل يوم النشور نظير الحياة المعهودة، بل إعادة الروح إلى الجسد في البرزخ إعادة برزخية، لا تزيل عن الميت اسم الموت.
وقد ثبت في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور في عذاب القبر ونعيمه في شأن الميت وحاله أن روحه تعاد إلى جسده، مع العلم بأنها غير مستمرة فيه وأن هذه الإعادة ليس مستلزمة لإثبات حياة مزيلة لاسم الموت، بل هي أنواع حياة برزخية، الموت كالحياة البرزخية وإثبات بعض أنواع) (2) الموت لا ينافي الحياة كما في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا استيقظ من النوم قال: ((الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)) (3) وتعلك الروح بالبدن واتصالها به بنوع أنواعاً.
أحدهما: تعلقها به في هذا العالم يقظة ومناماً.
الثاني: تعلقها به في البرزخ والأموات متفاوتون في ذلك فالذي للرسل والأنبياء أكمل مما للشهداء، ولهذا لا تبلى أجسادهم، والذي للشهداء أكمل مما لغيرهم من المؤمنين الذين ليسوا بشهداء.
والثالث: تعلقها به يوم البعث الآخر ورد الروح إلى البدن في البرزخ لا يستلزم الحياة المعهودة، ومن زعم استلزامه لها لزمه ارتكاب أمور باطلة مخالفة للحس والشرع والعقل، وهذا المعنى المذكور في حديث أبي هريرة من رده صلى الله عليه وسلم على من يسلم عليه قد ورد نحوه في الرجل يمر بقبر أخيه.
قال الشيخ تقي الدين في كتاب: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (4) وقد روى حديث صححه ابن عبد البر أنه قال: ما من رجل يمر بقر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلك عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام، ولم يقل أحد أن هذا الرد يقتضي استمرار الروح في الجسد، ولا قالب أنه يستلزم إثبات حياة نظير الحياة المعهودة، وقال الحافظ، أبو محمد عبد الحق الإشبيلي في كتاب العاقبة، ذكر أبو عمر بن


(1) في طبعة دار الكتب العلمية (بعد للبدن) وهو خطأ.
(2) ما بين القوسين سقط من طبعة دار الكتب العلمية.
(3) رواه البخاري 11/113 ومسلم 17/35 النووي وأبو داود 5/300 وابن ماجه 3880 والترمذي 9/362 من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(4) انظر 2/262.
(1/223)

عبد البر من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام)) (1) وهو صحيح الإسناد قال عبد الحق: ويروى من حديث أبي هريرة موقوفاً، فإن لم يعرفه وسلم رد عليه السلام ويروى من حديث عائشة:ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده إلا استأنس بهحتى يقوم، انتهى ما ذكره.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن قدامه الجوهري: حدثنا معن بن عيسى القزاز، حدثنا هشام بن سعد، حدثنا زيد بن أسلم، عن أبي هريرة أه قال: إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسل عليه رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام، هكذا رواه موقوفاً على أبي هريرة، ورواية زيد بن أسلم، عن أبي هريرة قد قيل: إنها مرسلة، وهي مذكورة في جامع الترمذي (2) ، وقد روى عباس الدوري عن يحيى بن معين أنه قال: زيد بن أسلم لم يسمع من أبي هريرة (3) .
وقال ابن أبي حاتم (4) سمعت علي بن الحسين بن الجنيد يقول: زيد بن أسلك عن أبي هريرة مرسل أدخل بينه وبينه عطاء بن يسار، وقال عبد الرزاق في مصنفه: أنبأنا يحيى بن العلاء، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلك قال: مر أبو هريرة وصاحب له على قبر، فقال أبو هريرة: سلك فقال الرجل: أسلك على قبر، فقال أبو هريرة: إذا كان رآك في الدنيا يوماً قط إنه ليعرفك الآن، ويحيى بن العلاء الرازي شيخ عبد الرزاق لا يحتج بروايته (5) .
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محرز بنعون، حدثنا يحيى بن يمان بن عبد الله زياد بن سمعان، عن زيد بن أسلك، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس ورد عليه حتى يقوم، هذا إسناد ضعيف جداً وابن سمعان أحد المتروكين)) (6) .


(1) ذكر هذا الحديث السيوطي في الجامع الصغير وعزاه للخطيب في التاريخ وابن عساكر عن أبي هريرة ولفظه (ما من عبد..)
وقال المناوي في فيض القدير: قال ابن الجوزي (حديث لا يصح) ثم قال: وأفاد الحافظ العراقي إن ابن عبد البر أخرجه في التمهيد والاستذكار بإسناد صحيح من حديث ابن عباس وممن صححه عبد الحق 5/487.
(2) أشار إليها تحفة الأشراف 9/454 وذكر أن الترمذي قال: ولا نعرف لزيد سماعاً من أبي هريرة وهو مرسل.
(3) انظر تاريخ ابن معين رقم 1146.
(4) لم أجد هذا الكلام في ترجمة زيد بن أسلم من الجرح والتعديل.
(5) قال في التقريب: رمى بالوضع.
(6) قال في التقريب: متروك.
(1/224)

وقال أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، حدثني اليسع بن أحمد بن اليسع الدمياطي، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلك، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام)) ، هكذا روي مرفوعاً وهو ضعيف، والمحفوظ موقوف وعبد الرحمن بن زيد بن أسلك لا يحتج به (1) ، وقد سقط ذكر أبيه بينه وبين عطاء بن يسار.
وقال أبو أحمد بن عدي في الكامل (2) : حدثنا محمد بن أبان بن ميمون السراج وأحمد بن محمد بن خالد الرائي (3) قال: حدثنا يحيى الحماني (4) ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سلموا علي إخوانكم هؤلاء الشهداء، فإنهم يردون عليكم)) وهذا لا يثبت وعبد الرحمن بن زيد في طريقه.
وقد روى في هذا الباب آثار كثيرة ولذكرها موضع آخر.
وفي الجملة: رد الروح على الميت في البرزخ، ورد السلام على من يسلم عليه لا يستلزم الحياة التي يظنها بعض الغالطين، وإن كان نوع حياة برزخية وقول من زعم أها نظير الحياة المعهودة مخالف للمنقول والمعقول، ويلزم منه مفارقة الروح للرفيق الأعلى وحصولها تحت التراب قرناً بعد قرن، والبدن حي مدرك سميع بصير تحت أطبقا التراب والحجارة ولوازم هذا الباطلة مما لا يخفى على العقلاء.
وبهذا يعلم بطلان تأويل قوله: إلا رد الله علي روحي، بأن معناه إلا وقد رد الله علي روحي، وإن ذلك الرد مستمر وأحياءه الله قبل يوم النشور وأقره تحت التراب واللبن، فيا ليت شعري هل فارقت روحه الكريمة الرفيق الأعلى؟ واتخذت بيت تحت الأرض مع البدن، أم في الحال الواحد هي في المكانين؟
وهذا التأويل المنقول عن البيهقي في هذا الحديث قد تلقاه عنه جماعة المتأخرين والتزموا لأجل اعتقادهم له أمور ظاهرة البطلان، والله الموافق للصواب.


(1) انظر التاريخ الكبير 5/284 والصغير ص71 والجرح والتعديل 5/233 والميزان 2/564 والمغني 2/380 والكاشف 2/146 والمجروحين 2/57 والضعفاء للنسائي ص158 رقم 377.
(2) انظر الكامل 4/1582.
(3) في الكامل لابن عدي (البرائي) وهو الصحيح.
(4) انظر ترجمة في التاريخ الكبير 8/291 والصغير ص120 والجرح والتعديل 9/168 والميزان 4/392 والمعني 2/739 ولسان الميزان 7/734 والتهذيب 11/243 وضعفاء النسائي ص248 رقم 656.
(1/225)

وأما الجواب الثاني: وهو أن هذا رد معنوي، فإن الروح مشتغلة بالحضرة الشريفة، والملأ الأعلى عن هذا العالم، فإذا سلم المسلم عليه التفتت إليه لرد سلامه، فهذا الجواب فيه نوع من الحق، لكن صاحبه قصر فيه غاية التقصير مع أنه لا يصح على أصل شيوخه ومتبوعيه في علم الكلام.
فإن الروح ليست عندهم ذاتاً قائمة بنفسها منفصلة عن البدن حتى تكون في الملأ الأعلى والبدن في القبر، بل هي عندهم عرض من أعراض البدن كحياته وقدرته وسمعه وبصره وسائر صفاته وحياة البدن مشروطة بها وموته قطع هذه الصفة عنه، ورغم كثير منهم أن العرض لا يبقى زمانين، فعلى هذا لا تزال الأرواح متجددة فتنعدم روح وتحدث أخرى بدلها، وهذا قول باينوا به سائر العقلاء، كما خالفوا به المعلوم يقيناً من أدلة الشرع، وإنما يجيء هذا على قول جمهور العقلاء سواهم.
وقول أهل السنة من الفقهاء المحدثين وغيرهم أن الروح ذات قائمة بنفسها لها صفات تقوم بها، وإنها تفارق البدن وتصعد وتنزل وتقبض وتنعم وتعذب وتدخل وتخرج وتذهب وتجيء وتسأل وتحاسب ويقبضها الملك ويعرج بها إلى السماء ويشبعها ملائكة السموات إن كانت طيبة، وإن كانت خبيثة طرحت طرحاً، وأنها تحس وتدرك وتأكل وتشرب في البرزخ من الجنة، كما دلت عليه السنة الصحيحة في أرواح الشهداء خصوصاً، والمؤمنين عموماً، ومع هذا فلها شأن آخر غير شأن البدن فإنها تكون في الملأ الأعلى فوق السموات، وقد تعلقت بالبدن تعلقاً يقتضي رد السلام على من سلم عليه وهي مستقرها في عليين مع الرفيق الأعلى.
وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على موسى قائماً يصلي في قبره، ثم رآه في السماء السادسة ولا ريب ا، موسى لم يرفع من قبره تلك الليلة لا هو ولا غيره من الأنبياء الذين رآهم في السموات، بل لم تنزل تلك منازلهم من السموات، وإنما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في منازلهم التي كانوا فيها من حين رفعهم الله سبحانه إليها، ولم تكن صلاة موسى في قبره بموجبه مفارقة روحه للسماء السادسة وحلولها في القبر، بل هي في مستقرها، ولها تعلق بالبدن قوي حتى حمله على الصلاة.
وإذا كان النائم تقوى نفسه وفعلها في حال النوم حتى تحرم البدن وتقيمه وتؤثر فيه فما الظن بأرواح الأنبياء؟ وقد ثبت في الصحيح: ((أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها وتسرح فيها حيث شاءت، ثم تأوي إلى
(1/226)

قناديل معلقة تحت العرش)) (1) . وهذا شأنها حتى يبعثها الله سبحانه إلى أجسادها، ومع هذا فإذا زارهم المسلم وسلم عليهم عرفوا به وردوا عليه السلام، بل ونسمه المؤمن كذلك مع كونها طائراً تعلق في شجر الجنة ترد على صاحبها وتشعر بها إذا سلم عليه المسلم.
وقد قال أبو الدرداء: إذا نام العبد عرج بروحه حتى يؤتي بها إلى العرش، فإن كان طاهراً أذن لها بالسجود (2) ،ـ ذكره الحافظ أبو عبد الله بن مندة في كتاب الروح، وروى ابن المبارك في كتاب الزهد والرقائق عن ابن لهيعة، حدثني عثمان بن نعيم الرعيني عن أبي عثمان الأصبحي، عن أبي الدرداء قال: إذا نام الإنسان عرج بنفسه (3) ، حتى يؤتي بها إلى العرش فإن كان طاهراً أذن لها بالسجود، وإن كان جنباً لم يؤذن لها بالسجود (4) .
وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد (5) عن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا نام العبد وهو ساجد يباهي الله به الملائكة يقول انظروا إلى عبدي روحه عند ي وهو ساجد لي)) وهذا مرسل.
وقال أبو الطيب: محمد بن حميد الحوراني في جزئه الذي رواه تمام عنه: حدثنا أحمد بن محمد بن نصر الأنطاكي، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي حماد القطان، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء عن الأزهري بن عبد الله الأودي، عن محمد بن عجلان، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد ولا أمة ينام فيستثقل نوماً إلا عرج بروحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق، والذي يستيقظ دون العرش فهي التي تكذب)) هكذا روى مرفوعاً وليس بمحفوظ والمعروف وقفه على علي.
قال ابن مردويه في تفسيره: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا جعفر بن محمد، ثنا عمرو بن عثمان، ثنا بقية، قال: حدثني صفوان بن عمرو قال: حدثني سليم بن عامر أن


(1) انظر صحيح مسلم 3/1502.
(2) سقط قوله (وإن كان جنباً لم يؤذن لها بالسجود) .
(3) في الزهد (بروحه)
(4) صفحة 194 جاشية (2) .
(5) 2/243 قال ثنا عبد الصمد ثنا سلام قال سمعت الحسن يقول فذكره من قوله والله أعلم، وهذا الأثر في النسخة ذات الجزء الواحد في ص342 طبع دار الكتب العلمية والأثر أيضاً من كلامه وعلى كل فمراسيل الحسن من أضعف المراسيل.
(1/227)

عمر بن الخطاب قال: أتعجب من رؤيا الرجل إنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فتكون رؤيا كأخذ باليد، ويرى الرجل رؤيا فلا تكون رؤيا شيئاً.
قال فقال علي: أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين لأن الله يقول: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (الزمر 042) فالله تبارك وتعالى يتوفى الأنفس كلها، فما رأت وهي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة، وما رأت إذا أرسلت في أجسادها تلفتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها، فعجب عمر من قوله.
وقد رواه ابن منده أيضاً في كتاب الروح والنفس من رواية بقية بن الوليد، حدثنا صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامر الحضرمي قال: قال عمر بن الخطاب: عجبت لرؤيا الرجل يرى الشيء لم يخطر له على بال فيكون كأخذه باليد، ويرى الشي ءفلا يكون شيئاً، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين يقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (الزمر 042)
قال: والأرواح يعرج بها في منامها فما رأت وهي في السماء فهو الحق، وإذا ردت إلى أجسادها نقلتها الشياطين في الهواء وكذبتها، فما رأت في ذلك فهو الباطل، قال فجعل عمر يتعجب من قول علي: قال ابن منده: وهذا خبر مشهور عن صفوان بن عمرو وغيره، وروي عن أبي الدرداء.
فهذه روح النائم متعلقة ببدنه وهي في السماء تحت العرش، وترد إلى البدن في أقصر وقت، فروح النائم مستقرها البلد تصعد حتى تبلغ السماء، وترى ما هنالك ولم تفارق البدن فراقاً كلياً وعكسه أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء مستقرها في عليين وترد إلى البدن أحياناً، ولم تفارق مستقرها، ومن لم ينشرح صدره لفهم هذا والتصديق به فلا يبادر إلى رده وإنكاره بغير علم، فإن للأرواح شأناً آخر غير شأن الأبدان، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد (1) ، وهذا قرب الروح نفسها من الرب ولم تفارق البدن، والرب تعالى فوق سمواته على عرشه)) .
ولا يتلفت إلى كثافة طبع الجهمي وغلظ قلبه، ورقة إيمانه ومبادرته على تكذيب ما


(1) الحديث أخرجه مسلم 482 وأبو داود 875 وغيرهما.
(1/228)

لم يحط بعلمه، فالروح تقرب حقيقة بنفسها في حال السجود من ربها تبارك وتعالى لا سيما في النصف الأخير من الليل حين يجتمع القرباء، إذا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وأقرب ما يكون (الرب) من عبده في جوف الليل حين ينزل إلى السماء الدنيا ويدنو من عبادة، فتحس الروح بقربها حقيقة من ربها سبحانه.
ومع هذا فهي بدنها وهو (سبحانه) فوق سمواته على عرشه، وقد دنا من عباده ونزل إلى السماء الدنيا، فإن علوه سبحانه وعلى خلقه أمر ذاتي، له معلوم بالعقل والفطرة وإجماع الرسل، فلا يكون فوقه شيء البتة، ومع هذا فيدنوا عشية عرفة من أهل الموقف وينزل إلى سماء الدنيا (1) ، وهذا الذي ذكرناه من دنو الرب تبارك وتعالى من عباده مع كونه عالياً على خلقه هو قول كثير من المحققين من أهل السنة.
قالوا: وإذا كان شأن الأرواح ما ذكرنا وهي مخلوقة محصورة متحيزة، فكيف بالخالق الذي يحيط ولا يحاط به؟
وأعلم أن السلف الصالح ومن سلك سبيلهم من الخلف متفقون على إثبات نزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا وكذلك هم مجمعون على إثبات الإتيان والمجيء، وسائر ما ورد من الصفات في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولم يثبت عن أحد من السلف أنه تأول شيئاً من ذلك.
وأما المعتزلة ” الجهمية فإنهم يردون ذلك ولا يقبلونه، وحديث النزول متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال عثمان بن سعيد الدارمي: هو أغيظ حديث للجهمية، وقال أبو عمر بن عبد البر: هو حديث ثابت من جهة النقل الصحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته.
وقال سليمان بن حرب سأل بشر بن السري حماد بن زيد فقال: يا أبا إسماعيل الحديث الذي جاء: ينزل الله إلى السماء الدنيا يتحول من مكان إلى مكان، فسكت حماد، ثم قال: هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء.
وقال إسحاق بن راهوية: جمعني وهذا المبتدجع – يعني إبراهيم بن صالح – مجلس الأمير عبد الله بن طاهر، فسألني الأمير عن أخبار النزول فسردتها، فقال إبراهيم: كفرت


(1) لشيخ الإسلام ابن تيمية شرح لحديث النزول فراجعه فإنه مقيد للغاية فجزاه الله خيراً.
(1/229)

برب ينزل من سماء إلى سماء، فقلت: آمنت برب يفعل ما يشاء، قال:فرضي عبد الله كلامي، وأنكر على إبراهيم.
وسأل رجل عبد الله بن المبارك عن النزول فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف ينزل؟ فقال عبد الله: ” كدخداي خويش كد ” ينزل كيف يشاء، وقال أبو الطيب أحمد بن عثمان حضرت عند أبي جعفر الترمذي فسأله سائل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ينزل إلى سماء الدنيا)) فالنزول كيف يكون يبقى فوقه علو؟ فقال أبو جعفر الترمذي: البنزول معقول، والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
وأبو جعفر هذا اسمه محمد بن أحمد بن نصر (1) ، وكان من كبار فقهاء الشافعية ومن أهل العلم والفضل والزهد في الدنيا أثنى عليه الدارقطني وغيره، وقد قال في النزول كما قال مالك رحمه الله في الاستواء، وهكذا القول في سائر الصفات.
وقد اختلف المثبتون للنزول هل يلزم منه خلو العرش منه أم لا، ونحن نشير إلى ذلك إشارة مختصرة فنقول: قالت طائفة: لا يلزم منه خلو العرش، بل ينزل إلى سماء الدنيا وهو فوق العرش، قالوا وكذلك كلم موسى من الشجرة وهو فوق عرشه وكذلك يحاسب الناس يوم القيامة، ويجيء ويأتي وينطلق وهو فوق العرش، لأنه سبحانه أكبر من كل شيء، كما دل عليه السمع والعقل،وهو العلي العظيم،فلا يزال سبحانه علياً على المخلوقات كلها العرش وغيره في كل وقت، وفي كل حال من نزول وإتيان وقرب وغير ذلك، فلو خلا منه العرش حال نزوله لكان فوقه شيء، وكان غير عال وهذا ممتنع في حقه سبحانه، لأن علوه من لوازم ذاته فلا يكون غير عال أبداً، ولا يكون فوقه شيء أصلاً.
وقالت طائفة أخرى: بل خلوا العرش منه من لوازم نزوله، فتقول: ينزل إلى سماء الدنيا ويخلو منه العشر إذا نزل، لأن النزول الحقيقي يستلزم ذلك،


(1) كان زاهداً ورعاً سكن بغداد وكان شيخ الشافعية بالعراق ابن شريح وتفقه على الربيع ابن سليمان المرادي وغيره من أصحاب الشافعي وكان حنفياً ثم صار شافعياً لمنام رآه قال الدارقطني ثقة مأمون ناسك، من مؤلفاته،” اختلاف أهل الصلاة ” ولد في ذي الحجة سنة مائتين وتوفي في المحرم سنة خمس وتسعين ومئتين، انظر ترجمته في البداية والنهاية 11/107 والأنساب للمسعاني 3/43 ووفيات الأعيان 3/334 وشذرات الذهب 2/220 والعبر 2/103 وطبقات الشافعية لابن هداية ص37، وتاريخ بغداد 1/365.
(1/230)

والقول بإثبات النزول معكونه فوق العرش غير معقول، وكذلك القول بأنه يحاسب الناس يوم القيامة في الأرض، وأنه يجيء ويقبل ويأتي وينطلق ويتبعونه، وأنه يمر أمامهم، وأنه يطوف في الأرض ويهبط عن عرضه إلى كرسيه، أو غيره، ثم يرتفع إلى عرشه كما ورد هذا كله في الحديث، وأنه كلم موسى عليه السلام من الشجرة حقيقة (1) ، وهو مع ذلك كله فوق عرشه أملا يتصوره العقل، ولم يدل عليه النقل فيجب القول به والانقياد له، بل هو شيء لا يخطر ببال من سمع الأحاديث في ذلك وكان سليم الفطرة إلا أنه يوافقه عليه من يعتقد فيقرره في ذهنه.
وقد علم أن نزول الرب تبارك وتعالى أمر معلوم معقول كاستوائه وباقي صفاته، وأن كانت الكيفية مجهولة غير معقولة، وهو ثابت حتى حقيقة لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، وما لزم الحق فهو عين الحق.
قال هؤلاء: ونحن أقرب إلى الحق وأولى بالصواب ممن خالفنا، لأننا قلنا بالنصوص كلها، ولم نرد منها شيئاً ولم نتأوله، بل أثبتنا نزول الرب تبارك وتعالى حقيقة مع إقرارنا بأنه العلي العظيم الكبير المتعال، فلا شيء أعلى منه، ولا أعظم منه ولا إله غيره ولا رب سواه هو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وكونه علياً عظيماً لا ينافي نزوله حقيقة عند من عقل معنى النصين وفهم معنى الخبرين، قالوا: فنحن قلنا بموجب النصين العلو والنزول.
وأما مخالفتنا القائل بأنه ينزل ولا يخلو منه العرش فحقيقة قوله إما نفي معنى النزول بالكلية، وإثبات مجرد لفظه، وإما حمله له على أمر لا يعقل أصلاً، وأما تفسيره بما يخالف ظاهر اللفظ وحقيقته وهو القول بنزول بعض الذات.
ثم إنه يرد على قائل هذا ما أورده علينا من أنه يبقى شيء من المخلوقات فوق بعض الذات، وذلك ينافي العلو المطلق الذي هو من لوازم ذاته، فمخالفتنا يلزمه أمران:
أحدهما: ما أورده علينا.


(1) نؤمن أن موسى تلقى كلام الله تعالى حقيقة وأنه سمعه بأذنيه ولقد أخطأ سيد قطب رحمه الله تعالى حيث قال في 5/2692 من الظلال في سورة القصص.. تلقاه لا تدري كيف وبأي جارحة، ولسيد قطب رحمه الله أخطاء في كتابه الظلال خصوصاً في باب العقيدة وأرشد القارئ إلى مراجعة ما كتبه الشيخ الدويش رحمه الله في كتابه (الموارد الزلال في التنبيه على أخطاء الظلال)
(1/231)

والآخر: مخالفته اللفظ وحمله (له) على المجاز دون الحقيقة من غير دليل، ونحن لا يلزمنا محذور أصلاً، فإنا جمعنا بين نصوص الكتاب والسنة وقلنا بها كلها وحملناها على الحقيقة دون المجاز لم نتأول منها شيئاً برأينا ولا صرفنا منها شيئاً عن ظاهر بعقلنا.
قالت الطائفة الأولى القائلة بعدم الخلو: بل نحن أولى بالحق منكم، فإنا نحن القائلون بالنصوص كلها الجامعون بين الأدلة العقلية والسمعية.
وأما أنتم فيلزمكم مخالفة ما ورد من نصوص العظمة، وأن يكون المخلوق محيطاً بالخالق، وما ذكرتموه من استلزم النزول بخلو العرش هو عين الجهل، وإنما ذلك لازم في نزول المخلوق والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته،ولا في أفعاله، وهو العالي في دنوه، القريب في علو، ليس فوقه شيء ولا دونه شيء بل هو العالي على جميع خلقه في حال نزوله، وفي غير حال نزوله، وهو الواسع العليم، أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء،وهو المحيط بكل شيء ولا يحيط به شيء ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يده إلا كخردلة في يد أحدكم، وهو الموصوف بالعلو المطلق، ولم يزل عالياً ولا يكون إلا عالياً سبحانه وتعالى.
وفي هذا كله ما يبطل قولكم إنه إذا نزل يخلوا منه العرش، فإن ذلك يلزم منه أمور ممتنعة، منها إحاطة المخلوق بالخالق، وأن لا يكون الخالق أكبر من كل شيء ولا أعظم من كل شيء وكل ذلك محال.
وقالوا: وأما نحن فنقول لا يخلو منه العرش إذا نزل، بل هو فوق عرشه يقرب من خلقه كيف شاء وإن كنا قد نقول إنه غير موصوف بالاستواء حال النزول، فإن الاستواء علو خاص،وهو أمر معلوم بالسمع.
وأما مطلق العلو فإنه معلوم بالعقل، وهو من لوازم ذاته، فقربه إلى خلقه حال نزوله لا ينافي مطلق علوه على عرشه، قالوا: وما ذكره مخالفنا من أنا ننفي معنى النزول بالكلية أو نفسره بأمر لا يعقل، باطل، بل النزول عندنا أمر معلوم معقول غير مجهول، وهو قرب الرب تبارك وتعالى من خلقه كيف يشاء، وقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ((ينزل ربنا)) (1) كقوله تعالى {فََلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (الأعراف 143)


(1) أخرجه البخاري في كتاب التهجد (الباب الرابع عشر الدعاء والصلاة من آخر الليل) وفي كتاب الدعوات (باب الدعاء نصف الليل) وفي التوحيد (باب قوله تعالى يريدون أن يبدلوا كرام الله) ومسلم 1/521.
(1/232)

وقد ثبت أن الذي تجلى منه مثل الخنصر، أو مثل طرف الخنصر مع إضافة التجلي إليه، فكذلك النزول من غير فوق، ولا يلزمنا على هذا ما لزمكم من إحاطة المخلوق بالخالق وكونه غير علي عظيم.
وقد ثبت أن جبريل عليه السلام كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية، مع العلم بأن صورته التي خلق عليها لم تزل ولم تعدم في تلك الحال، بل تمثل له بعضها في صورة دحية، فخاطبه، ولبس في الشرع ولا في العقل ما ينافي ذلك.
قالت الطائفة الأخرى القائلة بالخلو: الواجب علينا كلنا اتباع النصوص كلها والجمع بينها وأن لا نضرب بعضها ببعض، ولا يخفى أن جميع ما ورد من نصوص العظمة نحن به مصدقون، وإليه منقادون وبه موقنون، وما ذكرتموه من العلو والعظمة لا ينافي حقيقة النزول، ونحن لا نمثل نزول الرب تبارك وتعالى بنزول المخلوق ولا استواءه باستوائه، وكذلك سائر الصفات نعوذ بالله من التمثيل والتعطيل.
لكن إثبات القدر المشترك لا بد منه كما في الوجود، وباقي الصفات، وإلا لزم التعطيل المحض، فنحن نثبت النزول على وجه يليق بجلال الله وعظمته، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، ونقول قد أخبر (به) الصادق وما أخبر به فهو عين الحق، وما لزم الحق فهو حق، ونقول: أن النزول الحقيقي يستلزم ما ذكرناه وما استروح إليه مخالفتنا من أن المراد نزول بعض الذات كما في قوله {فََلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (الأعراف 143) والمراد تجلي البعض أمر غير معقول منه، والفرق بين الموضوعين ظاهر والدليل هناك دل على إرادة البعض فلا يلزم من الحمل على إرادة البعض في مكان بديل الحمل على إرادة البعض في مكان آخر من غير دليل.
وما ذكر من أمر جبير وتمثل بعضه للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية، أمر لم يدل على عقل ولا شرع، فلا يجوز المصير إليه بمجرد الرأي،ـ بل الذي كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية هو جبريل حقيقة، ولعظيم مرتبته وعلو منزلته أقدره الله تعالى على أن يتحول من صورة إلى صورة، ومن حال إلى حال، فيرى مرة كبيراً، ومرة صغيراً كما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى في السموات والأرض.
وقد دل العقل والنقل على قيام الأفعال الاختيارية به فهو الفاعل المختار بفعل ما يشاء ويختار، ذو القدرة التامة والحكمة البالغة والكمال المطلق، وقد ثبت في الصحيح أنه يتحول من صورة إلى صورة وثبت أنه يتبدى لهم في صورة غير الصورة التي رأوه فيها
(1/233)

أول مرة ثم يعود في الصورة التي رأوه فيها أول مرة.
وهذا كله حق لأن الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى قد أخبر به،وليس في العقل ما ينفيه، بل جميع ما أمر به صاحب الشرع يوافقه العقل الصحيح ويؤيده وينصره ولا يخالفه أصلاً.
وإذا عرف هذا فقد يقال ما ورد من الأدلة الدالة على العظمة وكبر الذات، ليس بينها وبين ما قيل إنه يعارضها منافاة ولا معارضة، بل جميع ذلك حق والجمع بين ذلك كله سهل يسير بعد العلم بإثبات الأفعال الاختيارية،وأن الله هو الفعال لما يريد وهو الفاعل المختار يفعل ما يشاء ويختار لا إله غيره ولا رب سواه.
وقالت طائفة ثالثة: نحن لا نوافق الطائفة الأولى ولا الثانية، بل نقول:ينزل كيف يشاء غير مثبتين للخلو ولا نافعين له بل مقتصرين على ما جاء في الحديث سالكين في ذلك طريق السلف الصالح.
وقد روى (أبو) الشيخ عن إسحاق بن راهويه، قال: سألني ابن طاهر عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم يعني في النزول، فقلت له: النزول بلا كيف، وروى الأوزاعي عن الزهري ومكحول أنهما قالا: امضوا الأحاديث على ما جاءت، وقال الأوزاعي ومالك والثوري والليث بن سعد وغيرهم من الأئمة: أمروا الأحاديث كما جاءت بلا كيف، ولبسط الكلام في هذا موضع آخر والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1/234)

الباب الثالث: فيما ورد في السفر إلى زيارته صلى الله عليه وسلم صريحاً وبيان أن ذلك لم يزل قديماً وحديثاً
قال المعترض
وممن روي ذلك عنه من الصحابة، بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر من الشام إلى المدينة لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم روينا ذلك بإسناد جيد إليه وهو نص في الباب، وممن ذكره الحافظ أبو القاسم بن عساكر بالإسناد الذي سنذكره، وذكر الحافظ أبو محمد عبد الغني المقدسي في الكمال في ترجمة بلال فقال: ولم يؤذن لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي إلا مرة واحدة في قدمة قدمها المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم طلب إليه الصحابة ذلك فأذن ولم يتم الأذان، وقيل: أنه أذن لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته، وممن ذكر ذلك أيضاً الحافظ أبو الحجاج المزي، وها أنا أذكر إسناد ابن عساكر في ذلك: أنبأنا عبد المؤمن بن خلف وعلي بن محمد بن هارون وغيرهما قال: أنبأنا القاضي أبو نصر محمد بن هبة الله بن محمد بن مميل الشيرازي إذناً، أنبأنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي قراءة عليه، وأنا أسمع قال: أنبأنا أبو القاسم زهران بن طاهر، أنبأنا أبو سعيد محمد بن عبد الرحمن، أنبأنا أبو أحمد محمد بمن محمد أنبأنا أبو الحسن محمد بن الفيض الغسائي بدمشق، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء، حدثني أبي محمد بن سليمان عن ابيه سليمان بن بلال، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: لما دخل (1) عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتح بيت المقدس وصار إلى الجابية سأله بلال أن يقره بالشام ففعل ذلك، فقال: وأخي أبو رويحه الذي آخى بيني وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم،فنزل (دارياً) في خولان فأقبل هو وأخوه إلى قوم من خولان فقال لهم: قد أتيناكم خاطبين، وقد كنا كافرين


(1) الظاهر أنها (رحل) وهو يقتضيه السياق ووقع نفس الخطأ في كتاب شفاء السقام للسبكي.
(1/235)

فهدانا الله، ومملوكين فأعتقنا الله، وفقيرين فأغننا الله، فإن تزوجونا فالحمد لله وإن ت ردونا فلا حول ولا قوة إلا بالله فزوجهما.
ثم إن بلالاً رأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورني يا بلال، فأنتبه حزناً وجلاً خائفاً فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده ويمزغ وجه عليه، فأقبل الحسن والحسن فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا له: يا بلال نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ففعل، فعلا سطح المسجد فوقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلما أن قال: الله أكبر الله أكبر ارتجت المدينة، فلما أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله ازداد رجتها، فلما أن قال: أشهد أن محمداً رسول الله خرجن العوائق من خدورهن، وقالوا: بعث رسول الله، فلما رؤي يوماً أكثر باكياً ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم، كذا ذكره ابن عساكر في ترجمة بلال.
وذكره أيضاً في ترجمة إبراهيم بسند آخر إلى محمد بن الفيض، أنبأنا جماعة عن جماعة، عن ابن عساكر قال:: أنبأنا أبو محمد بن الأكفاني، حدثنا عبد العزيز بن أحمد حدثنا تمام بن محمد، حدثنا محمد بن سليمان، حدثنا محمد بن الفيض فذكره سواء إلا أنه أسقط منه من فتح بيت المقدس، وقال: آخي بيني وبينه ولم يقل خاطبين، أبو رويحة أسمه عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي، وفي الطبقات (1) أن مؤاخاته لبلال لم يثبتها محمد بن عمرو أثبتها ابن إسحاق وغيره واختار أنس أن يجعل ديوانه معه فضمه عمر إليه وضم ديوان الحبشة إلى خثعم لمكان بلال منهم، وسليمان بن بلال بن أبي الدرداء، روى عن جدته وأبيه بلال روى عنه ابنه محمد، وأيوب بن مدرك الحنفي، وذكر له ابن عساكر حديثاً، ولم يذكر فيه تخريجاً وابنه محمد بن سليمان بن بلال، ذكره مسلم في الكنى وأبو بشر الدولابي، والحاكم أبو أحمد، وابن عساكر كنيته أبو سليمان.
قال ابن أبي حاتم سألت أبي عنه فقال: ما يحديثه بأس، وأبنه إبراهيم بن محمد بن سليمان أبو إسحاق ذكره الحاكم أبو أحمد، وقال: كنا لنا محمد بن الفيض.
وذكر ابن عساكر وذكر حديثه، ثم قال: ابن الفيض: توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ومحمد بن الفيض بن محمد بن الفيض: أبو الحسن الغساني الدمشقي روى عن خلائق، وروى عنه جماعة منهم أبو أحمد بن عدي وأبو أحمد الحاكم، وابو بكر بن


(1) انظر الطبقات 3/223.
(1/236)

المقري في معجمه وذكره ابن زبر، وابن عساكر في التاريخ توفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة ومولده سنة تسع عشر ومائتين،ومدار هذا الإسناد عليه، فلا حاجة إلى النظر في الإسنادين اللذين رواهما ابن عساكر بهما، وإن كان رجالهما معروفين مشهورين وليس اعتمادنا في الاستدلال بهذا الحديث على رؤيا المنام فقط، بل على فعل بلال وهو صحابي لا سيما في خلافة عمر رضي الله عنه والصحابة متوافرون.
ولا يخفى عنهم هذه القصة، ومنام بلال ورؤياه للنبي الذي لا يتمثل به الشيطان، وليس فيه ما يخالف ما ثبت في اليقظة فيتأكد به فعل الصحابي، انتهى ما ذكره المعترض.
والجواب أن يقال: هذا الأثر المذكور عن بلال ليس بصحيح عنه ولو كان صحيحاً عنه لم يكن فيه دليل على محل النزاع، وقول (المعترض) أن إسناده جيد خطأ منه، وكذلك قوله: إنه نص في الباب، وقد ذكر هذا الأثر الحاكم أبو أحمد محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري الحافظ في الجزء الخامس من فوائده، ومن طريقة ذكره ابن عساكر في ترجمة بلال، وهو أثر غريب منكر وإسناده مجهول وفيه انقطاع، وقد انفرد به محمد بن الفيض الغساني (1) ، عن إبراهيم بنمحمد بن سليمان بن بلال (2) عن أبيه (3) ، عن جده وإبراهيم بن محمد هذا شيخ لم يعرف بثقة وأمانة ولا ضبط وعدالة، بل هو مجهول غير معروف بالنقل ولا مشهور بالرواية، ولم يرو عنه غير محمد بن الفيض روى عنه هذا الأثر المنكر، ولما ذكره الحاكم أبو أحمد في الكنى قال: كناه لنا أبو الحسن محمد بن الفيض الغسائي الدمشقي، وأخبرنا عنه بحديث ولم يذكره، وأشار إلى هذا الخبر الذي رواه (بكماله) من طريقة في غير الكنى، وروى بعضه في الكنى في ترجمة أبي رويحة، وقد (رحل) أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان ومحمد بن مسلم بن وارة ويعقوب بن سفيان الفسوي


(1) هو محمد بن الفيض بن محمد بن الفياض المحدث المعمر المسند أبو الحسن الغسائي الدمشقي، قال فيه الذهبي في السير 14/427 وهو صدوق إن شاء الله ما علمت فيه جرحاً وانظر شذرات الذهب 2/271.
(2) انظر ترجمته في الميزان قال الذهبي: فيه جهالة حدث عنه محمد بن الفيض الغسائي، وذكره الحافظ ابن حجر في اللسان وذكر هذه القصة التي أخرجها ابن عساكر عنه في تاريخه وقال ابن حجر فيها: وهي قصة بينه الوضع. أهـ.
(3) ترجمته في الجرح والتعديل 7/267 قال فيه أبو حاتم،منكر الحديث، وانظر التاريخ الكبير1/98.
(1/237)

وغيرهم من الحفاظ إلى دمشق، وكان هذا الشيخ موجوداً في ذلك الوقت ولم يرو عنه أحد منهم،وهو من ولد أبي الدرداء.
فلو كان من أهل الحديث أو كان عنده علم، أو له رواية لرووا عنه وسمعوا منه، وقد كان أبو حاتم الرازي من أحرص الناس على لقاء الشيوخ، كما ذكر قد ذلك عن نفسه، وقد كتب بعضهم عن إبراهيم بن هشام بن يحيى (بن يحيى) الغساني الدمشقي، كما روى عنه يعقوب الفسوي، والحسن بن سفيان، وجماعة من أهل الحديث وإبراهيم بن هشام في طبقة إبراهيم بن محمد بن سليمان كانا جميعاً في وقت واحد ووفاتهما متقاربة، وقد علم أن إبراهيم بن هشام شيخ متهم بالكذب لا يعرف الحديث ولا يدريه ولا يحتج بروايته (1) ، وقد روى عنه غير واحد من أهل الحديث من الرحالة وغيرهم ولم يرو أحد منهم عن إبراهيم بن محمد.
فلو كان من أهل النقل والرواية، أو عنده علم أو حديث لأخذوا عنه وسمعوا منه كما أخذوا عن إبراهيم بن هشام، فلما لم يرووا عنه بل تركوه وأعرضوا عنه مع حرصهم على لقاء الشيوخ وشدة اعتنائهم بالرواية، دل على أنه عندهم أسوأ حالاً من إبراهيم بن هشام.
وقد ذكر أبو حاتم الرازي وغيره عن إبراهيم بن هشام ما يدل على أنه لا يعي الحديث،وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل (2) : سمعت أبي يقول: قلت لأبي زرعة: لم لا تحدث عن إبراهيم بن هشام بن يحيى (بن يحيى) قال:ذهبت إلي قريته، وأخرج إلي كتاباً زعم أنه سمعه من سعيد بن عبد العزيز، فنظرت فيه، فإذا فيه أحاديث ضمرة عن رجاء بن أبي سلمة، وعن ابن شوذب، وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني، فنظر إلى حديث فاستحسنته من حديث ليس بن سعيد عن عقيل فقلت له اذكر هذا فقال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ليس بن سعد عن قيل بالكسر.
ورأيت في كتابه أحاديث، عن سويد بن عبد العزيز، عن مغيرة وحصين، وقد قلبها على سعيد بن عبد العزيز، وأظنه لم يطلب العلم وهو كذاب.
قال: فقلت هذه أحاديث سويد بن عبد العزيز، قال: فقال: صدقت نعم، حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن سويد قال ابن أبي حاتم: ذكرت لعلي بن الحسين بن الجنيد


(1) انظر الجرح والتعديل 2/142-143.
(2) انظر الجرح والتعديل 2/143.
(1/238)

بعض هذا الكلام عن أبي، فقال: صدق أبو حاتم ينبغي أن لا يحدث عنه.
قلت وإبراهيم بن هشام هذا هو صاحب حديث أبي ذر (1) الطويل تفرد به


(1) حديث أبي ذر طويل الذي أشار إليه الإمام ابن عبد الهادي هنا ساقه الحافظ ابن كثير في تفسيره في الكلام على قوله تعالى: {ورسلاً لم نقصصهم عليك من قبل} . قال: قال محمد بن الحسين الأجري حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الغفرياني إملاء في شهر رجب سنة سبع وتسعين ومائتين حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني حدثنا أبي عن جده عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر قال دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وجده فجلس إليه فقلت يا رسول الله إنك أمرتني بالصلاة قال: ” الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل ” قال: قلت يا رسول الله فأي الأعمال أفضل قال: ” إيمان بالله وجهاد في سبيله ” قلت يا رسول فأي المؤمنين أفضل؟ قال: ” أحسنهم خلقاً ” قلت يا رسول الله فأي المسلمين أسلم قال: ” من سلم الناس من لسانه ويده ” قل يا رسول الله فأي الهجرة أفضل؟ قال: ” من هجر السيئات ” قلت يا رسول الله أي الصلاة أفضل؟ قال ” طول القنوت ” فقلت يا رسول الله فأي الصيام أفضل؟ قال: ” فرض مجزي وعند الله أضعاف كثيرة ” قلت يا رسول الله فأي الجهاد أفضل؟ قال: ” من عقر جواده وأهريق دمه ” قلت يا رسول الله فأي الرقاب أفضل؟ قال ” أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها ” قلت يا رسول الله فأي الصدقة أفضل؟ قال: ” جهد من مقل وسر إلى فقير ” قلت يا رسول الله فأي آية ما أنزل عليك أعظم؟ قال: ” آية الكرسي كفضل الفلاة على الحقلة ” قال قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: ” مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ” قال: قلت يا رسول الله كم الرسل من ذلك؟ قال: ” ثلاثمائة وثلاثة عشر جمع غفير كير طيب ” قلت فمن كان أولهم؟. قال “آدم ” قلت: أنبي مرسل؟ قال: ” نعم خلقه الله بيده ونفه فيه منروحه وسواه قبيلاً ” ثم قال: يا أبا ذر ” أربعة سريانيون آدم وشيث وخنوخ وهو إدريس وهو أول من خط بقلم ونوح، وأربعة من العرب هود وشعيب وصالح ونبيك يا ابا ذر وأول أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى وأول الرسل آدم وآخرهم محمد ” قال: قلت: يا رسول الله كم كتاب أنزله الله؟ قال: ” مائة كتاب وأربعة كتاب = =أنزل الله على ثيث خمسين صحيفة وعلى خنوخ ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وأنزل على موسى من قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، قال: قلت: يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: ” كانت كلها يا أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر، وكان فيها أمثال وعلى العاقل أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه،وساعة يحاسب فيها نفسه،وساعة يفكر في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب ” وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً إلا لثلاث تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه،حافظاً للسانة، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه ” قال قلت: يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال: ” كانت عبراً كلها عجت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح،وعجبت لمن أيقن بالحساب غداص ثم هو لا يعمل ” قال قلت يا رسول الله فهل في يدينا شيء مما كان في أيدي إبراهيم وموسى وما أنزل الله عليك؟ قال: ” نعم إقرأ يا أيا ذر ” {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى، إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} قال قلت: يا رسول الله فأوصني قال: ” أوصيك بتقوى الله فإنه رأس أمرك، قال قلت يا رسول الله زدني؟ قال: عليك بتلاوة القرآن وذكر الله فإن ذكر لك في السماء نور لك في الأرض، قال قلت يارسول الله زدني: قال: ” عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي ” قلت زدني قال: ” عليك بالصمت إلا من خير فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك ” قلت زدني قال: ” انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هو فوقك فإن أجدر لك أن لا تزدري نعمة الله عليك ” قلت: زدني قال: أحبب المساكين فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك قلت زدني قال: ” صل قرابتك وإن قطعوك ” قلت: زدني قال: ” قل الحق وإن كان مراً ” زدي قال لا تخف في الله لومة لائم ” قلت: زدني قال: بردك عن الناس ما تعرف من نفسك ولا تجد عليهم فيما تحب وكفى بك عيباً أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك أو تجد عليهم فيما تحب ” ثم ضرب بيده صدري فقال: ” يا أبا ذر لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف ولا حسب كحسن الخلق هكذا ساقه ابن كثير في تفسيره عن طريق الأجري وكان قد ذكره قطعة منه قبل ذلك من طريق ابن مردويه ثم قال: وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه ” الأنواع والتقاسيم ” وقد سمه بالصحة وخالفه أبو الفرج بن الجوزي فذكر هذا الحديث في كتابه الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام هذا ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث. أهـ=
=كلام الحافظ ابن كثير في تفسريه وقال شيخه الحافظ الذهبي في ترجمة إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني ” هو صاحب حديث أبي ذر الطويل انفرد به عن أبيه عن جده قال الطبراني لم يرو هذا عن يحي إلا ولده وهم ثقات، وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج حديث في الأنواع، وأما ابن أبي حاتم فقال: قلت لأبي لم لا تحدث عن إبراهيم بن هشام الغساني فقال:ذهبت إلى قريته ” فساق الذهبي القصة التي بين إبراهيم بن هشام وبين أبي حاتم كما ساقها الحافظ بن عبد الهادي مؤلف الصارم المنكي وذكر الذهبي في ترجمة يحيى بن سعيد القرشي العبشمي السعدي وقيل السعدي أحد الضعفاء أنه روى عن ابن جريح عن عطاء عن عبيد بن عمر عن أبي ذر حديث الطويل وأن ابن حبان ذكر طرفاً من روايته لهذا الحديث ثم قال: ” وأشبه ما روى فيه حديث عبد الرحمن بن هشام بن يحيى الغساني عن أبيه عن جده عن أبي إدريس عن أبي ذر ثم قال الذهبي: ” وكذا قال – أي ابن حبان – والصواب إبراهيم بن هشام أحد المتروكين الذين مشاهم ابن حبان فلم يصب ” أهـ.
(1/239)

عن أبيه عن جده، وقد رواه أبو القاسم الطبراني، وابو حاتم بن حبان البستي في كتاب الأنواع والتقاسيم من حديث مجموع من أحاديث كثيرة بعضها في الصحاح وبعضها في المساند والسنن، وبعضها لا أصل له.
وقد ذكر ابن أبي حاتم إبراهيم بن هشام في كتاب الجرح والتعديل (1) ، وذكر عنه ما


(1) 2/143\
(1/240)

حكيناه، ولم يذكر إبراهيم بن محمد بن سليمان فيه ولم يرو عنه أحد ممن رحل من الحفاظ وأهل الحديث، ولم يأخذ عنه من أهل بلده غير محمد بن الفيض، وروى عنه هذا الخبر الذي لم يتابع عليه، فعلم أنه ليس بمحل للرواية عنه.
ونحن نطالب هذا المعترض الذي يتكلم بلا علم، فنقول له: لم قلت أن هذا الأثر الذي تفرد به إبراهيم بن محمد إسناده جيد، ومن قال هذا قبلك، ومن وثق إبراهيم بن محمد هذا، أو احتج بروايته، أو أنثى عليه من أهل العلم والحديث؟ والمجتمع بالحديث عليه أن يبين صحة إسناده ودلالته على مطلوبة، وأنت لم تذكر في إبراهيم المتفرد بهذا الخبر شيئاً يقتضي الاحتجاج بروايته والرجوع إلى قبول خبره، فقولك فيما تفرد به ولم يتابع عليه ” إن إسناده جيد ” دعوى مجردة مقابلة بالمنع والرد وعدمن القبول والله أعلم. .
وأما محمد بن سليمان بن بلال والد إبراهيم، فإنه شيخ قليل الحديث لم يشتهر من حاله ما يوجب قبول أخباره، وقد ذكره البخاري في تاريخه (1) ، وذكر له حديثاً يرويه عن أمه، عن جدتها، رواه عن هشام بن عمار، وهو الذي أشار إليه أبو حاتم، وأما أبو سليمان بن بلال فإنه رجل غير معروف، بل هو مجهول الحال قليل الرواية، لم يشتهر بحمل العلم ونقله، ولم يوثقه أحد من الأئمة فيما علمناه ولم يذكر له البخاري ترجمة في كتابه، وكذلك ابن أبي حاتم، ولا يعرف له سماع من أم الدرداء.
ونحن نطالب المستدل برواية والمحتج بخبره فنقول له: من وثقه من الأئمة واحتج بحديثه من الحفاظ،أو أثنى عليه من العلماء حتى يصار إلى روايته ويحتج بخبره ويعتمد على نقله؟
والحاصل أن مثل هذا الإسناد لا يصلح الاعتماد عليه ولا يرجع عند التنازع إليه عند أحد من أئمة هذا الشأن، مع أن المعترض لم يذكر شيئاً في محل النزاع أمثل منه ولا أعتمد على شيء في المسألة أقرب منه، ولهذا زعم أنه نص في الباب، وهو مع هذا ليس بثابت ولا صحيح، ولو كان ثابتاً لم يكن فيه حجة على محل النزاع فإن الذي فيه أن يلالا ركب راحلته وقصد المدينة، وقاصد المدينة قد يقصد المسجد وحده وقد يقصد القبر وحده، وقد يقصدهما جميعاً، وليس في الخبر أنه قصد مجرد القبر.
وشيخ الإسلام إنما ذكر الخلاف بين العلماء في جواب السؤال الذي سئل عنه فيمن


(1) 1/98
(1/241)

قصد مجرد القبر، ولهذا قال في رده على بعض من اعترض عليه من المالكية فيقال لفظ الجواب: أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فهل يجوز له قصر الصلاة على قولين، معروفين، وقوله: من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء احتراز عن السفر المشروع كالسفر إلى زيارة قر النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر السفر المشروع، فسافر إلى مسجده، وصلى فيه، وصلى عليه وسلم (عليه) ودعا وأثنى كما يحبه الله ورسوله، فهذا سفر مشروع مستحب باتفاق المسلمين وليس فيه نزاع فإن هذا لم يسافر لمجرد زيارة القبور.
وقال أيضاً: الناس أقسام منهم من يقصد السفر الشرعي إلى مسجده ثم قال إذا صار في مسجده فعل في مسجده المجاور لبيته الذي فيه قبره ما هو مشروع، فهذا سفر مجمع على استحبابه وقصر الصلاة فيه ومنهم من لا يقصد إلا مجرد القبر ولا يقصد الصلاة في المسجد، ولا يصلي فيه ن فهذا لا ريب أنه ليس بمشروع، ومنهم من يقصد هذا وهذا فهذا لم يذكر في الجواب إنما ذكر في الجواب من لم يسافر إلا لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين.
ومن الناس من لا يقصد إلا القبر لكن إذا أتى المسجد صلى فيه، فهذا أيضاً يثاب على (ما) فعله من المشروع كالصلاة في المسجد والصلاة على النبي والسلام عليه ونحو ذلك من الدعاء والثناء عليه ومحبته وموالاته والشهادة له بالرسالة والبلاغ وسؤال الله الوسيلة له ونحو ذلك مما هو من حقوقه المشروعة في مسجده بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ومن الناس من لا يتصور ما هو الممكن المشروع من الزيارة حتى يرى المسجد والحجرة بل يسمع لفظ زيارة قبره فيظن ذلك كما هو المعروف المعهود من زيارة القبور إنه يصل إلى القبر ويجلس عنده ويفعل ما يفعل من زيارة شرعية، أو بدعية، فإذا رأى المسجد والحجرة تبين له إن لا سبيل لأحد أن يزور قبره كالزيارة المعهودة عند قبر غيره، وإنما يمكن الوصول إلى مسجده والصلاة فيه، وفعل ما يشرع للزائر في المسجد،لا في الحجرة عند القبر بخلاف قبر غيره، انتهى كلامه.
فقد تبين أن شيخ الإسلام إنما ذكر الخلاف في الجواب فيمن قصد مجرد القبر، فأما من قصد الزيارة وغيرها كالصلاة في المسجد، فلم يذكر فيه نزاعاً، فليس فيما روى عن بلال حجة عليه، فإنه يحتمل أن يكون قصد الصلاة في المسجد وزيارة القبر معاً ولا يعلم أنه قصد مجرد القبر، ولم يقصد المسجد إلا بإخباره عن نفسه بذلك، فإن القصد، محله القلب، ولا سبيل لنا (إلى) الإطلاع عليه إلا بخبر من قام به، وبلال لم يخبر عن نفسه بأنه قصد مجرد زيارة القبر.
(1/242)

وإنما في الأثر المروي عنه أنه ركب راحلته وقصد المدينة، وليس في ذلك دليل على أنه جرد النية للقبر (فقط) ولو فرض أنه لم يقصد إلا القبر فقط، ولم يقصد الصلاة والسلام في المسجد كان ذلك على سبيل الاجتهاد منه، وكان ممن يحتج لفعله، وقد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) ولم ينقل عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا من الخلفاء الراشدين ولا من غيرهم، مثل هذا الذي روي عن بلال، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء 059)
والذي يظهر أن ما نقل عن بلال في هذا ليس بصحيح عنه، بل بعض ألفاظه الخبر يشهد ببطلانه عنه، وقد ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((السلام عليك يا رسول الله السلام عليكم يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه)) وهذا صحيح ثابت عن ابن عمر، بل هو مجمع على حصته عنه، وليس فيه شد رحل ولا إعمال مطي،ومع هذا فقد قال ابن ابن أخيه الإمام الحافظ الفقيه أحد الأعلام أبو عثمان عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني: ما نعلم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (فعل) ذلك إلا ابن عمر، هكذا ذكره عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن عبيد الله بن عمر.
وقد كان عبيد الله من سادات أهل المدينة وأشراف قريش فضلاً وعلماً وعبادة وحفظاً وإتقاناً، بل هو أحفظ آل عمر في زمانه وأثبتهم وأعلمهم، وقد قال ما قال فيما كان ابن عمر يفعله، مع أن مالكاً وغيره من العلماء صاروا إلى ما روي عن ابن عمر في ذلك.
فإذا كان هذا قول عبيد الله بن عمر فيما روي عن ابن عمر في ذلك، مع أنه أقرب بكثير مما روي عن بلال، فإن الذي فيه مجرد السلام عند القدوم من السفر، وليس فيه شد رحل، ولا إعمال مطي، ولا غير ذلك مما روي عن بلال، فكيف يقال فيما روي عن بلال من فعله المتضمن شد الرحال، وإعمال المطي، وغير ذلك مما ينقل عن غيره عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان والله أعلم.
(1/243)

قال المعترض
وقد استفاض عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يبرد البرد من الشام يقول له: سلم (لي) على رسول الله صلى الله عليه وسلم وممن ذكر ذلك ابن الجوزي، ونقلته من خطة في كتاب: مثير العزم الساكن، وقد ضبطه بإسكان الياء الموحدة وكسر الراء المخففة، وهو كذلك يقال: أبرد فهو مبرد.
وذكر (أيضاً) الإمام أبو بكر أحمد بن عمر بن أبي عاصم (النبيل) ووفاته سنة سبع وثمانين ومائتين في مناسك له لطيفة جردها من الأسانيد ملتزماً فيها الثبوت قال فيها: وكان عمر بن عبد العزيز يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ليقرئ النبي صلى الله عليه وسلم السلام ثم يرجع، وهذه المناسك رواية شيخنا الدمياطي.
ثم ذكر إسناد شيخه (إلى) ابن أبي عاصم وقال: فسفر بلال في زمن صدر الصحابة ورسول عمر بن عبد العزيز في زمن صدر التابعين من الشام إلى المدينة لم يكن إلا للزيارة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن الباعث على السفر غير ذلك، لا من أمر الدنيا ولا من أمر الدين، لا من قصد المسجد، ولا من غيره، انتهى ملام المعترض.
وللجواب: من وجوه:
أحدهما: المطالبة بصحة الإسناد إلى عمربن عبد العزيز، ولم يذكر المعترض الإسناد في ذلك إلى عمر لينظر فيه، هل هو صحيح أم لا؟ وكأنه لم يظفر به، فإنه لو ظفر به ووقف عليه لبادر إلى ذكره، ولو كان إسناداً ضعيفاً كما هي عادته، وكما ذكر إسناد الأثر المروي عن بلال، وإن كان غير صحيح.
الوجه الثاني: إن ما نقل عن عمر بن عبد العزيز من إيراده البريد من الشام قاصداً إلى المدينة لمجرد الزيارة، ليس بصحيح عنه، بل في إسناده عنه ضعيف وانقطاع وأمثل ما روي عنه في ذلك ما ذكره البيهقي في كتاب: شعب الإيمان فقال: حدثنا أبو سعيد بن ابي عمرو، أنبأنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا ابن أبي الدنيا حدثنا إسحاق بن أبي حاتم
(1/244)

المدائني، حدثنا ابن أبي فديك، عن رباح بن أبي بشير، عن يزيد بن أبي سعيد مولى المهري، قال: قدمت على عمر بن عبد العزيز إذا كان خليفة بالشام، فلما ودعته قال: إن لي إليك حاجة إذا أتيت المدينة سترى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأقرئه مني السلام.
هذا أجود ما روي عن عمر بن عبد العزيز في هذا الباب مع أن في ثبوته عنه نظراً فإن رباح بن أبي بشير شيخ مجهول (1) لم يرو عنه غير ابن أبي فيدك، ولو فرض أنه شيخ معروف ثقة، فليس في روايته ذكر إيراد البريد لمجرد الزيارة، وإنما فيها إرسال السلام مع بعض من قدم على عمر من أهل المدينة، فإن يزيد بن أبي سعيد مولى المهري، هو من أهل المدينة، وكان قدم منها إلى الشام على عمر بن عبد العزيز، فلما ودعه وأرد الرجوع إلى بلده، قال له عمر: سترى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاقرئه مني السلام، وقد عرف أن شيخ الإسلام لم يذكر نزاعاً في الجواب فيمن سافر إلى المدينة لحاجة، وزار عند قدومه، أو اجتمع في سفره قصد الزيارة مع قصد آخر.
وإنما ذكر الخلاف فيمن قصد مجرد القبر، ويزيد بن أبي سعيد قصد الرجوع إلى بلده المدينة، وانضم إلى ذلك قصد آخر، وليس هذا محل النزاع، وإنما الخلاف في شد الرحل وأعمال المطي إلى مجرد زيارة القبور.
وقول المعترض: فسفر بلال في زمن صدر الصحابة ورسول عمر بن العبد العزيز في زمن صدر التابعين من الشام إلى المدينة لم يكن إلا للزيارة هو مجرد دعوى عرية عن الدليل فتقابل بالمنع والرد (وعدم القبول) بل إنما كان لها ولغيرها كما قد بينا ذلك والله أعلم.
فإن قيل: ذكر البيهقي في آخر الأثر المذكور أن (عمر) كان يرد البريد، فإن فيه بعد قوله: فأقرئه مني السلام، قال محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، فحدث به عبد الله بن جعفر، فقال: أخبرني فلان أن عمر كان يبرد إليه البريد من الشام.
فالجواب: أن هذا ليس بصحيح بل (هو) ضعيف منقطع، وعبد الله بن جعفر محدث أبي فديك هو والد ابن المديني، وهو ضعيف غير محتج بخبره، قال يحيى بن معين


(1) الذي في الجرح والتعديل 3/490 رباح بنبشير أبو بشر روى عن يزيد بن أبي سعيد روى عنه ابن أبي فديك سمعت أبي يقول: هو مجهول، وانظر اللسان 2/442.
(1/245)

ليس بشيء (1) ، وقال النسائي (2) ، متروك الحديث، والمخبر لعبد الله بن جعفر رجل مبهم وهو أسوأ حالاً من المجهول.
فإن قيل: قد روى البيهقي، نحو هذا من وجه آخر، فقال: حدثنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني، أنبأنا إبراهيم بن فراس بمكة، حدثني محمد بن صالح الرازي، حدثنا زياد بن يحيى، عن حاتم بن وردان، قال: كان عمر بن عبد العزيز يوجه بالبريد قاصداً إلى المدينة ليقرئ عنه النبي صلى الله عليه وسلم السلام. كذا رواه في شعب الإيمان وهذه الرواية هي التي ذكرها المعترض من المناسك لابن أبي عاصم بلا سند.
والجواب: أن يقال هذه روية منقطعة غير ثابتة وحاتم بن وردان (3) شيخ من أهل البصرة لم يلق عمر بن عبد العزيز،ولم يدركه فروايته عنه مرسلة غير متصلة،ـ وقد توفي عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة، وكانت وفاة حاتم بن وردان سنة أربع وثمانين ومائة وأكبر شيخ لحاتم، أيوب السختياني،وكانت وفاة أيوب سنة إحدى وثلاثين ومائة.
الوجه الثالث: إنه لو ثبت عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أنه كان يبرد البريد من الشام قاصداً إلى المدينة لمجرد الزيارة والسلام، كان في فعله ذلك من جملة المجتهدين، ومن المعلوم أنه رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين ومن كبار الأئمة المجتهدين، فإذا قال قولاً باجتهاده وفعل فعلاً برأيه: فإن قام دليله وظهرت حجته تعين المصير إليه والاعتماد عليه، وإلا فهو ممن يحتج لقوله: ويستدل لفهعله، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء 059) وقد ذكر فيما تقدم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأتي إلى القبر للسلام عند القدوم من سفر، ومع هذا فقد قال


(1) انظر كلامه في الميزان.
(2) انظر الضعفاء والمتروكين ص148، رقم 346، وانظر ترجمته في التاريخ الكبير للبخاري 5/62 والصغير ص64 والجرح والتعديل 5/22 والمجروحين لابن حبان 2/14 والميزان 2/401 والكاشف 2/69 والمغني 1/334 واللسان 7/259 والتهذيب 5/174 وأحوال الرجال للجوزجاني ص110، رقم 175، قال الذهبي، متفق على ضعفه وقال ابن المديني، أبي ضعيف، وقال الجوةزجاني واه.
(3) ترجمته في الجرح والتعديل 3/260، قال ابن معين ثقة وقال أبو حاتم: لا بأس به، مات سنة 184 كما في التقريب.
(1/246)

عبيد الله بن عمر العمري الكبير الثقة (الثبت) ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذل إلا ابن عمر.
وقال شيخ الإسلام في أثناء كلامه في الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في كل مكان: وأما السلام عليه عند القبر، فقد عرف أن الصحابة والتابعين المقيمين بالمدينة لم يكونوا يفعلونه، إذا دخلوا المسجد وخرجوا منه – إلى أن قال ولهذا كان أكثر السلف لا يفرقون بين الغرباء وأهل المدينة، ولا بين حال السفر وغيره، فإن استحباب هذا لهؤلاء، وكراهته لهؤلاء، حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي، ولا يمكن أحداً أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرع لأهل المدينة الاتيان عند الوداع للقبر، وشرع لهم ولغيرهم ذلك عند القدوم من سفر وشرع للغرباء تكرير ذلك كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه.
ولم يشرع ذلك لأهل المدينة، فمثل هذه الشريعة ليس منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم،ولا عن خلفائه ولا هو معروف من عمل الصحابة، وإنما نقل عن ابن عمر السلام عند القدوم من السفر، وليس هذا من عمل الخلفاء وأكابر الصحابة ن كما كان ابن عمر يتحرى الصلاة والنزول والمرور حيث حل ونزل وعبر في السفر، وجمهور الصحابة لم يكونوا يصنعون ذلك، بل (أبوه) عمر كان ينهي عن مثل ذلك، والله أعلم.
قال المعترض
وفي فتوح الشام أنه لما كان أبو عبيدة منازلاً بيت المقدس أرسل كتاباً إلى عمر مع ميسرة بن مسروق يستدعيه الحضور، فلما قدم ميسرة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلها ليلاً، ودخل المسجد وسلم على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى قبر أبي بكر الصديق، وفيه أيضاً أن عمر لما صالح أهل بيت المقدس،وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح عمر بإسلامه، قال عمر (له) هل لك أن تسير معي إلى المدينة،وتزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتتمتع بزيارته؟ فقال:نعم يا أمير المؤمنين، أنا أفعل ذلك، ولما قدم عمر المدينة أول ما بدأ بالمسجد وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى ما ذكره.,
وهو مطالب:أولاً بيان صحته، وثانياً: بيان دلالته على مطلوبه، ولا سبيل له إلى واحد من الأمرين.
ومن المعلوم أن هذا من الأكاذيب والموضوعات على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفتوح الشام فيه كذب كثير، وهذا لا يخفى على آحاد طلبة العلم، ولكن شأن هذا
(1/247)

المعترض الاحتجاج دائماً بما يظنه موافقاً لهواه،ولو كان من المنخنقة والموقوذة والمتردية، وليس هذا شأن العلماء،بل المستدل بحديث أو أثر عليه أن يبين صحته ودلالته على مطلوبه،وهذا المنقول عن عمر رضي الله عنه لو كان ثابتاً عنه، لم يكنفيه دليل على محل النزاع،وقد عرف أن شيخ الإسلام لا ينكر الزيارة على الوجده المشروع ولا يكرهها، (بل يحض عليها) ويندب إلى فعلها، والله الموفق للصواب.
ثم قال المعترض
وقد ذكر المؤرخون والمحدثون منهم أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب، وأحمد بن يحيى البلاذري في تاريخ الأشراف، وابن عبد ربه في العقد أن زياد بن أبيه أراد الحج فأتاه أبو بكرة، وهو لا يكلمه فأخذ ابنه فأجلسه في حجرة ليخاطبه ويسمع زياداً فقال:إن أباك فعل وفعل وأنه يريد الحج، وأم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم هناك (فإن) أذنت له فأعظم بها مصيبة وخيانة لرسول الله، وإن هي حجته فأعظم بها حجة عليه، فقال زياد: ما تدع النصيحة لأخيك، وترك الحج في تلك السنة، هكذا حكاها البلاذري.
وحكى ابن عبد البر ثلاثة أقوال.
أحدهما: أنه حج ولم يزر من أجل قول أبي بكرة.
والثاني: أنه دخل المدينة وأراد الدخول على أم حبيبة، فذكر قوله أبي بكرة فانصرف عن ذلك.
والثالث: أن أم حبيبة حجته ولم تأذن له، والقصة على كل تقدير تشهد، لأن زيارة الحاج كانت معهودة من ذلك الوقت، وإلا فكان زياد يمكنه أن يحج من غير طريق المدينة، بل هي أقرب إليه لأنه كان بالعراق، والإتيان من العراق إلى مكة أقرب، ولكن كان إتيان المدينة عندهم أمراً لا يترك، انتهى ما ذكره.
فالجواب: أن يقال: هذا من نمط ما قبله في الاحتجاج بما ليس بثابت عند العلماء وليس فيه دليل على المطلوب، بل هو على نقيض مراد المعترض أدل منه على مطلوبة، وهذه القصة المروية في أمر أبي بكرة وزياد، مختلف فيها، وعلى كل تقدير فزياد بن أبيه،ليس ممن يحتج بقوله، ولا يعرج على فعله، وزياد الحاج لم ينكرها الشيخ ولا كرهها، بل استحبها كغيره من العلماء، وذكرها في مناسكه ومصنفاته وفتاويه وقد قال في بعض مناسكه.
(1/248)

باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم
ثم ذكر ما يقوله إذا دخل (المسجد) وقال: ثم يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيستقبل جدار القبر ولا يمسه، ولا يقبله، ثم يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبين وقائد الغر المحجلين، ثم ذكر الكلام إلى آخره، وذكر السلام على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقد تبين أن الشيخ رحمه الله لم ينكر زيارة الحاج قبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى يشنع عليه بما لم يقله، أو يضاف إليه ما لم يعتقده، وإنما ذكر نزاع العلماء في شد الرحال وأعمال المطي إلى مجرد زيارة القبور، ومال إلى النهي عن ذلك محتجاً بما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) (1) والله أعلم.
ثم قال المعترض: واختلف السلف في أن الأفضل البداءة بالمدينة قبل مكة، أو بمكة قبل المدينة، قال: وممن نص على هذه المسألة وذكر الخلاف فيها الإمام أحمد في كتاب المناسك الكبير من تأليفه، ثم ذكر أن ابن ناصر رواها بإسناد له ذكره إلى عبد الله بن أحمد عن أبيه، وقال في هذه المناسك، سئل عمن يبدأ بالمدينة قبل مكة، فذكر بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد وعطاء ومجاهد، قالوا: إذا أردت مكة فلا تبدأ بالمدينة وابدأ بمكة، فإذا قضيت حجتك فأمرر بالمدينة إن شئت.
قال: وذكر بإسناده عن الأسود قال: أحب أن يكون نفقتي وجهادي وسفري أن أبدأ بمكة وعن إبراهيم النخي إذا أردت مكة فاجعل كل شيء لها تبعاً، وعن مجاهد إذا أردت الحج أوالعمرة فبدأ بمكة واجعل كل شيء لها تبعاً، وعن إبراهيم قال: إذا حججت فابدأ بمكة ثم مر بالمدينة بعد.
وذكر الإمام أحمد أيضاً بإسناده عن عدي بن ثابت أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يبدأون بالمدينة إذا حجوا يقولون: نهل من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر ابن أبي شيبة في مصنفه هذا الأثر أيضاً، وذكر بإسناده عن علقمة والأسود، وعمر بن ميمون أنهم بدأوا بالمدينة قبل مكة، ثم قال: وقال الموفق ابن قدامة: قال: – يعني أحمد -: إذا حج الذي لم يحج فقط يعني من غير طريق الشام، لا يأخذ على طريق المدينة لأني أخاف أن يحدث به حدث فينبغي أن يقصد مكة من أقصد الطرق ولا


(1) تقدم تخريج هذا الحديث.
(1/249)

يتشاغل بغيره، قال: وهذا في العمرة متجه، لأنه يمكنه فعلها متى وصل إلى مكة، وأما الحج فله وقت مخصوص، فإذا كان الوقت متسعاً لم يفت عليه بمروره بالمدينة شيء، وممن نص على هذه المسألة من الأئمة أبو حنيفة، وقال: الأحسن أن يبدأ بمكة، روى ذلك الحسن بن زياد عنه (1) ، فيما حكاه أبو الليث السمرقندي، انتهى كلامه.
وهذا الذي ذكره في البداية بمكة ليس فيه ما يحصل مراده ومطلوب ثم قال: فانظر كلام السلف والخلف في إتيان المدينة، إما قبل مكة، وإما بعدها، ومن أعظم ما تؤتي له المدينة الزيارة، ثم أخذ في الاستدلال على هذه الدعوى المجردة بما لا يصلح أن يكون شبه فقال: ألا ترى أن بيت المقدس لا يأتيه إلا القليل من الناس، وأن كان مشهوداً له بالفضل والصلاة فيه مضاعفة فتوفر الهمم خلفاً عن سلف على إتيان المدينة، إنما هو لأجل الزيارة، وإن اتفق معها قصد عبادات أخرى فهو مغمور بالنسبة إليها.
ولا يخفى على من له أدنى فهم ومعرفة بالمعلم أن ما زعمه المعترض من الحكم ودليله في هذا المحل دعوي مجردة عن دليل، فتقابل بالمنع وعدم القبول، وقد ذكر قريباً عن النفر عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا إذا حجوا يبدأون بالمدينة وأنهم عللوا ذلك بما زعمه وادعاه.
ثم ذكر المعترض في هذا المكان كلاماً عليه فيه مؤاخذات ومناقشات يطول الكتاب بذكرها، ثم ذكر كلام الأجري في الشريعة، وابن بطة في الإبانة المتضمن للرد على بعض الملحدة في إنكاره دفن أبي بكر وعمر مع النبي صلى الله عليه وسلم واشتمل كلامهما على ذكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فزعم المعترض أنه استفيد منه السفر للزيارة، وأن ذلك لم يزل في السلف والخلف.
وهذا الذي زعمه غير مقبول منه، وليس في كلامهما ذكر السفر للزيارة، وإنما فيه ذكر الزيارة فقط والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهذا المعترض لا يفرق بين السفر لزيارة القبور، وبين زيارتها بلا سفر، بل كل منهما مندوب مستحب، والعلماء قد فرقوا بين الحكمين وميزوا بين المسألتين.


(1) انظر ترجمته في الضعفاء والمجروحين 35 والجرح والتعديل 3/15 وتاريخ بغداد 7/314 وميزان الاعتدال 1/491 واللسان 2/208 وشذرات الذهب 2/12 وأخبار القضاء 3/188 وسير أعلام النبلاء 9/543 وغيرها.
(1/250)

وابن بطه الذي ألزم المعترض كلامه مالا يلزمه، قد ذكر الزيارة وصفتها فيما حكاه عنه من العلم بأنه أحد القائلين بالنهي عن السفر إلى القبور.
وقد ذكر ذلك في الإبانة الصغرى التي يذكر فيها جمل أقوال أهل السنة وما خالفها من البدع فقال: ومن البدع البناء على القبور وتحصينها، وشد الرحال إلى زيارتها، فأبن بطه (1) يستحب الزيارة مع نهيه عن شد الرحل لمجردها، فعلم أنه يفرق بين السفر، وبين الزيارة بلا سفر لا كما زعمه المعترض.
ثم قال: قال القاضي عياض: قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه، مما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتربك برؤية روضته ومنبره ومجلسه وملامس يديه ومواطئ قدميه والعمود الذي كان يستند إليه، وينزل جبريل بالوحي فيه عليه،وبمن عمره وقصده من الصحابة وأئمة المسلمين والاعتبار بذلك كله، ثم قال: وسنذكر في الباب الرابع من كلام العبدي المالكي في شرح الرسالة أن المشي إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس.
وقال في الباب الرابع: وقال العبدي في شرح الرسالة: وأما النذر بالمشي إلى المسجد الحرام،والمشي إلى مكة فله اصل في الشرع وهو الحج والعمرة وإلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس، وليس عنده حج ولا عمره، فإذا نذر المشي إلى هذه الثلاث لزمه فالكعبة متفق عليها، ويختلف أصحابنا وغيرهم في المسجدين الآخرين.
قال المعترض: قلت: الخلاف الذي أشار إليه في نذر إتيان المسجدين لا في الزيارة انتهى كلامه.
وهذا الذي حكاه عن هذا العبدي المالكي مكرراً له في غير موضع من الكتاب راضياً به ومقرراً له ومتبعاً له بيان موضع الخلاف، وأنه في إتيان المسجدين لا في الزيارة شيء لم يسق قائله إليه، ولم يتابعه أحد من العلماء عليه، بل قول القائل: إن المشي


(1) انظر ترجمته في ميزان الاعتدال 3/15 ولسان الميزان 4/112-115 وسير أعلام النبلاء 16/529 وتاريخ بغداد 10/371 – 375 والعبر 3/35 وطبقات الحنابلة 2/114-153 وشذرات الذهب 3/122-124 وهو متكلم فيه وحديثه أنزل من الحسن
(1/251)

إلى المدينة لمجرد زيارة القبر أفضل من الكعبة قول محدث في الإسلام،مخالف لإجماع جميع العلماء الأعلام من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين المتقدمين منهم والمتأخرين، وذلك كاف في رده وظهور بطلانه والله أعلم.
ثم قال المعترض: وأكثر عبارات الفقهاء أصحاب المذاهب ممن حكينا كلامهم في باب الزيارة يقتضي استحباب السفر، هكذا قال، وذلك خطأ منه، فإن القول باستحباب الزيارة لا يقتضي استحباب السفر لها كما سيأتي بيان ذلك (مستوفي) إن شاء الله تعالى، والفقهاء الذي حكينا كلامهم، في الزيارة متفقون على استحبابها، مع أنه مختلفون في السفر لمجردها، فلو كان استحباب الزيارة مقتضياً لاستحباب السفر لم يقع بينهم فراغ في السفر لها.
قال: وحكاية الأعرابي المشهورة التي ذكرها المصنفون في مناسكهم وفي بعض طرقها أن الأعرابي ركب راحلته وانصرف وذلك يدل أنه كان مسافراً، والحكاية المذكورة ذكرها جماعة من الأئمة عن العتبي، وأسمه محمد بن عبد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان: صخر بن حرب كان من أفصح الناس صاحب أخبار ورواية للأدب، وحدث عن أبيه وسفيان بن عيينة، توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين، يكنى أبا عبد الرحمن.
وذكرها ابن عساكر في تاريخه وابن الجوزي في مثير العزم الساكن وغيرهما بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي قال: دخلت المدينة فأتيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم فزرته فجلست حذاءه فجاء إعرابي فزاره ثم قال: يا خير الرسل إن الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} (النساء 064) وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي ثم بكى وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه … فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه … فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم استغفر وانصرف، فرقدت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في نومي وهو يقول: إلحق الرجل فبشره أن الله قد غفر له بشفاعتي، فاستيقظت فخرجت أطلبه فلم اجده، قال وقد نظم أبو الطيب أحمد بن عبد العزيز بن محمد المقدسي، وسأله بعضهم الزيارة على هذين البيتين وتضمينهما فقال: ورواه ابن عساكر عنه:
(1/252)

أقول والدمع من عيني منسجم … لما رأيت جدار القبر يستسلم
والناس يغشونه ياك ومنقطع … من المهابة أو ذاع فملتزم
فما تمالكت أن نأديت من حرق … في الصدر كادت لها الأحشاء تضطرم
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه … فطاب من طبيهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه … فيه العفاف وفيه الجود والكرم
وفيه شمس التقى والدين قد غربت
… من بعد ما أشرقت من نوره الظلم
حاشى لوجهك أن يبلى وقد هديت … في الشرق والغرب من أنواره الأمم
وإن تمسك أيدي الترب لامسة … وأنت بين السموات العلى علم
لقيت ربك والإسلام صارمه … ماض وقد كان يحر الكفر يلتطم
فقمت فيه مقام المرسلين إلى … إن عز فهو على الأديان يحتكم
لئن رأيناه قبراً إن باطنه … لروضه من رياض الخلد يبتسم
طافت به من نواحيه ملائكة
… تغشاه في كل ما يوم وتزدحم
لو كنت أبصرت حباً لقلت له … لا تمش إلا على خدي لك القدم
هدي به الله قوماً قال قائلهم … بطن حكه لما ضمه الرحم
إن مات أحمد فالرحمن خالقه … حين ونعبده ما أروق السلم
قال الجوهري: الرجم بالتحريك القبر، هذا آخر ما أو رده المعترض في الباب الثالث، وهذه الحكاية التي ذكرها بعضهم يرويها عن العتبي، بلا إسناد، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب الهلالي، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب عن أبي الحسن الزعفراني، عن الأعرابي، وقد ذكرها البيهقي في كتاب شعب الإيمان بإسناد مظلم عن محمد بن روح بن يزيد بن البصري، حدثني أبو حرب الهلالي قال: حج أعرابي فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ راحلته فعقلها، ثم دخل المسجد حتى أتى القبر، ثم ذكر نحو ما تقدم، وقد وضع لها بعض الكذابين إسناداً إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما سيأتي ذكره.
وفي الجملة: ليست هذه الحكاية المنكورة عن الأعرابي مما يقوم به حجة وإسنادها مظلم مختلف ولفظها مختلف أيضاً،ولو كانت ثابتة لم يكن فيها حجة على مطلوب المعترض، ولا يصلح الاحتجاج بمثل هذه الحكاية، ولا الاعتماد على مثلها عند أهل العلم وبالله التوفيق.
(1/253)

الباب الرابع: في نصوص العلماء على استحباب زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان أن ذلك مجمع عليه بين المسلمين
قال المعترض
قال القاضي عياض (رحمه الله) زيارة قبره صلى الله عليه وسلم سنة بين المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها.
قلت: هذا الإجماع الذي حكاه القاضي عياض رحمه الله تعالى حكاه شيخ الإسلام أيضاً، في غير موضع، وقد قدمناه غير مرة ذكر في مصنفاته وفتاويه ومناسكه استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه المشروع، ولم يذكر في ذلك نزاعاً بين العلماء، وإنما ذكر الخلاف بينهم في السفر لمجرد زيارة القبور، واختار المنع من ذلك كما هو مذهب مالك وغيره من أهل العلم، وهو الذي اختاره القاضي عياض مع حكايته هذا الاجماع.
ومقصوده المعترض الاحتجاج على الشيخ بهذا الإجماع الذي ذكره القاضي عياض، والشيخ لا يخالف هذا الإجماع، بل يوافقه ويذهب إليه ويحكيه في مواضع مع قوله بالنهي عن السفر لزيارة القبور، كما ذهب إليه القاضي عياض ناقل هذا الإجماع، وينبغي للمعترض وأمثاله أن يعرفوا الفرق بين مواقع الاجتماع ومحال النزاع ولا يخلطوا بعضها ببعض.
ولا ريب أن الإنسان إذا أتى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم استحب له أن يفعل فيه ما يشرع له من الصلاة والصلاة على الرسول والتسليم والثناء (عليه) ونشر فضائله ومناقبه وسننه وما يوجب محبته وتعظيمه والإيمان به وطاعته، وهذا هو المقصود من الزيارة الشرعية والسفر إلى مسجده للصلاة فيه، وما يتبع ذلك مستحب بالنص والإجماع، والسفر لمجرد زيارة القبر فيه نزاع.
قال الشيخ في أثناء كلامه (1) : والقاضي عياض مع مالك وجمهور أصحابه يقولون: إن السفر إلى غير المساجد الثلاث محرم كقبور الأنبياء، فقول القاضي عياض: إن زيارة


(1) انظر الرد على الأخنائي ص167.
(1/254)

قبره سنة مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها، المراد، به الزيارة الشرعية، كما ذكره مالك وأصحابه من أنه يسافر إلى مسجده، ثم يسلم عليه ويصلي عليه كما ذكره في كتبهم، ثم أطال الكلام وقال.
والمقصود أمن ما حكى القاضي عياض فيه الاجتماع لم ينه عنه في الجواب، بل السفر إلى مسجده وزيارته على الوجه المشروع سنه مجمع عليها، كما ذكره القاضي عياض وبعضهم يسميها زيارة لقبره، وبعضهم يكره أن يسميها زيارة، ولا يدخل في ذلك السفر إلى غير المساجد الثلاث، كالسفر إلى قبور الأنبياء والصالحين ومن سافر لمجرد قبورهم فلم يزر زيارة شرعية بل بدعية، فلهذا يقول أحمد أنه مجمع على أنه سنة، ولكن هذا الموضع مما يشكل على كثير من الناس؛ فينبغي لمن أراد أن يعرف دين الإسلام أن يتأمل النصوص النبوية، ويعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون وما قاله أئمة المسلمين ليعرف المجتمع عليه من المتنازع فيه.
فإن الزيارة فيها مسائل متعددة فيها، ولكن لم يتنازعوا فيها علمت في استحباب السفر إلى مسجده واستحباب الصلاة والسلام عليه فيه ونحو ذلك مما شرعه الله في مسجده ولم يتنازع الأئمة الأربعة والجمهور في أن السفر إلى غير الثلاثة ليس بمستحب لا لقبور الأنبياء والصالحين ولا غفير ذلك فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال)) حديث متفق على صحته وعلى العمل به عند الأئمة المشهورين، وعلى أن السفر إلى زيارة القبور داخل فيه، فإما أن يكون نهياً، وإما أن يكون نفياً للاستحباب، وقد جاء في الصحيح بصيغة النهي صريحاً فتعين أنه نهي.
فهذان طرفان لا أعلم فيهما نزاعاً بين الأئمة الأربعة والجمهور، والأئمة الأربعة وسائر العلماء لا يوجبون الوفاء على نذر أن يسافر إلى أثر نبي من الأنبياء قبورهم، أو غير قبورهم، وما علمت أحداً أوجبه غير ابن حزمن فإنه أوجب الوفاء على ما نذر مشياً أو ركوباً، أو نهوضاً إلى مكة، أو المدينة، أو بيت المقدس.
قال: وكذلك إلى أثر من آثار الأنبياء، قال: فإن نذر مشياً، أو نهوضاً أو ركوباً إلى مسجد من المساجد غير الثلاث لم يلزمه، وهذا عكس قول الليث بن سعد فإنه قال:من نذر المشي إلى مسجد من المساجد مشى إلى ذلك المسجد، وابن حزم فهم من قوله: ((لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) أي لا تشد إلى مسد، وهو لا يقول بفحوى الخطاب وتنبيهه، فلا يجعل هذا نهياً عما هو دون المساجد في الفضيلة بطريق الأولى بل يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه)) إنه لو
(1/255)

بال، ثم صب البول فيه لم يكن منهياً عن الاغتسال فيه وداود الظاهري عنه في فحوى الخطاب، روايتان هذه إحداهما، وابن حزم ومن قال بإحدى روايتي داود الظاهري، يقولون: إن قوله: ((ولا تقل لهما أف)) لا يدل على تحريم الشتم والضرب، وهذا قول ضعيف جداً، في غاية الفساد عند عامة العلماء، فإنهم يقولون: إذا كان البائل الذي يحتاج إلى البول قد نهى أن يبول فيه، ثم يغتسل فيه، فالذي بال في إناء، ثم صبه فيه أولى بالنهي، كما أنه لما نهى عن الاستجمار بطعام الجن وطعام دوابهم العظام والروث كان ذلك تنبعاً على النهي، عن الاستجمار بطعام الإنس بطريق الأولى، وكل ما نهى عنه الاستجمار به فتلطيخه بالعذرة أولى بالنهي، فإنه لا حاجة إلى ذلك، ولهذا فهم الصحابة من نهيه أن يسافر إلى غير المساجد الثلاث، أن السفر إلى طور سيناء داخل في النهي وإن لم يكن مسجداً، كما جاء عن بصره بن أبي بصرة وأبي سعيد وابن عمر وغيرهم.
وحديث بصرة معروف في السنن والموطأ قال لأبي هريرة، وقد أقبل من الطور لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تعمل المطي إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) .
وأما ابن عمر فروي أبو زيد شبه النميري في كتاب أخبار المدينة حدثنا ابن أبي الوزير حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، عن طلق عن قزعة قال: أتيت ابن عمر فقلت: إني أريد الطور؟ فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور فلا تأته، رواه أحمد بن حنبل في مسنده، وهذا النهي من بصرة بن أبي بصرة، وابن عمر، ثم موافقة أبي هريرة يدل على أنهم فهموا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم النهي، فلذلك نهوا عنه لم يحملوه على مجرد نفي الفضيلة.
وكذلك أبو سعيد الخدري وهو رواية أيضاً، وحديثه في الصحيحين، فروى أبو زيد حدثنا هشام بن عبد الملك، حدثنا عبد الحميد بن بهرام، حدثنا شهر بن حوشب، قال سمعت أبا سعيد وذكر عنده الصلاة، في الطور، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد تبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) (1) فأبو سعيد جعل الطور مما نهى عن شد الرحال إليه، مع أن اللفظ


(1) تقدم تخريجه بلفظ لا تشد الرحال.. وهذا الإسناد وفيه شهر بن حوشب.
(1/256)

الذي ذكره إنما فيه النهي عن شدها إلى المساجد، فدل على أنه علم أن غير المساجد أولى بالنهي.
والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة، وأن الله سماها الوادي المقدس والبقعة المباركة، وكلم الله موسى هناك، وما علمت المسلمين بنوا هناك مسجداً فإنه ليس هناك قرية للمسلمين، وأن كان هناك مسجد فإذا نهى الصحابة عن السفر إلى تلك البقعة وفيها مسجد، فإذا لم يكن فيها مسجد كان النهي عنها أقوى.
وهذا ظاهر لا يخفى على أحد فالصحابة سمعوا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم فهموا منه النهي، وفهموا منه تناوله لغير المساجد، وهم أعلم الناس بما سمعوه، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا ذكر ما تنازع فيهما الأئمة المشهورين، أو غيرهم، وما لم يتنازعوا فيه، فإن بين الطرفين الذين لم يتنازع فيهما الأئمة مسائل متعددة فيها نزاع، ولكن طائفة من المتأخرين يستحبون السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين ويفعلون ذلك ويعظمونه، لكن هل في هؤلاء أحد من المجتهدين الذين تحكى أقوالهم، وتجعل خلافاً على من قبلهم من أئمة المسلمين؟ هذا مما يجب النظر فيه، والله أعلم.
قال المعترض
وقال القاضي أبو الطيب: ويستحب أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يحج ويعتمر، ثم حكى كلام جماعة من الشافعية في الزيارة كالمحاملي (1) والحليمي (2) والماوردي (3)


(1) هو الفقيه الإمام أبو الحسن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبي المحاملي البغدادي من كبار الشافعية،انظر ترجمته في طبقات الشافعية 4/103 – 104 وشذرات الذهب 3/185 والعبر 3/97 وتاريخ بغداد 1/333 وسير أعلام النبلاء 17/265.
(2) هو القاضي العلامة رئيس المحدثين والمتكلمين، بما وراء النهر أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الشافعي.
انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 3/103 والعبر 3/48 وطبقات السبكي 4/333 وطبقات الأسنوي 1/404 -405 وطبقات ابن هداية الله 120 وسير أعلام النبلاء 17/231-232 وكشف الظنون 2/1047 وشذرات الذهب 3/407-408.
(3) هو الإمام العلامة أقضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي الشافعي صاحب التصانيف، انظر ترجمته في تاريخ بغداد 12/102-103 والكامل لابن الأثير 9/651 ووفيات الأعيان 3/282-284 وميزان الاعتدال 3/155 وطبقات السبكي 5/267-285 وطبقات الأسنوي 2/387-388 والبداية والنهاية 12/80 وسير أعلام النبلاء 18*-64 ولسان الميزان 4/260-261 وطبقات المفسرين للداوردي 1/423-425 وطبقات المفسرين للسيوطي 25 وطبقات ابن هداية الله 151-152 وشذرات الذهب 3/285-287 وهداية العارفين 1/689 وانظر كشف الظنون وغيرها.
(1/257)

وصاحب المهذب (1) ، والقاضي حسن (2) والروياني (3) ، ثم قال: ولا حاجة إلى تتبع كلام الأصحاب في ذلك مع العلم بإجماعهم،وإجماع سائر العلماء عليه، ثم نقل كلام غير واحد من الحنفية في ذلك ثم قال: وكذلك نص عليه الحنابلة أيضاً، قال: أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني (4) الحنبي في كتاب الهداية في آخر باب صفحة الحج.
فإذا فرغ من الحج استحب له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبره صاحبيه رضي الله عنهما. ثم ذكر كلام صاحب المستوعب، وقال بعد حكايته: وأنظر هذا المنصف من الحنابلة الذين الخصم متمذهب بمذهبهم،كيف نص على التوجيه بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم نقل كلام ص (4) المغني، وابن حمدان، وذكر أن ابن الجوزي عقد لذلك باباً في كتاب مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، ثم قال: وكذلك نص عليه المالكية، وقد تقدم حكاية القاضي عياض الإجماع، وفي كتاب: تهذيب الطالب (5) ، لعبد الحق الصقلي عن


(1) هو يحي بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن جمعة بن حزام الفقيه الحافظ الزاهد أحد الأعلام شيخ الإسلام محي الدين أبو زكريا النووي، انظرترجمته في طبقات السبكي 5/165 والبداية والنهاية 13/278 وشذرات الذهب 5/354 وطبقات ابن قاض شهبند 2/153.
(2) هو القاضي حسين بن محمد بن أحمد العلامة شيخ الشافعية بخراسان أبو علي المروذي
انظر ترجمته في وفيات الأعيان 2/134-135 وطبقات السبكي 4/356-365 والعبر 3/249 وسير أعلام النبلاء 18/260-362 وطبقات الأسنوي 1/407-408 وطبقات ابن هداية الله 163-164 وشذرات الذهب 3/310 وكشف الظنون 1/424-517 وغيرها.
(3) هو القاضي العلامة فخر الإسلام شيخ الشافعية أبو المحسن عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد الروياني الطبري الشافعي؟
انظر ترجمته في الكامل في التاريخ 10/473 ووفيات الأعيان 3/198-199 والعبر 4/4-5 وطبقات السبكي 7/193 وطبقات الأسنوي 1/565-566 وشذرات الذهب 4/4 وكشف الظنون 1/266-355 وهداية العارفين 1/634 وسير أعلام النبلاء 19-260-262.
(4) هو الشيخ الإمام العلامة الورع شيخ الحنابلة أبو الخطاب محفوظ بن أحمد بن حسن بنحسن العراقي الكلوذاني ثم البغدادي الأزجي، انظر ترجمته في الكامل لابن الأثير 10/524 والعبر 4/21 وسير أعلام النبلاء 19/348-350 وسذرات الذهب 4/27-28.
(5) في كتاب السبكي ” تهذيب الطالب ” وهو خطأ والصحيح ما ها هنا كما في ” معجم المؤلفين 5/94 لعمر رضا كحالة: قال: عبد الحق بن محمد بن هارون السهمي القرشي الصقلي أبو محمد فقيه حج مرات وتوفي بالإسكندرية من تصانيفه: كتاب النكت والفروق لمسائل مدونة وتهذيب الطالب استدراك على مختصر البرادعي وجزء في ضبط ألفاظ المدونة.
(1/258)

الشيخ أبي عمران المالكي، أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم واجبة، قال عبد الحق: يعني من السنن الواجبة.
وهذا الذي نقله المعترض عن هؤلاء الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة بمعزل عما ذكر فيه الشيخ النزاع بين العلماء، فلا حاجة إلى التطويل باستقصاء ذكر كلامهم، وما نقله عبد الحق الصقلي عن الشيخ أبي عمران فيه نظر وإيهام، والوجوب لم يذهب إليه أحد من العلماء، ثم ذكر فرعاً فيمن استؤجر بمال وشرط عليه الزيارة،وحكى فيه بعض كلام المالكية والشافعية، ثم قال: وقد روى القاضي عياض في (الشفاء) .
قال حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأشعري، وأبو القاسم أحمد بن بقي الحاكم وغير واحد فيما أجازونيه، قالوا: حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهاث، حدثنا أبو الحسن علي بن فهر، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج، حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا ابن حميد (1) قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين ملكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله عز وجل أدب قومه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} (الحجرات 002) ومدح قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} (الحجرات 003) وذم قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ} (الحجرات 004) وأن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر، وقال يا ابا عبد الله: استقبل القبلة وأدعو أم استدبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام (إلى الله يوم القيامة) بل استقبله واستشفع به يشفعه الله فيك قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} (النساء 064)
قال المعترض
فانظر هذا الكلام من مالك رحمه الله تعالى، وما اشتمل عليه من الزيارة والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وحسن الأدب معه.
قلت: المعروف عن مالك أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء، وهذه الحكاية التي


(1) هو محمد بن حميد الرازي ولم يشهد القصة ولو شهدها فلا يعتمد عليه فهو ضعيف وكذبه أبو زرعة وابن واره،انظر التوسل ص64 وسيأتي كلام المصنف ونقل أقوال أهل العلم فيه.
(1/259)

ذكرها القاضي عياض ورواها بإسناد عن مالك ليست بصحيحة عنه، وقد ذكر المعترض في موضع من كتابه أن إسنادها إسناد جيد، وهو مخطئ في هذا القول خطأ فاحشاً، بل إسنادها إسناد ليس بجيد، بل هو إسناد مظلم منقطع، وهو مشتمل على من يتهم بالكذب وعلى من يجهل حاله وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته، ولم يسمع من مالك شيئاً ولم يلقه،بل روايته عنه منطقة غير متصلة وقد ظن المعترض أنه أبو سفيان محمد بن حميد المعمري أحد الثقات المخرج لهم في صحيح مسلم قال:فإن الخطيب ذكره في الرواة عن مالك وقد أخطأ فيما ظنه خطأ فاحشاً ووهم وهماً قبيحاً.
فإن ومحمد بن حميد المعمري رجل متقدم لم يدركه يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل راوي الحكاية عن ابن حميد، بل بينهما مفازة بعيدة، وقد روى المعمري عن هشام بن حسان ومعمر الثوري، وتوفي سنة اثنتي وثمانين ومائة قبل أن يولد يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل، وأما محمد بن حميد الرازي فإنه في طبقة الرواة عن المعمري كان خيثمة وابن نمير وعمرو والناقد وغيرهم، وكانت وفاته سنة ثمان وأربعين ومائتين فرواية يعقوب بن إسحاق عنه ممكنة بخلاف روايته عن المعمري، فإنها غير ممكنة، وقد تكلم في محمد بن حميد الرازي، وهو الذي رويت عنه هذه الحكاية من غير واحد من الأئمة ونسبه بعضهم إلى الكذب.
قال يعقوب بن شيبة الدوسي (1) : محمد بن حميد الرازي كثير المناكير، وقال البخاري (2) ، حديثه فيه نظر، وقال النسائي (3) ليس بثقة، وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني (4) : رديء المذهب غير ثقة، وقال فضلك الرازي (5) عندي عن ابن حميد خمسون ألف حديث، لا أحدث عنه بحرف، وقال أبو العباس أحمد بن محمد الأزهري (6) : سمعت إسحاق بن منصور يقول: أشهد على محمد بن حميد وعبيد بن إسحاق العطار بين يدي الله أنهما كذابان، وقال صالح بن محمد الحافظ (7) : كان كل ما


(1) انظر كلامه في التهذيب 9/129.
(2) انظر التاريخ الكبير 1/69 والضعفاء الصغير له ص205 رقم 315.
(3) الضعفاء والمتروكين ص32.
(4) انظر أحوال الرجال ص207 رقم 382.
(5) انظر التهذيب 9/129
(6) انظر التهذيب 9/129
(7) انظر التهذيب 9/129.
(1/260)

بلغه من حديث سفيان يحيله على مهران وما بلغه من حديث منصور يحيله على عمرو بن (أبي) قيس، وما بلغه من حديث الأعمش يحيله على مثل هؤلاء وعلى عنبسة، ثم قال: كل شيء كان يحدثنا ابن حميد كنا نتهمه فيه.
وقال في موضع آخر: كانت أحاديثه تزيد وما رأيت أحد أجرأ على الله منه كان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضها على بعض، وقال في موضع آخر: ما رأيت أحداً أحذق بالكذب من رجلين: سليمان الشاذكوني، ومحمد بن حميد الرازي كان يحفظ حديثه كله، وكان حديثه كل يوم يزيد، وقال أبو القاسم: عبد الله بن محمد بن عبد الكريم الرازي ابن أخي أبي زرعة: سألت أبا زرعة عن محمد بن حميد فأومأ بأصبعه إلى فمه فقلت له: كان يكذب؟ فقال: برأسه: نعم.
فقلت له (كان) قد شاخ لعله يعمل عليه ويدلس عليه؟ فقال: لا، بني كان يتعمد وقال أبو حاتم (1) الرازي: حضرت محمد بن حميد وحضره عون بن جرير، فجعل ابن حميد يحدث بحديث عن جرير فيه شعر فقال عون: ليس هذا الشعر في الحديث، إنما هو من كلام أبي فتغافل ابن حميد فمر فيه.
وقال أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي (2) : سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الرازي في منزله، وعنده عبد الرحمن بن يوسف بن خراش، وجماعة من مشايخ أهل الرأي وحفاظهم للحديث، فذكروا ابن حميد فأجمعوا على أنه ضعيف في الحديث جداً وأنه يحدث بما لم يسمعه، وأنه يأخذ أحاديث لأهل البصرة والكوفة فيحدث بها عن الرازيين. وقال ابن عباس بن سعيد: سمعت داود بن يحي يقول: حدثنا عنه يعني محمد بن حميد أبو حاتم قديماً، ثم تركه بآخره، قال: سمعت عبد الرحمن بن يوسف بن خراش، يقول حدثنا ابن حميد، وكان والله يكذب.
وقال أبو حاتم بن حبان البستي في كتاب الضعفاء (3) : محمد بن حميد الرازي كنيته أبو عبد الله: يروي عن ابن المبارك وجرير، حدثنا عنه شيوخنا مات سنة ثمان وأربعين ومائتين، كان ممن ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات، ولا سيما إذا حدث عن شيوخ


(1) انظر الجرح والتعديل 7/232 – 233.
(2) انظر الكامل 6/2277.
(3) 2/303.
(1/261)

بلده، سمعت إبراهيم بن عبد الواحد البغدادي، يقول: قال صالح بن أحمد بن حنبل كنت يوماً عند أبي إذ دق عليه الباب، فخرجت فإذا أبو زرعة ومحمد بن مسلم بن واره يستأذنان على الشيخ فدخلت وأخبرته فأذن لهم فدخلوا وسلموا عليه فأما ابن واره فباس يده فلم ينكر عليه ذلك، وأما أبو زرعة، فصافحة فتحدثوا ساعة فقال ابن واره: يا أبا عبد الله إن رأيت تذكر حديث أبي القاسم بن أبي الزناد فقال: نعم حدثنا أبو القاسم ابن أبو الزناد عن إسحاق بن حازم، عن ابن مقسم يعني عبيد الله، عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر؟ فقال: ((الطهور ماؤه، الحلال ميتته)) وقام فقالوا: ما له قلنا شك في شيء ثم خرج والكتاب بيده فقال في كتابه ميته بتاء واحدة والناس يقولون ميتته، ثم تحدثوا ساة فقال له ابن واره: يا أبا عبد الله رأيت محمد بن حميد، قال نعم، قال: كيف رأيت حديثه؟ قال: إذا حدث عن العراقيين يأتي بأشياء مستقيمة، وإذا حدث عن أهل بلده مثل إبراهيم بن المختار وغيره أتى بأشياء لا تعرف لا يدري ما هي.
قال: فقال أبو زرعة وابن واره: صح عندنا أنه يكذب، قال: فرأيت أبي بعد ذلك إذا ذكر ابن حميد نفض يده.
وقال العقيلي في كتاب الضعفاء (1) : حدثني إبراهيم بن يوسف، قال: كتب أبو زرعة ومحمد بن مسلم، عن محمد بن حميد، حديثاً كثيراً، ثم تركا الرواية عنه، وقال الحاكم أبو أحمد في كتاب الكنى: أبو عبد الله محمد بن حميد الرازي ليس بالقوي عندهم تركه أبو عبد الله بن يحيى الذهلي، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة.
فإذا كانت هذه حال محمد بن حميد الرازي عند أئمة هذا الشأن، فكيف يقال في حكاية رواها منقطعة: إسنادها جيد مع أن في طريقها إليه من ليس بمعروف.
وقد قال المعترض بعد أن ذكر هذه الحكاية، وتكلم على رواتها: فانظر هذه الحكاية وثقة رواتها وموافقتها، لما رواه ابن وهب عن مالك، هكذا قال، والذي حمله على ارتكاب هذه السقطة قلة علمه ومتابعته هواه، نسأل الله التوفيق.
والذي ينبغي أن يقال: فانظر هذه الحكاية وضعفها وانقطاعها وتكارتها وجهالة بعض رواتها ونسبة بعضهم إلى الكذب ومخالفتها لما ثبت عن مالك وغيره من العلماء.
وقد قال شيخ الإسلام في كتاب: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب


(1) 4/61.
(1/262)

الجحيم (1) ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي أو غير نبي لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم،وعلى صاحبه واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، لا يستقبل قبره وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره ويسلم عليه وهو الذي ذكره أصحاب الشفاعي، وأظنه منصوباً عنه، وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة ويسلم عليه هكذا في كتب أصحابه.
وقال مالك فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في المبسوط، والقاضي عياض وغيرهما: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ولكن يسلم ويمضي، وقال أيضاً في المبسوط: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو له ولأبي بكر وعمر (2) ، فقيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة، أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة والمرتين، أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.
وقد تقدم في ذلك من الآثار عن السلف والأئمة ما يوافق هذا، ويؤيده من أنهم كانوا إنما يستحبون عند قبره ما هو من جنس الدعاء له والتحية كالصلاة والسلام ويكرهون قصده للدعاء والوقوف عنده للدعاء،ومن يرخص منهم في شيء من ذلك، فإنه إنما يرخص فيما إذا سلم عليه، ثم أراد الدعاء أن يدعو مستقبلاً القبلة، إما مستدبراً القبر، وإما منحرفاً عنه، وهو أن يستقبل القبلة ويدعوا ولا يدعو مستقبلاً القبر،وهكذا المنقول عن سائر الأئمة ليس في أئمة المسلمين من استحب للمرء أن يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده.
وهذا الذي ذكرناه عن مالك والسلف يبين حقيقة الحكاية المأثورة عنه، وهي الحكاية التي ذكرها القاضي عياض عن محمد بن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله أدب قوماً فقال {أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} (الحجرات 002)


(1) ص393-394.
(2) في اقتضاء الصراط المستقيم ص394 ويصلي عليه ويدعو لأبي بكر وعمر.
(1/263)

الآية … وذكر باقي الحكاية، ثم قال: فهذه الحكاية على هذا الوجه، إما أن تكون ضعيفة، أو مغيرة، وإما أن تفسر بما يوافق مذهبه، إذا قد يفهم منها ما هو خلاف مذهبه المعروف بنقل الثقات من أصحابه، فإنه لا يختلف مذهبه أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء وقد نص على أنه لا يقف عند الدعاء مطلقاً، وذكر طائفة من أصحابه أنه يدنوا من القبر ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو مستقبلاً القبلة،ويوليه ظهره وقيل: لا يوليه ظهره.
فاتفقوا في استقبال القبلة وتنازعوا في تولية القبر ظهره، وقت الدعاء ويشبه والله أعلم أن يكون مالك رحمه الله سئل عن استقبال القبر عند السلام عليه،وهو يسمى ذلك دعاء، فإنه قد كان من فقهاء العراق من يرى أنه عند السلام عليه يستقبل القبلة أيضاً، ومالك يرى استقبال القبر في هذه الحال كما تقدم، وكما قال في رواية ابن وهب عنه: إذا سلك على النبي صلى الله عليه وسلم يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنوا ويسلم ويدعو ولا يمس القبر بيده، وقد تقدم قوله أنه يصلي عليه ويدعو له.
ومعلوم أن الصلاة عليه والدعاء له يوجب شفاعته للعبد يوم القيامة، كما قال في الحديث الصحيح: (0 إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة (1) ، فقول مالك في هذه الحكاية: إن كان ثابتاً عنه معناه أنك إذا استقبلته وصليت عليه وسلمت عليه، وسألت الله له الوسيلة يشفع فيك يوم القيامة، فإن الأمم يوم القيامة يتوسلون بشفاعته واستشفاع العبد به في الدنيا هو فعلما يشفع به له يوم القيامة كسؤال الله تعالى له الوسيلة ونحو ذلك.
وكذلك ما نقل عنه من رواية ابن وهب، إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجه إلى القبر لا إلى القبلة،ويدعوا ويسلم، يعني دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فهذا هو المشروع هناك كالدعاء عند زيارة قبور سائر المؤمنين وهو الدعاء لهم، فإنه أحق الناس أن يصلي عليه ويسلم عليه، ويدعي له بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم وبهذا تتفق أقوال مالك ويفرق بني الدعاء الذي أحبه، والدعاء الذي كرهه وذكر أنه بدعة، وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية: ((ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم)) الآية فهو والله أعلم باطل، فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلم، ولم يذكر أحد منهم أنه يستحب أن يسأل بعد الموت لا استغفاراً ولا


(1) تقدم تخريجه.
(1/264)

غيره وكلامه المنصوص عنه وعن أمثاله يتنافى هذا، وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتلا هذه الآية وأنشد بيتين:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه … فطاب من طبيهن القاع والأكم
نفس الغداء لقبر أنت ساكنه … فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد مثل ذلك واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً، لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم، بل قضاء الله حاجة مثل هذا الأعرابي وأمثاله ولها أسباب قد بسطت في غير هذا الموضع، وليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعاً مأموراً به، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلاً، وتكون المسألة محرمة في حق السائل حتى قال: ((إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها ناراً)) قالوا: يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: ((يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل)) (1) .
وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحاً ولا يكون عالماً أنه منهي عنه فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه لعدم علمه،وهذا باب واسع وعامة العبادات المبتدعة المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس يحصل له بها نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة، ولو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهى عنها، ثم الفاعل قد يكون متأولاً،أو مختطئاً، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أنه قد علم أن مالكاً من أعلم الناس بمثل هذه الأمور، فإنه مقيم بالمدينة يرى ما يفعله التابعون وتابعوهم ويسمع ما ينقلون عن الصحابة وأكابر التابعين، على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستسقى بالعباس، ففي صحيح البخاري (2) عن أنس أن عمر استسقى بالعباس، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا


(1) رواه أحمد في مسنده 4/3 من حديث أبي سعيد بسند صحيح.
(2) أخرجه البخاري 2/494 رقم 1010 وأنظره أيضاً برقم 3710.
(1/265)

نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون فاستسقوا به، كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته.
وهم إنما كانوا يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم فيدعو لهم ويدون معه كالإمام والمأمومين من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق ولما مات صلى الله عليه وسلم توسلوا بدعاء العباس واستسقوا به، ولهذا قال الفقهاء، يستحب الاستسقاء بأهل الخيل والدين والأفضل أن يكونوا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد استسقى معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي، وقال اللهم إنا نستسقي إليك بيزيد بن الأسود، يا يزيد الرفع يديك فرفع يديه ودعا ودعا الناس حتى أمطروا، ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر نبي ولا غيره يستسقي عنده، ولا به العلماء استحبوا السلام على النبي صلى الله عليه وسلم للحديث الذي في سنن أبي داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) (1) .
هذا مع ما في النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام)) (2) وفي سنن أبي داود وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أكثروا علي من الصلاة وليلة الجمعة ويوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي)) فقالوا يا رسول الله: كيف تعرض صلاتنا وقد أرمت أي بليت، فقال: ((إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء)) (3) .
فالصلاة عليه بأبي وأمي والسلام عليه مما أمر الله به ورسوله: وقد ثبت في الصحيح أنه قال: ((من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً، والمشروع لنا عند زيارة الأنبياء والصالحين وسائر المؤمنين هو من جنس المشروع عند جنائزهم، فكما أن المقصود بالصلاة على الميت الدعاء له، فالمقصود بزيارة قبره الدعاء له كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح والسنن والمسند أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: ((السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا


(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه النسائي في سننه كتاب السهو – باب السلام على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم 3/43 وأخرجه أيضاً الدارمي 1/317 وأحمد في مسنده 1/387، 441، 452 وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي رقم 21 جميعاً في حديث ابن مسعود لكنه لفظه، ((وإن لله ملائكة سياحين يبلغونني من أمتي السلام)) وسنده صحيح.
(3) تقدم تخريجه.
(1/266)

ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم (1) ، فهذا دعاء خاص للميت كما في دعاء الصلاة على الجنازة، الدعاء العام والخاص.
وقال الشيخ: وقد قال الله تعالى في حق المنافقين: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} (التوبة 084)
الآية فلما نهى سبحانه نبيه عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم لأجل كفرهم، دل ذلك بطريق التعليل والمفهوم على أن المؤمن يصلي عليه، ويقام على قبره، ولهذا جاء في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الرجل من أصحابه يقوم على قبره ثم يقول: ((سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل)) (2) .
فأما أن يقصد بالزيارة سؤال الميت والإقسام به على الله أو استجابة الدعاء عند تلك البقعة، فهذا لم يكن من فعل أحد من سلف الأمة لا الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان وإنما حدث ذلك بعد ذلك، بل قد كره مالك وغيره من العلماء أن يقول القاتل زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم يم حكى ما ذكره القاضي عياض في تأويل قول مالك هذا وسيأتي.
قال المعترض
وقال القاضي عياض: قال أين حبيب: ويقول: إذا دخل مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بسم الله وسلام على رسول الله، السلام علينا من ربنا وصلى الله وملائكته على محمد اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك وجنتك واحفظني من الشيطان الرجيم ثم أقصد إلى الروضة وهي ما بين القبر والمنبر فأركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر، ثم تقف بالقبر متواضعاً متوقراً فتصلي عليه وتثني عليه، بما يحضرك وتسلم على أبي بكر وعمر وتدعو لهما، ولا تدع أن تأتي مسجد قباء وقبور الشهداء.
ثم ذكر ما تقدم ذكره غير مرة مما حكاه القاضي عياض في الشفا عن مالك وبعض أصحابه في الصلاة والسلام عليه، ثم قال فهذه نقول المذاهب الأربعة، وكذلك غيرهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فقد صح من وجوه كثيرة عن عبد الله بن عمر أنه كان يأتي القبر فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم روى بإسناده إلى دعلج قال: أنبأنا محمد بن علي بن


(1) تقدم الكلام على بعض أحاديث الزيارة صفحة 31 حاشية (1) .
(2) أخرجه أبو داود 3/550 رقم 3221 من حديث عثمان بإسناد جيد.
(1/267)

زيد الصائغ، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يأتي البر فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر، قال دعلج: هذا الحديث في الموطأ عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.
قلت: وما ذكره المعترض من نقول المذاهب الأربعة وغيرهم هو في غير المحل الذي ذكر الشيخ فيه النزاع بين العلماء كما بيناه غير مرة، وما نقله عن ابن عمر رضي الله عنهما من التسليم وإتيان القبر، فهو عند القدوم من سفر، كما تقدم ذكره مراراً وقد روى عبد الرزاق في مصنفه (1) ، عن معمر، عن أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه.
قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر فقال: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر. وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: حدثنا علي، حدثنا سفيان قال: حدثني عبد الله بن دينار قال: رأيت ابن عمر إذا قدم من سفر دخل المسجد فقال: السلام عليك يا رسول الله السلام على أبي بكر على أبي ويصلي ركعتين (2) .
حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر دخل المسجد، ثم أتى القبر فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه وهذا إنما يعرف عن ابن عمر وحده كما قاله عبيد الله بن عمر وغيره.
قال شيخ الإسلام (3) : وروى الشيخ الصالح شيخ العراق في زمنه عند الخاصة والعامة أبو الحسن علي بن عمر القزويني في أماليه عن عبد الله الزهري، عن أبيه عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن نوح بن يزيد قال: حدثنا أبو إسحاق، يعني إبراهيم بن سعد – قال: ما رأيت أبي قط يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكان يكره إتيانه، قال الشيخ نوح بن


(1) انظر المصنف 3/576
(2) أخرجه إسماعيل القاضي ص81-82 رقم 99 وسنده صحيح.
(3) انظر الرد على الأخنائي ص170
(1/268)

يزيد بن يسار المؤدب: هذا الراوي عن إبراهيم بن سعد هو ثقة معروف بصحة إبراهيم وله اختصاص به، روى عنه أحمد بن حنبل (1) .
قلت: وروى أبو داود عن محمد بن يحيى الذهلي عنه، قال أبو بكر الأثرم: ذكر لي أبو عبد الله نوح بن يزيد المؤدب فقال: هذا شيخ كيس أخرج إلى كتاب إبراهيم بن سعد فرأيت فيه ألفاظاً.
قال أبو عبد الله: نوح لم يكن به بأس كان مستثبتاً، وقال محمد بن المثنى البزار: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: أكتب عنه فإنه ثقة حج مع إبراهيم بن سعد، وكان يؤدب ولده (2) ، وقال محمد بن سعد (3) ، كان ثقة فيه عسر، وقال النسائي (4) : ثقة وذكر ابن حبان في كتاب الثقات (5) ، قال: وأما إبراهيم بن سعد فإنه من أكابر علماء المدينة وأكثرهم علماً وأوثقهم، وكان قد خرج إلى بغداد روى عنه الشافعي وأحمد بن حنبل وطبقتها (6) ، ومن سعة علمه روى عنه الليث بن سعد وهو أقدم وأجل منه.
وأما أبوه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري الذي ذكر عنه ابنه إبراهيم أنه قال: مارأيت أبي قط يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يكره إتيانه، فهو من أفضل أهل المدينة في زمن التابعين (7) ومن أصلحهم وأعبدهم، وكان قاضي المدينة في زمن التابعين، وقد أدرك بناء الوليد بن عبد الملك للمسجد وإدخال الحجرة فيه، وأدرك ما كان عليه السلف قبل ذلك من الصحابة والتابعين
قال أبو حاتم بن حبان البستي (8) : هو من جلة أهل المدينة وقدماء شيوخهم، كان على القضاء بها، وقد ذكروا أنه رأى عبد الله بن عمر، وروى عن عبد الله بن حفر، وقد خرج من المدينة غير مرة، تارة إلى الحج، وتارة كان قد استعمل على الصدقات، ومرة


(1) في الرد على الأخنائي زيادة (وأبو داود وغيرهما) .
(2) كلام أحمد انظره في التهذيب 10/489.
(3) انظر الطبقات 7/362
(4) انظر التهذيب 10/489.
(5) لم أقل على كلامه في الثقات.
(6) في الرد على الأخنائي (روى عنه الناس أحمد بن حنبل وطبقتهما) .
(7) في الرد على الأخنائي بعد قوله: في زمن التابعين ما لفظه: (في زمن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأمثاله) .
(8) في الرد على الأخنائي الرازي بدلاً من البستي ولم أقف على كلامه في الثقات.
(1/269)

خرج على العراق، وروى عنه سفيان الثوري وشعبة والعراقيون، وقد أدرك المدينة جابر بن عبد الله، وسهل بن سعد وغيرهما من الصحابة، ورأى أكابر التابعين مثل سعيد بن المسيب، وسائر الفقهاء السبعة وغيرهم، ومعلوم أنه لم يكن ليخالفهم فيما اتفقوا عليه، بل لقد يخالف ابن عمر، فإن ما نقله عنه ابنه يقتضي أنه لا يأتيه لا عند السفر ولا غيره بل يكره إتيانه مطلقاً، كما كان جمهور الصحابة على ذلك لما فهموا من نهيه عن ذلك وأنه أمر بالصلاة عليه والسلام في كل زمان ومكان، وقال: ((لا تتخذوا قبري عيداً)) وقال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)) كما قد بين هذا في مواضع والله أعلم.
قال المعترض
وقال عبد الرزاق في مصنفه (1) ، باب السلام على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وروى فيه آثار منها بإسناد صحيح أن ابن عمر كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه)) .
هكذا ذكره المعترض من مصنف عبد الرزاق، ولم يذكر في آخره ما رواه عبد الرزاق بن محمد، عن عبيد الله بن عمر أنه قال: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر، ولو ذكر قوله عبيد الله عقيب ذكر ما روى عن ابن عمر في ذلك، كما فعله عبد الرزاق، لكان أحسن وأتم فائدة، ولكن المعني الذي ترك ذكره لأجله مفهوم وعبيد الله بن عمر هو العمري الكبير، وكان من سادات أهل المدينة وأشراف قريش فضلاً وعلماً وعبادة، وشرفاً، وحفظاً، وإتقاناً، وكان في زمن التابعين.
وروى عن خلق منهم كسالم بن عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، ونافع مولى ابن عم ر وسعيد المقيري، وثابت البنائي وعبد الله بن دينار، وعطاء بن أبي رباح، ومحمد بن المنكدر، وأبي الزبير المكي، ووهب بن كيسان وأبي حازم سلمة بن دينار الأعرج وعمرو بن دينار والزهري وغيرهم.
وروى عنه مثل سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وابن جريح، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك، والليث بن سعد ومعمر بن راشد وزائدة بن قدامة وعبد الله بن إدريس، وعيسى بن يونس، وفضيل بن عياض، ويحيى بن سعيد القطان وأشباههم وأمثالهم من الأئمة الأعلام.


(1) 3 / 576.
(1/270)

وقد قال جعفر بن محمد بن أبي عثمان الطيالسي (1) : سمعت يحيى بن معين يقول: عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة: الذهب المشبك بالدر، فلقت له هو أحب إليك أو الزهري عن عروة عن عائشة؟ فقال: هو أحب إلي.
وقال أبو حاتم (2) : سألت أحمد بن حنبل عن مالك وعبيد الله بن عمر وأيوب أيهم أثبت في نافع؟ فقال: عبد الله أثبتهم وأحفظهم وأكثرهم رواية، وقال علي بن الحسن الهسنجاني: سمعت أحمد بن صالح يقول: عبيد الله بن عمر أحب إلي من مالك في حديث نافع.
وقال قطن بن إبراهيم النيسابوري، عن الحسين بن الوليد النيسابوري: كنا عند مالك بن أنس فقال: كنا عند الزهري ومعنا عبيد الله بن عمر ومحمد بن إسحاق، فأخذ الكتاب محمد بن إسحاق فقرأ فقال: أنتسب، فقال: أنا محمد بن إسحاق بن يسار، فقال: ضع الكتاب في يدك، قال فأخذه مالك، فقال: أنتسب؟ فقال: أنا مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الاصبحي، فقال: ضع الكتاب من يدك، قال: فأخذ عبيد الله بن عمر الكتاب، فقال: أنتسب، فقال: أنا عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، فقال له، اقرأ فجميع ما سمع أهل المدينة يومئذ قراءة عبيد الله بن عمر.
وروى عن سفيان بن عيينة قال: علينا عبيد الله بن عمر الكوفة فاجتمعوا عليه فقال: شتم العلم وأذهبتم نوره، لو أدركنا عمر وإياكم، أوجعنا وإياكم ضرباً، وقال أبو حاتم بن حبان البستي (3) : عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عثمان من أشراف قريش وأفاضل أهل المدينة ومتقنيهم، مات سنة أربع أو خمس وأربعين ومائة.
فقد تبين أن عبيد الله بن عمر كان من كبار علماء أهل المدينة وقد أخذ العلم عن خلق من التابعين وأتباعهم، وقد أدرك جماعة من كبار التابعين، وأدرك ما كان عليه


(1) أنظر التهذيب 7/39.
(2) انظر الجرح والتعديل 5/326.
(3) انظر الثقات 7/149 والكلام هنا مختصر.
(1/271)

السلف، وهو من أقارب عبد الله بن عمر، وقد قال فيما فعله ابن عمر: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر، فلو كان ما فعله ابن عمر مأثوراً عن غيره أو منقولاً عن أحد من الصحابة والتابعين لم يخف على عبيد الله بن عمر وغيره من العلماء أهل المدينة الذين هم أعلم الناس بهذا الشأن والله أعلم.
قال المعترض
وروى عبد الرزاق في هذا الباب أيضاً أن سعيد بن المسيب رأى قوماً يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين يوماً، ثم روى عبد الرزاق فيه قوله: ((مررت بموسى ليلة أسري بي وهو قائم يصلي في قبره)) كأنه قصد بذلك رد ما روي عن سعيد بن المسيب، وهو رد صحيح، وما ورد عن ابن المسيب ورد فيه حديث نذكره في باب حياة الأنبياء، وقد روي عثمان بن عفان أنه لما حصر أشار بعض الصحابة عليه بأن يلحق بالشام فقال:لن أفارق دار هجرتي، ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وهو مخالف لما قال ابن المسيب وهو الصحيح، وكذلك ما ذكرناه عن ابن عمر ثم لو صح قول ابن المسيب لم يمنع من استحباب زيارة القبر لشرفه بحلوله فيه ونسبته إليه كما قال الشاعر:
أمر على الديار ديار ليلى … أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي … ولكن حب من سكن الديارا
قلت: هذا الذي رواه عبد الرزاق عن ابن المسيب لم يتابع عليه ابن المسيب، بل في صحته عنه نظر، وما بناه المعترض عليه على تقدير صحته عنه، ليس بمقبول منه، بل هو بناء ضعيف على ضعيف، ولم يذكر البيهقي في الجزء الذي جمعه في حياة الأنبياء بعد وفاتهم قول ابن المسيب هذا وإنما روى بإسناد ضعيف غير ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون بين يدي الله عز وجل حتى ينفخ في الصور، وسنذكر علة هذا الحديث وسبب ضعفه فيما بعد إن شاء الله تعالى وقد روى نحو هذا الحديث من وجه آخر بزيادة يختلف بها المعنى.
قال: أبو حاتم بن حبان البستي في كتاب المجروحين (1) : أخبرنا الحسن بن سفيان


(1) انظر المجروحين لابن حبان 1/235.
(1/272)

حدثنا هشام بن خالد الأزرق، حدثنا الحسن بن يحيى الخشني، عن سعيد بن عبد العزيز، عن يزيد بن أبي مالك، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحاً حتى ترد إليه روحه)) .
هكذا رواه بهذه الزيادة، وقال هذا خبر باطل موضوع، والحسن بن يحيى الخشني منكر الحديث جداً؛ يروي عن الثقات ما لا أصل له، وعن المتقنين ما لا يتابع عليه، وقال النسائي (1) : الحسن بن يحيى الخشني ليس بثقة، وقال الدارقطني (2) : متروك، وقال عبد الغني بن سعيد المصري (3) : ليس بشيء، وذكر أبو الحسن بن الزاغوني في بعض كتبه حديثاً متنه: ((إن الله لا يترك نبياً في قبره أكثر من نصف يوم)) .
وحكى عن بعضهم أنه قال: أراد به نصف يوم من أيام الدنيا، ثم يعيد أرواحهم إلى أجسادهم فيكونون أحياء في قبورهم،وعن بعضهم أن المراد به نصف يوم من أيام الآخرة، وهذا الحديث الذي ذكره الزاغوني حديث منكر غير صحيح، وسنذكر ما ورد في هذا الباب، والكلام عليه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وسعيد بن المسيب رضي الله عنه، وإن كامن من سادات التابعين علماً وعملاً وزهداً وورعاً، فهذا الذي رواه عبد الرزاق عنه لا يعرف عن غيره من الصحابة والتابعين وأتباعهم، وعبد الرزاق يرويه عن الثوري عن أبي المقدام عنه، ولم يذكر الثوري السماع في روايته، وأبو المقدام هو ثابت بن هرمز (4) الكوفي الحداد والد عمرو بن أبي المقدام، وهو شيخ صالح لكن ما تفرد به ولم يتابعه غير عليه لا ينبغي أن يقبل منه، والله أعلم.
قال المعترض
فإن قلت: قد كره مالك رحمه الله تعالى أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: قال القاضي عياض، وقد اختلف في معنى ذلك فقيل كراهية الاسم لما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم ((لعن اله زوارات القبور، وهذا يرده قوله ((كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزروها))


(1) انظر الضعفاء والمتروكين للنسائي ص87 رقم 152.
(2) انظر الضعفاء والمتروكين للدارقطني ص82 رقم 190، وانظر التاريخ الكبير 2/309 والجرح والتعديل 3/44 والميزان 1/534 والمغني 1/168 والكاشف 1/167 والتهذيب 2/326.
(3) انظر التهذيب 2/326.
(4) قال فيه أحمد ثقة، وقال ابن معين ثقة وقال أبو حاتم صالح، أنظر الجرح والتعديل 2/459 وقال فيه التقريب: صدوق يهم.
(1/273)

وقوله: ((من زار قبري)) فقد أطلق اسم الزيارة وقيل: لأن ذلك لما قيل: إن الزائر أفضل من المزور، وهذا أيضاً ليس بشيء إذ ليس كل زائر بهذه الصفة وليس عموماً.
وقد ورد في حديث أهل الجنة زيارتهم لربهم ولم يمنع هذا الفظ في حقه والأولى عندي أن منعه وكراهة مالك له لإضافة إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لو قال: زرنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (1) فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبيه بفعل أولئك قطعاً للذريعة، وحسماً للباب والله أعلم.
قال المعترض: هذا كلام القاضي وما اختاره يشكل عليه قوله: ((من زار قبري)) فقد أضاف الزيارة إلى القبر إلا أن يكون هذا الحديث لم يبلغ مالكاً فحينئذ يحسن ما قاله القاضي في الاعتذار عنه، لا في إثبات هذا الحكم في نفس الأمر، ولعله يقول: إن ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم لا محذور فيه، والمحذور إنما هو ف يقول غيره.
قلت: هذا الإشكال الذي ذكره المعترض على كلام القاضي ليس بشيء، وما ذكره من الخبر الذي فيه إضافة الزيارة إلى قبره ليس بثابت عند مالك ولا في نفس الأمر، بل هو حديث ضعيف غير ثابت عن أهل العلم بالحديث، كما قد بينا ذلك فيما تقدم،ولو كان ثابتاً لم يحسن من عالم أنيف رق في إطلاق لفظه بين كونه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أومن قول غيره كما ذكره.
ثم قال: وقد قال عبد الحق الصقلي، عن أبي عمران المالكي أنه قال: إنما كره مالك أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم لأن الزيارة من شاء فعلها، ومن شاء تركها وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم واجبة.
قال عبد الحق: يعني من السنن الواجبة ينبغي أن لا تذكر الزيارة فيه كما تذكر في زيارة الأحياء الذين من شاء زارهم ومن شاء ترك، والنبي صلى الله عليه وسلم أشرف وأعلى من أن يسمى أنه يزار.
قال المعترض: وهذا الجواب بينه وبين جواب القاضي بون في شيئين: أحدهما أنه يقتضي تأكيد نسبة معنى الزيارة إلى القبر، وأنه يجتنب لفظها، وجواب القاضي يقتضي عدم نسبتها إلى القبر.


(1) تقدم تخريجه.
(1/274)

والثاني أنه يقتضي التسوية في كراهية اللفظ بين قوله زرت القبر وقوله وزرت النبي صلى الله عليه وسلم وجواب القاضي يقتضي الفرق بينهما.
قلت: هذا الذي قال أبو عمران المالكي لم يتابع عليه، بل هو متضمن للغلو والكلام بغير حجة، ولم يذهب أحد من أهل العلم المتقدمين منهم والمتأخرين إلى القول بوجوب الزيارة، وإنما كره مالك والله أعلم إطلاق هذا اللفظ لأنه لم يثبت عنده فيه حديث، ولم يصح فيه عنده خبر بخصوص، وقد ذكرنا الأحاديث المروية في ذلك وبينا عللها وسبب ضعفها وعدم ثبوتها، ولأن هذا اللفظ قد صار يستعمل في عرف كثير من الناس في الزيارة الشرعية، ولأن زيارة قبره لا يتمكن منها أحد كما يتمكن من الزيارة المعروفة عند قبر غيره.
قال الشيخ رحمه الله تعالى في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم (1) بعد أن ذكر قول مالك وما تأوله القاضي عياض به قلت: غلب في عرف كثير من الناس استعمال لفظ زرنا في زيارة قبور الأنبياء والصالحين على استعمال لفظ زيارة القبور في الزيارة البدعية الشركية، لا في الزيارة الشرعية، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روى أحد في ذلك شيئاً لا أهل الصحاح، ولا أهل السنن، ولا الأئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره.
وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره، وأجل حديث روي في ذلك حديث رواه الدارقطني (2) وهو ضعيف باتفاق أهل العلم، بل الأحاديث المروية في زيارة قبره كقوله ((من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة)) و ((من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي، ومن حج ولم يزرني فقد جفاني)) (3) ونحو هذه الأحاديث كلها مكذوبة وموضوعة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور مطلقاً بعد أن كان قد نهى عنها، كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) (4) وفي الصحيح عنه أنه قال: ((استأذنت ربي في أن استغفر لأمي، فلم يأذن


(1) 2/763 – 764 التي حققها الدكتور العقل.
(2) قال النووي في المجموع 8/481 وهذا باطل ليس هو مروياً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يعرف في كتاب صحيح ولا ضعيف بل وضعه بعض الفجرة أهـ وقد تقدم هذا.
(3) انظر المقاصد الحسنة ص427-428 وكشف الخفاء 2/346، 347،348 والفوائد المجموعة 117-118.
(4) تقدم تخريجه.
(1/275)

لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)) (1) فهذه زيارة لأجل تذكرة الآخرة.
ولهذا تجوز زيارة قبر الكافر لأجل ذلك،وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرج إلى البقيع فيسلم على موتى المسلمين ويدعو لهم، فهذه زيارة مختصة بالمسلمين، كما أن الصلاة على الجنازة تختص بالمؤمنين.
وقال أيضاً في أثناء كلامه في بعض مصنفاته المتأخرة (2) : وذلك أن لفظ زيارة قبره ليس المراد بها نظير المراد بزيارة قبر غيره، فإن قبر غيره يوصل إليه ويجلس عنده ويتمكن الزائر مما يفعله الزائرون للقبور عندها من سنة ويدعه.
وأما هو صلى الله عليه وسلم فلا سبيل لأحد أن يصل إلا إلى مسجده لا يدخل أحد بيته ولا يصل إلى قبره، بل دفنوه في بيته بخلاف غيره، فإنهم دفنوه في الصحراء، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في مرض موته: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (3) يحذر ما فعلوا قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره، لكن كره أن يتخذ مسجداً فدفن في بيته لئلا يتخذ قبره مسجداً ولا وثناً ولا عيداً، فإن في سنن أبي داود من حديث أحمد بن صالح عن عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن أبي صالح عن عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (4) .
وفي الموطأ وغيره عنه أنه قال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (5) .
وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: قبل أن يموت بخمس: ((أن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)) فلما لعن من يتخذ القبور مساجد تحذيراً لأمته من ذلك ونهاهم أن يتخذوا قبره عيداً، دفن في حجرته


(1) تقدم تخريجه.
(2) انظر الرد على الأخنائي ص136.
(3) أخرجه البخاري 1/532 وأخرجه في مواضع كثيرة ومسلم 1/377.
(4) تقدم تخريجه.
(5) تقدم تخريجه.
(1/276)

لئلا يتمكن أحد من ذلك، وكانت عائشة ساكنة فيها، فلم يكن في حياتها يدخل أحد لذلك، إنما يدخلون إليها هي، ولما توفيت لم يبق بها أحد، ثم لم أدخلت في المسجد سدت وبنى الجدار البراني عليها، فما بقي أحد يتمكن من زيارة قبره، كالزيارة المعروفة عند قبر غيره، سواء كان سنية أو بدعية، بل إنما يصل الناس إلى مسجده.
ولم يكن السلف يطلقون على هذا زيارة لقبره، ولا يعرف عن أحد من الصحابة لفظ زيارة قبر البتة ولم يتكلموا بذلك، وكذلك عامة التابعين لا يعرف هذا في كلامهم فإن هذا المعنى ممتنع عندهم فلا يعبر عن وجوده، وهو قد نهى عن اتخاذ بيته وقبره عيداً، وسأل الله أن لا يجعله وثناً، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد بيته وقبره عيداً، وسأل الله أن لا يجعله وثناً، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد، فقال: ((اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (1) ، ولهذا كره مالك وغيره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان السلف ينطقون بهذا لم يكرهه مالك، وقد باشر التابعين بالمدينة،وهم أعلم الناس بمثل ذلك.
ولو كان في هذا حديث معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم لعرفه هؤلاء، ولم يكره مالك وأمثاله من علماء المدينة الأخبار بلفظ تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان رضي الله عنه يتحرى ألفاظ الرسول في الحديث فيكف يكره النطق بلفظه؟ ولكن طائفة من العلماء سموا هذا زيارة لقبره، وهم لا يخالفون مالكاً ومن معه في المعنى، بل الذي يستحبه أولئك من الصلاة والسلام وطلب الوسيلة ونحو ذلك في مسجده يستحبه هؤلاء، لكن هؤلاء سموا هذه زيارة لقبره وأولئك كرهوا أن يسموا هذه زيارة، وقد ذكرنا كلام الشيخ هذا وأمثاله في هذا المعنى فيما تقدم، والله أعلم.
قال المعترض
وقد قال أبو الوليد محمد بن رشد في البيان والتحصيل قال مالك: أكره أن يقال الزيارة لزيارة البيت الحرام، وأكره ما يقول الناس: زرت التي وأعظم ذلك أن يكون صلى الله عليه وسلم يزار، قال محمد بن رشد، ما كره مالك هذا والله أعلم إلا من جهة أن كلمة أعلى من كلمة، فلما كانت الزيارة تستعمل في الموتى، وقد وقع فيها من الكراهة ما وقع كره أن يذكر مثل هذه العبارة في النبي صلى الله عليه وسلم كما كره أن يقال أيام التشريق، واستحب أن يقال


(1) تقدم تخريجه.
(1/277)

الأيام المعدودات كما قال الله تعالى، وكما كره أن يقال:العتمة ويقال: العشاء الآخرة ونحو هذا،وكذلك طواف الزيارة كأنه استحب أن يسمي بالإفاضة، كما قال الله تعالى في كتابه: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} (البقرة 198) فاستحب أن يشتق له الاسم من هذا.
وقيل إنه كره لفظ الزيارة في الطواف بالبيت والمضي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم،لأن المضي إلى قبره عليه السلام ليس ليصله بذلك، ولا لينفعه، وكذلك الطواف بالبيت، وإنما يفعل تأدية لما يلزمه من فعله ورغبة في الثواب على ذلك من عند الله عز وجل،وبالله التوفيق، انتهى كلامه ابن رشد.
وقد وقع منه كراهة مالك قول الناس: زرت النبي صلى الله عليه وسلم،وهو يرد ما قاله القاضي عياض، فأما كراهة إسناده الزيارة إلى القبر، فيحتمل أن يكون العلة فيه ما قاله القاضي عياض، ويحتمل أن يكون العلة ما قاله أبو عمران وابن رشد، وأما إضافة الزيارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن ثبت ذلك عن مالك فيتعين أن يكون العلة فيه ما قاله أبو عمران وابن رشد والمختار في تأويل كلام مالك رحمه الله ما قاله ابن رشد دون ما قاله القاضي عياض، لأن ابن المواز حكى في كتابه الحج في باب ما جاء في الوداع.
قال أشهب: قيل لمالك فيمن قدم معتمراً، ثم أراد أن يخرج إلى رباط أعليه أن يودع؟ قال: هو من ذلك في سعة، ثم قال: إنه لا يعجبني أن يقول أحد الوداع، وليس هو من الصواب، إنما هو الطواف.
قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} الحج 029) قال: وأكره ما يقال الزيارة، وأكره ما يقول الناس: زرت النبي صلى الله عليه وسلم وأعظم ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يزار وقال مالك في وداع البيت، ما يعرف في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم الوداع، إنما هو الطواف بالبيت، قلت لمالك، افترى هذا الطواف بالبيت، قيل لمالك: الذي يلتزم أترى له أن يتعلق بأستار الكعبة عند الوداع؟ قال: لا ولكن يقف ويدعو، قيل له: وكذلك عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. انتهى ما أردت نقله من المؤازنة، وهي من أجل كتب المالكية القديمة المعتمد عليها.
وسياقه حكاية أشهب عن مالكم ترشد إلى المراد، وأن مالكاً رحمه الله إنما كره اللفظ كما كره في طواف الوداع، أفترى يتوهم مسلم،أو عاقل أن مالكاً كره طواف الوداع.
(1/278)

وانظر في آخر كلام مالك كيف اقتضى أنه يقف ويدعو عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، كما يقف ويدعو عند الكعبة في طواف الوداع، فأي دليل أبين من هذا في أن إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم والوقوف والدعاء عنده من الأمور المعلومة التي نزل قبل مالك وبعده، لو عرف مالك رحمه الله أن أحداً يتوهم عليه ذلك من هذا اللفظ لما نطق به، ولا لوم على مالك،فإن لفظه لا إيهام فيه وإنما يلتبس على جاهل أو متجاهل.
والمختار عندنا أنه لا يكره إطلاق هذا اللفظ أيضاً، لقوله: من زار قبري وقد تقدم الاعتذار عن مالك فيه، ولا يرد عليه قوله، زوروا القبور، لأن زيارة قبور غير الأنبياء لينفعهم ويصلهم بها وبالدعاء والاستغفار، ولهذا قال: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر المالكي المعروف بالشارمساحي في كتاب تلخيص محصول المدونة من الأحكام الملقب بنظم الدر في كتاب الجامع في الباب الحادي عشر في السفر: إن قصد الانتفاع بالميت بدعة إلا في زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وقبور المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
وهذا الذي ذكره في الانتفاع بقبور المرسلين صحيح،وكذلك سائر الأنبياء وأما ما ذكره في غير الأنبياء فستكلم عليه إن شاء الله تعالى في زيارة قبور غير الأنبياء.
وأما زيارة أهل الجنة لله تعالى، فإن صح الحديث فيها فلا يرد على شيء من المعاني التي قالها عبد الحق، وابن رشد، لأنها ليست واجبة، فإن الآخرة ليست دار تكليف، وقد انقطع الالحاق بزيارة الموتى في توهم الكراهة.
فقد بان لك بهذا وجه كلام مالك رحمه الله وإنه على جواب القاضي عياض، إنما كره زيارة القبر لا زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى جواب غيره، إنما كره اللفظ فيها دون المعنى، وكذلك أكثر ما حكيناه من كلام أصحابه أتوا فيه بمعنى الزيارة دون لفظها، فمن نقل عن مالك أن الحضور عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم لزيارة المصطفى والسلام عليه والدعاء عنده ليس بقربة، فقد كذب عليه ومن فهم عنه ذلك فقد أخطأ في فهمه وضل، وحاشى مالكاً وسائر علماء الإسلام، بل وعوامهم ممن وقر الإيمان في قلبه.
انتهى ما ذكره المعترض من النقل والتصرف فيه، ولا يخفى ما في كلامه وتصرفه في كلام غيره من الخطأ والتلبيس، والقصور في الفهم، والتقصير في النظر كفهمه من كلام العلماء ما لم يريدوه، ومخالفته لهم فيما قصدوه، وإلزامه لهم لم يعتقدوه،وحكمه عليهم بالظن الكاذب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إياكم والظن فإن الظن أكذب
(1/279)

الحديث)) (1) ، بل دأب هذا المعترض التمسك بالأمور المتشابهة الخفية والإعراض عن الأشياء المحكمة الواضحة، كما عادته الاعتماد على حديث ضعيف أو مكذوب، وأو خبر متشابه لا يدل على المطلوب، وليس هذا طريق العلماء القاصدين لإيضاع الدين وإرشاد المسلمين: نعوذ بالله من أتباع الهوى.
ولا ريب أن زيارة القبور منقسمة، فمنها شرعي ومنها بدعي، ولم ينقل أحد من العلماء لا شيخ الإسلام ولا غيره عن مالك أنه كره معنى الزيارة الشرعية لا لقبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا غيره من القبور، وإنما الذي نقل عنه أشياء منها كراهية قول القائل: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كره ذلك لشدة تمسكه بالأحاديث والآثار، فإنه لم يكن عنده في إطلاق حديث صحيح، ولا أثر ثابت، ولا له فيه سلف، ولا غير ذلك من المعاني التي سبق ذكرها.
وأما قول المعترض: ((والمختار عندنا أنه لا يكره إطلاق هذا اللفظ لقوله من زار قبري، وقد تقدم الاعتذار عن مالك فيه)) فجواب قوله عندنا معروف، وأما دليله الذي ذكره وهو غاية عمدته فقد بين ضعفه ووهاءه، وعدم صحته فيما تقدم بالأدلة الواضحة والحجيج البينة.
وأما اعتذاره عن مالك فتركه أولى من ذكره، ومن الأمور المنقولة عن مالك ما تقدم ذكره غير مرة، وهو ما ذكره القاضي عياض في الشفاء قال:
وقال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي،فلأي معنى أعرض المعترض عن هذا النقل الصحيح الواضع عن إمام دار الهجرة، وتعلق بلفظ متشابه مذكور في الموازنة قائلاً بعد حكايته، وانظر في آخر كلام مالك كيف يقتضي أنه يقف ويدعو عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم كما يقف ويدعو عند الكعبة في طواف الوداع، فأي دليل أبين من هذا في أن إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم، والوقوف والدعاء عنده من الأمور المعلومة التي لم تزل قبل مالك وبعده.
فالنظر أيها المنصف في قول هذا المعترض ودعواه ما لم يكن وإلزامه قول مالك ما لم يلزمه وإضافته إليه ما لم يقله بل كرهه ونهى عنه، وليس ذلك ببدع من صنعه، فإني سمعته يقول بحضرة بعض ولاة الأمر في شيء ثبت وصح عن مالك: هذا كذب على مالك،وسنذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى ونبين خطأه في قوله: ((إنه كذب)) هذا مع


(1) أخرجه مسلم 4/1985.
(1/280)

تصحيحه الحكاية المتقدمة عن مالك وهي باطلة عنه كما بينا ذلك، وهذا دأبه يصحح الضعيف، ويضعف الصحيح بلا حجة (1) ، ومن الأشياء المأثورة عن مالك ما تقدم ذكره مراراً وذكره القاضي عياض أيضاً فقال: وقال مالك في المبسوط: وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر وإنما ذلك للغرباء
وقال فيه أيضاً: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فقيل له: إن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في الجمعة، وفي الأيام المرة والمرتين، أو أكثر عنده فيسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.
فانظر إلى قول مالك رحمه الله لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ومخالفته لقول المعترض،فأي دليل أبين من هذا في إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم والوقوف والدعاء عنده من الأمور المعلومة التي لم تزل قبل مالك وبعده.
فهذا المعترض يزعم أن قول مالك يقتضي أن هذا الأمر من الأمور المعلومة التي لم تنزل قبل مالك وبعده، ومالك يقول لم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك.
فأي حجة أوضح من هذه؟ وأي دليل أبين من هذا في إبطال قول المعترض ودعواه والتزامه أقوال الأئمة نقيض مرادهم، وما أحسن قول مالك رضي الله عنه: ((ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها)) ، وأما قوله:ويكره إلا لمن جاء من سفر، أو أراده، فهذا إنما ذهب إليه اتباعاً لابن عمر، فإنه قد صح عنه إنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول، السلام يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه، ثم ينصرف.


(1) بل هو اتباع الهوى كما يفعل بعضهم اليوم يضعف الحديث ولو كان في الصحيح أو يطرحونه ولا يعملون به نظراً لأنه خالف المذهب كما يقولون.
وهذا كقوله أصحاب حلقة البخاري التي تقام سنوياً في الحديدة.
وممن يعمل هذا العمل: الصابوني (محمد بن علي) ومحمد علوي مالكي.
(1/281)

وقد قال عبيد الله بن عمر العمري: ما نعلم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر، فهذا قاله عبيد الله فيما كان ابن عمر يفعله من السلام إذا قدم من سفر، وأما هذا الذي زعم المعترض أنه من الأمور المعلومة التي لم نزل قبل مالك وبعده فإنه لم ينقل عن أحد من السلف لا من الصحابة رضي الله عنهم، ولا من التابعين لهم بإحسان، بل نحن نطالب هذا المعترض بالنقل، فنقول له: من روى هذا من الأئمة، وأين إسناده وفي أي كتاب هو، وعمن تأثره من الصحابة والتابعين، وهل وقفت عليه في ديوان، أو أنت تقوله برأيك وتلزمه بكلام من لم يلزمه.
وما أحسن قول سفيان الثوري: الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن له سلاح فبأي شيء يقاتل وقول عبد الله بن المبارك، الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال: من شاء ما شاء، ولكن إذا قيل من حدثك نفي ,
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم في أثناء كلامه، وأما ما ذكر في المناسك أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره، وذلك بعد تحيته والصلاة والسلام، وثم يدعو لنفسه.
وذكروا أنه إذا حياه وصلى عليه يستقبله بوجهه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره واستقبل القبلة ودعا، وهذا مراعاة منهم، لذلك فإن الدعاء عند القبر لا يكره مطلقاً بل، يؤمر به للميت،كما جاءت به السنة فيما تقدم ضمناً وتبعاً، وإنما المكروه أن يتحرى المجيء للقبر للدعاء عنده.
وكذلك ذكر أصحاب مالك قالوا: يدنوا من القبر فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو مستقبل القبلة يوليه ظهره وقيل / لا يوليه ظهره، فإنما اختلفوا لما فيه من استدباره، فأما إذا جعل الحجرة عن يساره فقد زال المحذور بلا خوف، وصار في الروضة، أو أمامها.
ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر، فإن ذلك قد ثبت النهي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم (1) ، فلما نهى أن يتخذ القبر مسجداً أو قبلة أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه، كما لا يصلي إليه، ولهذا والله أعلم حرفت الحجرة وثلثت لما بنيت فلم يجعل حائكها الشمالي على سمت القبلة، ولا جعل مسطحا، وكذلك قصدوا قبل أن تدخل الحجرة في المسجد، فروى ابن بطة بإسناده معروف عن هشام بن عروة، حدثني


(1) يعني قوله عليه الصلاة والسلام ((لا تصل إلى قبر)) وقد تقدم تخريجه وسيأتي أيضاً.
(1/282)

أبي قال: كان الناس يصلون إلى القبر، فأمر عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلى إليه الناس، فلما هدم بدت قدم بساق وربكة قال: ففزع من ذلك عمر بن عبد العزيز فأتاه عروة فقال: هذه ساق عمر بن الخطاب رضي الله عه وركبته، فسرى عن عمر بن عبد العزيز وهذا أصل مستمر فإنه لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يستحب أن يصلي إليه.
ألا ترى أن الرجل (1) لما نهى عن الصلاة إلى جهة المشرق وغيرها فإنه ينهى أن يتحرى استقبالها وقت الدعاء، ومن الناس من يتحرى وقت دعائه واستقبال الجهة التي يكون فيها الرجل الصالح سواء كانت المشرق أو غيره، وهذا ضلال بين وشرك واضح، وكما أن بعض الناس يمتنع من استدبار الجهة التي فيها الصالحون وهو يستدبر الجهة التي فيها بيت الله وقبر رسوله، وكل هذه الأشياء من البدع التي تضارع دين النصارى.
ومما يبين لك ذلك أن نفي السلام على النبي صلى الله عليه وسلم قد راعوا فيه السنة حتى لا يخرج إلى الوجه المكروه الذي قد يجر إلى إطراء النصارى عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا قبري عيداً)) (2) وبقوله: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم)) فإنما أنا عبد،فقولوا عبد الله ورسوله)) (3) وكان بعضهم يسأل عن السلام على القبر خشية أن يكون من هذا الباب حتى قيل له: إن ابن عمر كان يفعل ذلك ولهذا كره مالك رضي الله عنه وغيره من أهل العلم لأهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد أن يجيء فيسلم على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه.
قال: وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر، أو أراد سفر، أو نحو ذلك، ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها،وأما قصده دائماً للصلاة والسلام فما علمت أحداً رخص فيه، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيداً، مع أنا قد شرع لنا إذا دخلنا المسجد أن نقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته (4) ، كما نقول ذلك في آخر صلاتنا، بل قد استحب ذلك لكل من دخل مكاناً ليس فيه أحد أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم، لما تقدم من أن السلام عليه يبلغه في كل موضع،فخاف مالك وغيره أن يكون فعل ذلك عند القبر كل ساعة نوعاً من اتخاذ القبر عيداً.


(1) في اقتضاء الصراط المستقيم: (المسلم) بدل قوله: الرجل.
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه
(4) انظر رسالتنا: إتحاف الراكع الساجد بأذكار الدخول والخروج من المساجد.
(1/283)

وأيضاً فإن ذلك بدعة فقد كان المهاجرون والأنصار على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يجيئون إلى المسجد كل يوم خميس مرات يصلون، ولم يكونوا يأتون مع ذلك إلى القبر يسلمون عليه لعلمهم رضي الله عنهم بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه من ذلك وما نهاهم عنه وأنهم يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه، وفي التشهد كما كانوا يسلمون عليه كذلك في حياته، والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك.
وقال سعيد في سننه: حدثنا عبد الرحمن بن زيد (1) ، حدثني أبي عن ابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسلم، وصلى عليه، وقال: السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه، وعبد الرحمن بن زيد وإن كان يضعف، لكن الحديث المتقدم عن نافع الصحيح يدل على أن ابن عمر ما كان يفعل ذلك دائماً ولا غالباً، وما أحسن ما قال مالك: لن يصلح هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك وغيره انتهى ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
ومن الأشياء المنقولة عن مالك ما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي، وهو من أجل علماء المسلمين في كتابه المبسوط لما ذكر قول محمد بن مسلمة، أن من نذر أن يأتي مسجد قباء، فعليه أن يأتيه، قال: إنما هذا فيمن كان من أهل المدينة وقربها ممن لا يعمل المطي إلى مسجد قباء، لأن أعمال المطي اسم للسفر، ولا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة على ما جاء عن النبي في نذر ولا غيره، قال وقد روي عن مالك أنه سئل عمن نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كان أراد المسجد فليأته، وليصل فيه، وإن كان إنما أراد القبر، فلا يفعل للحديث الذي جاء: ((ولا تعمل المطي إلا إلى ثلاث مساجد)) الحديث (2) .
وهذا الذي نقله في المبسوط عن مالك لا يعرف عن أحد من الأئمة الثلاثة خلافة ولم يذكر المعترض في موضع من كتابه، فإما أنه لم يقف عليه، وإما أنه وقف عليه وتركه عمداً (3) .


(1) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف جداً.
(2) تقدم تخريجه.
(3) وهذا يشبه عمل محمد بن علي الصابوني ومحمد بن علوي مالكي فإنهما يحرفان الكلم عن مواضعه ويقطعون كلام أهل العلم بما يتمشى مع أهوائهما.
(1/284)

وقد سمعت أخا شيخ الإسلام يذكر هذا النقص الذي حكاه القاضي إسماعيل في المبسوط عن مالك لهذا المعترض يحضره بعض ولاة الأمر، فغضب المعترض غضباً شديداً، ولم يجبه بأكثر من قوله: هذا كذب على مالك، فانظر إلى جراءة هذا المعترض وإقدامه على تكذيب ما لم يحط بعلمه بغير برهان ولا حجة، بمجرد الهوى والتخرص، وليس هذا ببدع منه، فإنه قد عرف منه مثل ذلك في غير موضع، وهو من أشد الناس مخالفة لمالك في هذا المواضع التي لا يعرف لأحد من كبار الأئمة أنه خالف مالكاً فيها، بل قد حمله فرط غلوه ومتابعته هواه على نسبة أمور عظيمة لا أحب ذكرها إلى من قال يقول مالك في هذه المواضع التي لا يعرف عن إمام متبوع مخالفته فيها نعوذ بالله من الخذلان.
ومن العجب أن هذا المعترض صحح الحكاية المنقولة عن مالك مع أبي جعفر المنصور، لأن فيها ما يتابع هواه مع أنها غير صحيحة، بل هي باطلة موضوعة، وكذب هذا النقل الثابت الذي ذكره القاضي إسماعيل في المبسوط لشدة مخالفته لهواه، وما ذهب إليه، وأعرض عما ذكره أيضاً في المبسوط من قول مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي، لأنه مخالف لهواه، وتمسك بما تقدم ذكره في الموازنة لمتابعته هواء في ظنه، وهكذا عادته ودأبه يكذب النصوص الثابتة أو يعرض عنها، ويقبل الأشياء الواهية التي لم تثبت والأمور المجملة الخفية ويتمسك بها بكلتا يديه، وليس هذا شأن من يقصد الحق وإيضاح الدين للخلق نسأل الله التوفيق.
وأما ما ذكره عن أبي محمد الشارمساحي المالكي من قوله.. إن قصد الانتفاع بالميت بدعة إلا في زيارة قبر المصطفى وقبور المرسلين، فهذا القول يحتاج إلى نظر كما سنذكر، وقد وافق المعترض الشارمساحي المالكي في الجملة الثانية، وأما في الأولى فقال: وهذا الذي ذكره في الانتفاع بقبور المرسلين صحيح، وكذلك سائر الأنبياء، وأما ما ذكره في غير الأنبياء، فسأتكلم عليه إن شاء الله تعالى في زيارة قبور غير الأنبياء.
ثم قال في موضع آخر: وهذا الذي استثناه من قبور الأنبياء والمرسلين صحيح، وأما حكمه في غيرهم بالبدعة ففيه نظر، ولا ضرورة بنا هنا في تحقيق الكلام فيه، هذا هو الذي وعد بذكره، ولم يأت بشيء غير قوله: وأما حكمه في غيرهم بالبدعة ففيه نظر، وكأنه يميل إلى أن قصد الانتفاع بالميت ليس ببدعة مطلقاً، ولكنه لم يجسر على التفوه بذلك، مع أنه قد جسر على ما هو أشد من ذلك.
وأعلم أن قول الشارمساحي إن قصد الانتفاع بالميت بدعة صحيح، وهو سر الفرق
(1/285)

بين الزيارة المشروعة وغيرها، فإن الزيارة التي شرعها الله ورسوله مقصودها نفع الميت والإحسان إليه، وأن يفعل عند قبره من جنس ما يفعل على نعشه من الدعاء والاستغفار له والترحم عليه، فإن عمله قد انقطع وصار محتاجاً إلى ما يصل إليه من نفع الأحياء له، ولهذا يقال عند زيارته: ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أن يقولوه إذا زاروا القبور ولو كان أهلها سادات أولياء الله وخيار عباده: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المتقدمين منا ومنكم والمتسأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم وأغفر لنا ولهم)) (1) .
فهذا من جنس الدعاء له عند الصلاة عليه، وهذا غير الدعاء به والدعاء عنده، فالمراتب ثلاثة، فالذي شرعه الله عزوجل ورسوله للأمة الدعاء للميت عند الصلاة عليه، وعند زيارة قبره، دون الدعاء به والدعاء عنده،وهذه سنته بحمد الله إليها التحاكم والتخاصم، ولا التفات إلى تحكيم غيرها البتة كائناً ما كان، وأما انتفاع الزائر فليس بالميت، بل بعمله هو وزيارته ودعائه له والترحم عليه، والإحسان إليه كما ينتفع المحسن بإحسانه (2) ، يوضحه أن الميت قد انقطع عمله الذي ينتفع به نفسه، ولم يبق عليه منه إلا ما تسبب في حياته في شيء يبقى نفعه كالصدقة وتعليم العلم النافع، ودعاء الولد الصالح، فكيف يبقى نفعه للحي وهو عمل يعمله له، وهل هذا إلا باطل شرعاً وقدراً، ومن جعل زيارة الميت من جنس زيارة الفقير للغني لينال من بره وإحسانه فقد أتى بما هو أعظم الباطل المتضمن لقب الحقيقة والشريعة، ولو كان ذلك مقصود الزيارة لشرع من دعاء الميت والتضرع إليه وسؤال ما يناسب هذا المطلوب،ولكن هذا يناقض ما دعا)) إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد وتجريده مناقضة ظاهرة، ولا ينبغي الاقتصار على ذلك بأنه بدعة، بل فتح لباب الشرك وتوسل إليه بأقرب وسيلة وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك كما قال ابن عباس (3) في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح 023) قال: هؤلاء كانواً قوماً صالحين في قومهم، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، فلما طال عليهم الأمد عبدوهم فهؤلاء لما قصدوا الانتفاع بالموتى قادهم ذلك إلى عبادة الأصنام.
يوضحه أن الذين تكلموا في زيارة الموتى من أهل الشرك صرحوا بأن القصد هو


(1) تقدم الكلام على بعض أحاديث الزيارة صفحة 31 حاشية (1)
(2) قلت:وهذا هو الصحيح.
(3) انظر فتح الباري 8/667 والأثر متكلم فيه انظر مقدمة الفتح.
(1/286)

انتفاع الزائر بالمزور، وقالوا من تمام الزيارة أن يعلق همته وروحه بالميت وقبره، فإذا فاض على روح الميت من العلويات الأنوار فاض منها على روح الزائر بواسطة ذلك التعليق والتوجه إلى الميت، كما ينعكس النور على الجسم المقابل للجسم الشفاف بواسطة مقابلته، وهذا المعنى يعنيه ذكره عباد الأصنام في زيارة القبور وتلقاه عنهم من تلقه ممن لم يحط علماً بالشرك وأسبابه ووسائله.
ومن ههنا يظهر سر مقصود النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والسرج، ولعنه فاعل ذلك وأخباره بشدة غضب الله عليه ونهيه عن الصلاة إليها ونهيه عن اتخاذ قبره عيداً، وسؤاله ربه تعالى أن لا يجعل قبره وثناً يعبد،فهذا نهيه عن تعظيم القبور، وذلك تعليمه وإرشاده للزائر أن يقصد نفع الميت والدعاء له والإحسان إليه، ولا الدعاء به، ولا الدعاء عنده.
وأما استثناؤه قبور المرسلين من ذلك فيقال أولاً: قد ذكرنا الدليل على مقصود الشارع من زيارة القبور، وأنها تتضمن نفع المزور وانتفاع الزائر بعمله لا غير، فما الدليل على تخصيص زيارة قبور الأنبياء والمرسلين بأنها شرعت لانتفاع الزائر بهم وتوسله بزيارتهم إلى جلب المنافع له ودفع المضار عنه وجعلهم وسائط بين الزائر وبين الله في النفع والضر، وهل دل على ذلك دليل شرعي، وأو قاله أحد من سلف الأمة وخيار القرون.
ويقال ثانياً: بل الأدلة الشرعية مصرحة بخلاف ذلك، وإن نفع الأنبياء والرسل لأممهم هو بالهداية والإرشاد والتعليم، وما يعين على ذلك، وأما النفع والضر بغير ذلك فقد قال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (الجن 021) فإذا كان هذا قوله لهم في حياته فكيف بعد وفاته؟
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء 214) ((يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً (1) ، يا فاطمة بنت رسول الله ساليني ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً)) (2) .


(1) هنا سقط وهو قبل قوله يا فاطمة. ونصه ((يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً)) .
(2) الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان 350 والترمذي في الزهد 7 من تفسيره سوره 26 وابن ماجه في الجهاد 16.
(1/287)

فدعوى المدعي أن الأنبياء والرسل يملكون لمن زارهم ودعا بهم أو دعاهم وأشرك بهم من الضر والنفع ما لم يملكوه في حياتهم من أبين الباطل المتضمن للكذب على الشرع والقدر.
ويقال ثالثاً: دعوى ذلك مناقضة صريحة لما قصده الرسول، فإن ذها يوجب من تعظيم قبورهم وقصد انتيابها في الحاجات والرغبات، وجعلها من أجل الأعياد واتخاذ المساجد والسرج عليها ما يكون أدعى إلى هذا المطلوب، وهذا ضد مقصود الرسول من كل وجه ودعاء إلى ما حذر منه،وترغيب تام فيما نهى عنه فليتدبر اللبيب هذا الموضع، فإنه سر الفرق بين التوحيد ووسائله، والشرك ووسائله، ومن ظن أن ذلك تعظيم لهم فهو غالط جاهل، فإن تعظيمهم إنما هو بطاعتهم واتباع أمرهم ومحبتهم وإحلالهم، فمن عظمهم بما هو عاص لهم به لم يكن ذلك تعظيماً، بل هو ضد التعظيم فإنه متضمن مخالفتهم ومعصيتهم، فلو سجد العبد لهم أو دعاهم من دون الله، أو سبحهم، أوطاف بقبورهم واتخذ عليها المساجد والسرج، أو أثبت لهم خصائص الربوبية ونزهمم عن لوازم العبودية، وادعى أن ذلك تعظيم لهم، كان من أجهل الناس وأضلهم، وهو من جنس تعظيم النصارى للمسيح حتى أخرجوه عن العبودية.
وكل من عظم مخلوقاً بما يكرهه ذلك المعظم ويبغضه ويمقت فاعله، فلم يعظمه في الحقيقة، بل عامله بضد تعظيمه، فتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم أن تطاع أوامره وتصدق أخباره، ولا يقدم على ما جاء به غيره.
فالتعظيم نوعان: أحدهما: ما يحبه المعظم ويرضاه ويأمره ويثني على فاعله، فهذا هو التعظيم في الحقيقة.
والثاني: ما يكره ويبغضه ويذم فاعله، فهذا ليس بتعظيم، بل هو غلو مناف للتعظيم، ولهذا لم يكن الرافضة معظمين لعلي بدعواهم فيه الإلهية والنبوة، أو العصمة ونحو ذلك، ولم يكن النصارى معظمين للمسيح بدعواهم فيه ما ادعوا، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه، فأنكر على معاذ سجوده له (1) ، وهو محض التعظيم.
وفي المسند بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك أن رجلاً قال: يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا وخيرنا، وابن خيرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، مأ (4) أن ترفعوني


(1) تقدم تخريجه.
(1/288)

فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل)) (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)) (2) وكان يكره من أصحابه أن يقوموا له إذا رأوه، ونهاهم أن يصلوا خلفه قياماً، وقال: ((إن كنتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم)) (3) وكل هذا من التعظيم الذي يبغضه ويكرهه.
ولقد غلا بعض الناس في تعظيم القبور حتى قال: إن البلاء يندفع عن أهل البلد أو الإقليم بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين، قال شيخ الإسلام في أثناء كلامه في الجواب الباهر: وأما ما يظنه بعض الناس (4) ، أنه يدفع البلاء عن أهل بغداد بقبور ثلاثة: أحمد بن حنبل وبشر الحافي ومنصور بن عمار، ويظن بعضهم أنه يندفع البلاء عن أهل الشام بمن عندهم من قبور الأنبياء الخليل، وغيره عليهم السلام، وبعضهم يظن أن يندفع البلاء عن أهل مصر بنفسية، أو غيرها، أو يندفع البلاء عن أهل الحجاز بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل البقيع أو غيرهم، فكل هذا غلط مخالف لدين المسلمين مخالف للكتاب والسنة والإجماع، فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله، فلما عصوا الأنبياء وخالفوا ما أمر الله به ورسله سلط عليهم منن انتقم منهم، والرسل الموتى ما عليهم إلا البلاغ المبين وقد بلغوهم رسالة ربهم.
وكذلك نبينا قال الله تعالى في حقه: أن عليك إلا البلاغ، وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النور 054) وقد ضمن الله لكل من أطاع الرسول أن يهديه وينصره، فمن خالف أمر الرسول استحق العذاب ولم يغن عنه أحد من الله شيئاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عباس عمر رسول اله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً)) (5) وقال لمن والاه من أصحابه


(1) رواه أبو داود 5/154 – 155 رقم 4806 وأحمد 3/153، 241، 4/25، 40.
(2) تقدم تخريجه
(3) رواه مسلم 1/309 وأبو داود 1/405 رقم 606.
بعد قوله: بعض الناس وقع سقط واستدركناه من الجواب الباهر ص83:
(4) وأما ما يظنه بعض الناس: من أن البلاء يندفع عن أهل بلدة أو إقليم بمن هو مدفهون عندهم من الأنبياء والصالحين كما يظن بعض الناس أنه يندفع.
(5) وقع سقط قبل قوله يا فاطمة وهو قوله: يا صفية عمة رسول لا أغني عنك من الله شيئاً، وهو هكذا بالزيادة في الجواب الباهر،والحديث تقدم تخريجه صفحة 282 حاشية (1)
(1/289)

((لألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك)) (1) .
وكان أهل المدينة في خلافة أبي بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان على أفضل أمور الدنيا والآخرة لتمسكهم بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تغيروا بعض التغير، فقتل عثمان وخرجت الخلافة خلافة النبوة من عندهم وصاروا رعية لغيرهم، ثم تغيروا بعض التغير فجرى علهم عام الحرة من النهب، والقتل وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك، والذي فعل بهم ذلك، وإن كان ظالماً متعدياً فليس هو أظلم ممن فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابهما فعل وقد قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران 165)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون مدفونين بالمدينة وكذلك الشام كان أهله في أول الإسلام في سعادة الدنيا والدين، ثم جرت فتن وخرج الملك من أيديهم، ثم سلط عليهم المنافقون الملاحدة والنصارى بذنوبهم، واستولوا على بيت المقدس وقبر الخليل وفتحو البناء الذي كان عليه وجعلوه كنيسة، ثم صلح دينهم فأعزلهم الله ونصرهم على عدوهم لما أطاعوا الله ورسوله، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، فطاعة الله ورسوله هي قطب السعادة وعليها تدور: ((ومن يطلع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين)) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: ((من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصيهما فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً)) (2) ، ومكة نفسها لا تدفع البلاء عن أهلها ويجلب لهم الرزق إلا بطاعتهم لله ورسوله، كما قال الخليل عليه السلام: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم 037) وكانوا في الجاهلية يعظمون حرمة الحرم ويحجون ويطوفون بالبيت، وكانوا خير من غيرهم من المشركين والله لا يظلم مثقال ذرة، فكانوا يكرهون ما لا يكرم غيرهم ويؤتون ما يؤتاه غيرهم (3)


(1) أخرجه أبو داود 5/12 رقم 4605 والترمذي رقمه 2665 وابن ماجه في المقدمة رقم13
(2) أخرجه أبو داود 2/592 رقم 2119 من حديث ابن مسعود وفي إسناده عمران بن داود إلى الضعف أقرب.
(3) يشير إلى قوله تعالى: {أولم نمكن لهم حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء، رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون} .
(1/290)

لكونهم كانوا متمسكين من دين إبراهيم بأعظم مما تمسك به غيرهم وهم في الإسلام إن كانوا أفضل من غيرهم كان جزاؤهم بحسب فضلهم، وإن كانوا أسوأ عملاً من غيرهم كان جزاؤهم بحسب سيآتهم.
فالمساجد والمشاعر إنما نفع فضيلتها، لمن عمل فيها بطاعة الله وإلا فمجرد البقاع لا يحصل بها ثواب ولا عقاب، وإنما الثواب والعقاب على الأعمال المأمور بها والمنهي عنها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، وكان أبو الدرداء بدمشق وسلمان بالعراق، فكتب أبو الدرداء إلى سلمان هلموا إلى الأرض المقدسة فكتب إليه سلمان أن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الرجل عمله والمقام بالثغور للجهاد أفضل من سكنى الحرمين باتفاق العلماء.
ولهذا كان سكنى الصحابة بالمدينة أفضل للهجرة والجهاد، والله هو الذي خلق الخلق وهو الذي يهديهم ويرزقهم وينصرهم، وكل من سواه لا يملك شيئاً من ذلك كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ () وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ 022-023) وقد فسروها بأن يؤذن للشافع والمشفوع له جميعاً، فإن سيد الشفعاء يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا أراد الشفاعة قال: فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً فأحمده بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآذن فيقال لي: ((ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه واشفع تشفع)) ، قال فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة (1) ، وكذلك ذكره في المرة الثانية والثالثة ولهذا قال: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ} (الزخرف 086) فأخبر أنه لا يملكها أحد دون الله، وقوله: ((إلا من شهد بالحق)) وهم يعلمون استثناء منقطع، أي من شهد بالحق وهم يعلمون هم أصحاب الشفاعة منهم الشافع ومنهم المشفوع له.
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول لله؟ فقال: ((لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث)) ((أسعد الناس بشافعي من قال لا إله إلا اله خالصاً من قبل نفسه)) رواه البخاري (2) ، فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصاً، وقال في الحديث: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإن من صلى علي مرة


(1) تقدم حديث أنس في الشفاعة وأن أحاديث الشفاعة متواترة.
(2) أخرجه البخاري في كتاب العلم في صحيحه.
(1/291)

صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد فمن سأل الله الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة)) (1) فالجزاء من جنس العمل.
فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً (2) ، قال: ومن سأل لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة، ولم يقل كان أسعد الناس بشفاعتي، بل قال: أسعد الناس بشفاعتي من قال: ((لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه)) .
فعلم أن ما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول وغيرها لا يحصل بغيره من الأعمال، وإن كان صالحاً كسؤال الوسيلة للرسول، فكيف بما لم يأمر به من الأعمال، بل نهى عنه، فذلك لا ينال به خيراً لا في الدنيا، ولا في الآخرة مثل غلو النصارى في المسيح، فإنه ينصرهم ولا ينفعهم.
ونظير هذا في الصحيح عنه أنه قال: ((إن لكل نبي دعوة مجابة، وإن أختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي قائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً)) (3) . وكذلك في أحاديث الشفاعة كلها إنما يشفع في أهل التوحيد، فيحسب توحيد العبد لربه وإخلاصه دينه لله يستحق كرامة الله بالشفاعة وغيرها وهو سبحانه علق الوعد والوعيد والثواب والعقاب والحمد والذم بالإيمان وتوحيده وطاعته فمن كان أكمل في ذلك كان أحق بتولي الله له بخير الدنيا والآخرة.
ثم جمع عبادة مسلمهم وكافرهم هو الذي رزقهم، وهو الذي يدفع عنهم المكاره وهو الذي يقصدونه في الثواب قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (النحل 053) وقال تعالى: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} (الأنبياء 042) أي بدلاً عن الرحمن، هذا أصح القولين كقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} (الزخرف 060) أي لجعلنا بدلاً منكم كما قال عامة المفسرين ومنه قول الشاعر
فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان
أي بدلاً من ماء زمزم: فلا يكلأ الخلق بالليل والنهار فيحفظهم ويدفع عنهم


(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم.
(1/292)

المكاره إلا الله قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ () أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} (الملك 020-021) ومن ظن أرضاً معينة تدفع عن أهلها البلاء مطلقاً بخصوصها، أو لكونها فيها قبور الأبياء والصالحين فهو غالك، فأفضل البقاع مكة،وقد عذب الله أهلها عذاباً شديداً عظيماً فقال: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ () وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (النحل 112-113)
قال المعترض
فإن قلت: فقد روى عبد الرزاق في مصنفه بسنده إلى الحسن بن الحسن بن علي أنه رأى قوماً عند القبر، فنهاهم، وقال:إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) .
قلت: قد روى القاضي إسماعيل في كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (1) ، بسنده إلى علي بن الحسين بن علي، وهو زين العابدين أن رجلاً كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه، ويضع من ذلك ما انتهره عليه علي بن الحسين، فقال له علي بن الحسين: ما يحملك على هذا قال: أحب التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له علي بن الحسين: هل لك أن أحدثك حديثاً عن أبي؟ قال: نعم. فقال له علي بن الحسين أخبرني أبي عن جدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجعلوا قبري عيداً ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم)) وهذا الأثر يبين لنا أن ذلك الرجل زاد في الحد، وخرج عن الأمر المسنون، فيكون كلام علي بن الحسين موافقاً لما تقدم عن مالك، وليس إنكاراً لأصل الزيارة، أو يكون أراد تعليمه أن السلام يبلغ من الغيبة لما رآه يتكلف الإكثار من الحضور، وعلى ذلك يحمل ما ورد عن حسن بن حسن وغيره من ذلك ولم يذكر هذا الأثر ليحتج به، بل للتأنيس به بأمر محتمل في ذلك الأثر المطلق وإبداء وجهه من وجوه التأويل، وكيف يتخيل في أحد من السلف منهم من زيارة المصطفى، وهم مجمعون على زيارة سائر الموتى، وسنذكر ذلك وما ورد من الأحاديث والآثار في زيارتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء الذين ورد فيهم أنهم أحياء كيف يقال فيهم هذه المقالة، انتهى كلام المعترض.


(1) ص 33-34 ووقع فيه: ما اشتهره عليه والصواب ما ها هنا.
(1/293)

والجواب من وجوه:أحدهما: أن يقال:
هذا الحديث الذي ذكره القاضي إسماعيل قد رواه أبويعلي الموصلي والحافظ أبو عبد الله المقدسي في الأحاديث المختارة وهو حديث محفوظ عن علي بن الحسين زين العابدين، وله شواهد كثيرة، وتقدم ذكرها، وهو وأمثاله من الأحاديث مناف لما ذهب إليه المعترض، وأشباهه من الغلو في هذا الباب منافاة ظاهرة،وقول المعترض: أن ذلك الرجل زاد في الحد وخرج عن الأمر المسنون، فيقال له: قد زدت أن في الحد أكثر من زيادة ذلك الرجل، وخرجت عن الأمر المسنون أبلغ من خروجه، وقلت باستحباب قصد القبور للدعاء عندها وشد الرحال، وإعمال المطي لمجرد زيارتها، وغير ذلك من الأمور التي لم يقلها ذلك الرجل، فزيادتك في الحد وخروجك عن الأمر المشروع في هذا الباب أبلغ بكثير من زيادة ذلك الرجل وخروجه.
الوجه الثاني: أن قوله فيكون كلام علي بن الحسين موافقاً لما تقدم عن مالك وليس إنكاراً لأصل الزيارة – كلام فيه تلبيس -، فإن أصل الزيارة لم ينكرها شيخ الإسلام، وإنما أنكر الزيارة المبتدعة المتضمنة لترك مأمور وفعل محظور، وأما الزيارة الشرعية فلم ينكرها، بل ندب إليها وحض عليها، كما تقدم ذكره غير مرة.
لوجه الثالث: قوله ولم يذكر هذا الأثر ليحتج به، بل للتأنيس بأمر محتمل في ذلك الأثر المطلق وإبداء وجه من وجوه التأويل، فيقال له لم لم تحتج بهذا الأثر، وأي شيء منعك من الاستدلال به، مع أنه خبر محفوظ مشهور وشواهده كثيرة، وهو أقوى بكثير مما احتجت به من الأحاديث المتقدمة ومعناه موافق لما ورد في الأحاديث الصحيحة والأخبار الثابتة التي سبق ذكرها غير مرة والله الموفق.
الوجه الرابع: أن قوله: وكيف يتخيل في أحد من السلف منعهم من زيارة المصطفى (1) أو نقله عن أحد منهم أو اعتقده في طائفة منهم، ومن المعلوم أن شيخ الإسلام وغيره من العلماء الأعلام لم يمنعوا من زيارة المصطفى صلوات الله عليه، وإنما قالوا: الزيارة منها ما هو شرعي، ومنها ما هو غير شرعي، فالشرعي مندوب إليه، والبدعي


(1) وقع سقط بعد قوله (من زيارة المصطفى) وهو قوله: وهم مجمعون على زيارة سائر الموتى كلام في إيهام عظيم وتلبيس شديد ومن اذلي تخيل في أحد من السلف منعهم من زيارة المصطفى أو نقله.
(1/294)

ممنوع منه، وتكلموا في شد الرحال لمجرد زيارة القبور، فمن مانع لذلك كمالك والجمهور، ومن مبيح له كطائفة من المتأخرين، وهذا المعترض يخالف القولين، فيقول إن طاعة وقربة مع العلم بأن ما ذهب إليه ليس من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ولا فرق عنده بين من قصد الحج فزار في طريقة، وبين من سافر لمجرد الزيارة، بل كلاهما عنده مستحب وطاعة وقربة، وغير من العلماء فرقوا بين الأمرين فقالوا:إن من قصد الحج فزار في طريقه الزيارة الشرعية، فهو مثاب مأجور، واختلفوا فيمن سافر لمجرد زيارة القبر فمنهم من قال: سفره مباح وهم الأقلون، ومنهم من قال: سفره منهي عنه وهم الأكثرون.
والحجة معهم ولم يقل أحد من مجتهديهم ان سفره طاعة وقربة، وإنما ذهب إلى ذلك المعترض وأمثاله ممن ليس لهم سلف في ذلك ولا دليل عليه وكفى هذا المعترض مخالفة لأهل العلم حتى نسب من قال منهم بالقول الذي عليه الجمهور إلى أنه منع من الزيارة ونهي عنها، وهذه النسبة غنما صدرت منه عن الفهم الفاسد والهوى المتبع (1) والله الموفق.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في أثناء كلامه في الجواب الباهر (2) : وأما السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين فهذا لم يكن موجوداً في الإسلام في زمن مالك،وإنما حدث هذا بعد القرون الثلاثة قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فأما هذه القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن هذا ظاهر فيها، ولكن بعدها ظهر الإفك والشرك، ولهذا لما سأل سائل لمالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي، فقال: إن كان أراد المسجد فليأته، وليصل فيه، وإن كان أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء: ((لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد)) (3) ، وكذلك من يزور قبور الأنبياء والصالحين ليدعوهم، أو يطلب منهم الدعاء، أو يقصد الدعاء عندهم لكونه أقرب إجابة في ظنه، فهذا لم يكن يعرف على عهد مالك لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، وإذا كان مالك يكره أن يطيل الوقوف عنده للدعاء، فكيف بمن لا يقصد لا السلام عليه، والدعاء له، وإنما يقصد دعاءه وطلب حوائجه منه، ويرفع صوته عنده فيؤذي الرسول ويشرك بالله ويظلم نفسه.


(1) قلت: نعم إنه الهوى المتبع فمثله ليس بجاهل.
(2) ص 50-62.
(3) تقدم تخريجه.
(1/295)

ولم يعتمد الأئمة الأربعة ولا غير الأربعة على شيء من الأحاديث التي يرويها بعض الناس في ذلك مثل ما يروون أنه قال: ((من زارني في مماتي فكأنما زارني في حياتي)) (1) ، ومن قوله: ((من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة)) (2) ،ونحو ذلك، فإن هذا لم يروه أحد من أئمة المسلمين ولم يعتمدوا عليها ولم يروها لا أهل الصحاح، ولا أهل السنن التي يعتمد عليها كأبي داود والنسائي، لأنها ضعيفة، بل موضوعة، كما قد بين العلماء الكلام عليها، ومن زاره في حياته كان من المهاجرين إليه، والواحد بعدهم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، وهو إذا أتى بالفرائض لا يكون مثل الصحابة، فكيف يكون مثلهم في النوافل، أو بما ليس قربة (3) ، أو بما هو منهي عنه.
وكره مالك رحمه الله تعالى أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم كره هذا اللفظ، لأن السنة لم تأت به في قبره، وقد ذكروا في تعليل ذلك وجوهاً ورخص غيره في هذا اللفظ للأحاديث العامة في زيارة القبور، ومالك يتحسب ما يستحبه سائر العلماء من السفر إلى المدينة والصلاة في مسجده، وكذلك السلام عليه،وعلى صاحبيه عند قبورهم اتباعاً لابن عمر، ومالك رضي الله عنه من أعلم الناس بهذا، لأنه قد رأى التابعين الذين رأوا الصحابة بالمدينة، ولهذا كان يستحب اتباع السلف في ذلك ويكره أن يبتدع أحد هناك بدعة، فكره أن يطيل الرجل القيام والدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك وكره لأهل المدينة كما دخل إنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك.
قال مالك: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، بل كانوا يأتون إلى مسجده فيصلون خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، فإن هؤلاء الأربعة صلوا أئمة في مسجده والمسلمون يصلون خلفهم، كما كانوا يصلون خلفه وهم يقولون في الصلاة: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، كما كانوا يقولون ذلك في حياته، ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا، أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلام لعلمهم بأن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل وهي المشروعة.


(1) تقدم تخريجه والكلام عليه.
(2) تقدم تخريجه والكلام عليه.
(3) في الجواب الباهر (بفريضة) بدلاً من قوله: قربة.
(1/296)

وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك، أو الصلاة والدعاء فإنه لم يشرعه لهم، بل نهاهم، وقال: ((لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) فبين أن الصلاة تصل إليه من البعيد،وكذلك السلام، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً،ومن سلم عليه سلم الله عليه عشراً، وتخصيص الحجرة بالصلاة والسلام جعل لها عيداً، وهو قد نهاهم عن ذلك ونهاهم أن يتخذوا قبره، وأو قبر غيره، مسجداً، ولعن من فعل ذلك ليتخذوا أن يصيبهم مثل ما أصاب غيرهم من اللعنة.
وكان أصحابه خير القرون وهم أعلم الناس بسنته وأطوع الأمة لأمره، وكانوا إذا دخلوا إلى المسجد لا يذهب أحد منهم إلى قبره، لا من داخل الحجرة ولا من خارجها، وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذا كانت عائشة فيها وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الأخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه لسلام، ولا لصلاة عليه، ولا لدعاء لأنفسهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم،ولا كان الشيطان يمطع فيهم حتى يسمعهم كلاماً أو سلاماً فيظنون أنه هو كلمهم، واقناعهم وبين لهم الأحاديث أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج، كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يحدثهم ويفتيهم،ويأمرهم وينهاهم في الظاهر.
وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجاً من القبر ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت من القبر تكلمهم، أو أن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج يقظة لا مناماً.
فإن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس،وهم تلقوا الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، ففهموا من مقاصده وعاينوا من أفعاله، وسمعوا منه شفاهاً مل ملم يحصل لمن بعدهم، ولذلك كان يستفيد بعضهم من بعض ما لم يحصل لمن بعدهم، وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم وهاجروا جميع الطوائف وأديانهم وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) (1) .
وهذا قاله لخالد بن الوليد لما تشاجر هو وعبد الرحمن بن عوف، لأنه عبد الرحمن بن


(1) تقدم تخريجه.
(1/297)

عوف كان من السابقين الأولين، وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وهو فتح الحديبية، وخالد هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة أسلموا في مدة الهدنة بعد الحديبية وقبل فتح مكة، فكانوا من المهاجرين التابعين لا من المهاجرين الأولين.
وأما الذين أسلموا عام فتح مكة فليسوا بمهاجرين،لأنه لا هجرة بعد الفتح، بل كان الذين أسلموا من أهل مكة لهم الطلقاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقهم بعد الاستيلاء عليهم عنوة، كما يطلق الأسير، والذين بايعوه تحت الشجرة، ومن كان من مهاجرة الحبشة هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
وفي الصحيح عن جابر قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: ((أنتم خير أهل الأرض)) (1) .وكنا ألفاً وأربعمائة ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ما نال ممن بعدهم، فلم يكن فيهم أحد من أهل البدع المشهورة كالخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجهمية، بل كل هؤلاء إنما حدثوا فيمن بعدهم، ولم يكن فيهم من طمع الشيطان أن يتراءى له في صورة بشر، ويقول: أنا الخضر، أو أنا إبراهيم، أو موسى، أو عيسى، أو المسيح، أو أن يكلمه عند قبره، حتى يظن أن صاحبه كلمه، بل هذا إنما ناله فيمن بعدهم، وناله أيضاً من النصارى حيث أتاهم من الصلب وقال: أنا هو المسيح، وهذه مواضع المسامير، ولا يقول أنا شيطان، فإن الشيطان لا يكون جسداً، أو كما قال: وهذا هو الذي أعتمد عليه النصارى في أنه صلب لا في مشاهدته، فإن أحداً منهم لم يشاهد الصلب، وإنما حضره بعض اليهود وعلقوا المصلوب، وهم يعتقدون أنه المسيح، ولهذا جعل الله هذا من ذنوبهم وإن لم يكونوا صلبوه، ولكنهم قصدوا هذه الفعل وفرحوا به، قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا () وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا () بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} (النساء 156-158) وسبط هذا له موضع آخر.
والمقصود أن الصحابة رضي الله عنهم لم يطمع الشيطان أن يضلهم كما أضل به غيرهم من أهل البدع الذين تأولوا القرآن على غير تأويله وجهلوا السنة إذا رأوا أو


(1) رواه البخاري 7/443 رقم 4154.
(1/298)

سمعوا أموراً من الخوارق فظنوها من جنس آيات الأنبياء والصالحين، وكانت من أفعال الشياطين كما أضل النصارى، وأهل البدع بمثل ذلك، فهم يتبعون المتشابه من الكتاب ويدعون المحكم، ولذلك يتمسكون بالمتشابه من الحجج العقلية والحسية كما يسمع ويرى أموراً فيظن أنه رحماني، وإنما هو شيطاني، ويدعون البين الحق الذي لا إجمال فيه، وكذلك لم يطمع الشيطان، أن يتمثل في صورته ويغيث من استغاث به، أو أن يحمل إليهم صوتاً يشبه صوته، لأن الذين رأوه قد علموا أن هذا شرك لا يحل، ولهذا أيضاً لم يطمع فيهم أن يقول أحد منهم لأصحابه، إذا كان لكن حاجة فتعالوا إلى قبري ولا استغيثوا بي لا في محياه، ولا في مماته، كما جرى مثل هذا لكثير من المتأخرين، ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم، ويقول: أنا من رجال الغيب، أو الأوتاد الأربعة، أو من السبعة أو الأربعين، أو يقول له: أنت منهم إذا كان هذا عندهم من الباطل الذي لا حقيقة له، ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم فيقول:أنا رسول الله ويخاطبه عند القبر، كما وقع ذلك لكثير ممن بعدهم عند قبر وقبر غيره وعند غير القبور، كما يقع كثير من ذلك للمشركين، وأهل الكتاب يرون بعد الموت من يعظمونه، فأهل الهند يرون من يعظمونه من شيوخهم الكفار وغيرهم، والنصارى يرون من يعظمونه من الأنبياء والحواريين وغيرهم، والضلال من أهل القبلة يرون من يعظمونه إما النبي صلى الله عليه وسلم، وإما غيره من الأنبياء يقظة ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم، ومنهم ن يخيل له أن الحجرة قد انشقت وخرج منها النبي صلى الله عليه وسلم وعانقه هو وصاحباه،ومنهم من يخيل إليه أنه رفع صوته بالسلام حتى وصل مسيرة أيام إلى مكان بعيد.
وهذا وأمثاله أعرف ممن وقع له هذا وأشباهه عدداً كثيراً، وقد حدثني بما وقع له في ذلك، وبما أخبر به غيره من الصادقين من يطول هذا الموضع بذكرهم.
وهذا موجود عند خلق كثير، كما هو موجود عند النصارى والمشركين، لكن كثير من الناس يكذب بهذا، وكثير منهم إذا صدق به يعتقد أنه من الآيات الإلهية، وأن اذلي رأى ذلك رآه لصالحه ودينه ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه أضل من فعل به ذلك وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله الشيطان ومن كان أقل علماً قال له: ما يعلم أنه مخالف للشريعة خلافاً ظاهراً، ومن عنده علم بها لا يقول له ما يعلم أنه مخالف للشريعة ولا مفيد فائدة في دينه، بل يضله عن بعض ما كان يعرفه، فإن هذا فعل الشياطين، وهو وإن ظن أنه قد استفاد شيئاً فالذي خسره من دينه أكثر، ولهذا لم يقل قط أحد من الصحابة أن الخضر أتاه ولا موسى ولا عيسى، ولا أنه سمع رد النبي صلى الله عليه وسلم.
(1/299)

وابن عمر كان يسلم إذا قدم من سفر لم يقل قط أنه سمع الرد، وكذلك التابعون وتابعوهم، وإنما حدث هذا في بعض المتأخرين، وكذلك لم يكن أحد من الصحابة يأتيه فيسأله عند القبر عن بعض ما تنازعوا فيه وأشكل عليهم من العلم لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم، مع أنهم أخص الناس به، حتى ابنته فاطمة لم يطمع الشيطان أن يقول لها اذهبي إلى قبره، فسليه هل يورث أم لا يورث كما أنهم أيضاً لم يطمع الشيطان فيهم فيقول لهم: اطلبوا منه أن يدعو لكم بالمطر لما أجدبوا، ولا قال: أطلبوا منه أن يستنصر لكم، ولا أن يستغفر لكم كما كانوا في حياته يطلبونه منه أن يستسقي لهم، وأن يستغفر لهم، فلم يطمع الشيطان فيهم بعد موته أن يطلبوا منه ذلك، ولا طمع بذلك في القرون الثلاثة، وإنما ظهرت هذه الضلالات ممن قل علمه بالتوحيد والسنة فأضله الشيطان، كما أضل النصارى في أمور لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه.
وكذلك لم يطمع الشيطان أن يطير بأحدهم في الهواء، ولا أن يقطع به الأرض في مدة قريبة كما يقع مثل هذا الكثير من المتأخرين، لأن الأسفار التي كانوا يسافرونها كانت طاعات؛ كسفر الحج والعمرة والجهاد وهم يثابون على كل خطوة يخطونها فيه، وكلما بعدت المسافة كان الأجر أعظم، كالذي يخرج من بيته إلى المسجد فخطواته إحداهما ترفع درجة، والأخرى تحط خطيئة، فلم يمكن الشيكان أن يفوتهم ذلك الأجر بأن يحملهم في الهواء أو يؤزهم في الأرض أزاً حتى يقطعوا المسافة البعيدة بسرعة، وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أسري به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته وأنه أراه من آياته الكبرى وكان هذا من خصائصه، فليس لمن بعده مثل هذا المعراج، ولكن الشياطين تخيل إليه معارج شيطانية، كما خيلتها لجماعة من المتأخرين.
وأما قطع النهر الكبير بالسير على الماء، فهذا قد يحتاج إليه المؤمنون أحياناً مثل أن لا يمكنهم العبور إلى العدو وتكميل الجهاد إلا بذلك، فلهذا كان الله يكرم من يحتاج إلى ذلك من الصحابة والتابعين بمثل ذلك أكرم به الملاء بنت الحضرمي وأصحابه وأبا مسلم الخولاني وأصحابه، وبسط هذا له موضع آخر غير هذا الكتاب.
لكن المقصود أن يعرف أن الصحابة خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء فما ظهر فيهم بعدهم مما يظن أنها فضيلة للمتأخرين، ولم تكن فيهم فإنها من الشيطان وهي نقيصة لا فضيلة سواء كانت من جنس العلوم، أو من جنس العبادات، أو من جنس الخوارق والآيات، أو من جنس السياسة والملك، بل خير الناس بعدهم أتباعهم لهم.
(1/300)

قال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم مسنناً فليستن بمن قد مات، فإين الحين لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فأعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن الصحابة تركوا البدع المتعلقة بالقبور بقبره وقبر غيره لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولئلا يتشبهوا بأهل الكتاب الذين اتخذوا قبور الأنبياء أوثاناً، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر كما كان بن عمر يفعل، بل كانوا في حياته يسلمون عليه، ثم يخرجون من المسجد لا يأتون إليه عند كل صلاة، وإذا جاء أحد سلم عليه رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من سلم عليه عند قبره رد عليه، وكانوا يدخلون على عائشة فكانون يسلمون عليه كما كانوا يسلمون في حياته، ويقول أحدهم السلام عليك يا أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وقد جاء هذا عاماً في جميع قبور المؤمنين ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه لروحه حتى يرد عليه السلام (1) ، فإذا كان رد السلام موجوداً في عموم المؤمنين، فهو في أفضل الخلق أولى، وإذا سلم المسلم عليه في صلاته، فإنه وإن لم يرد عليه لكن الله يسلم عليه عشراً، كما في الحديث: ((من سلم علي مرة سلم الله عليه عشراً)) (2) ، فالله يجزيه على هذا السلام أفضل مما يحصل بالرد، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً، وكان ابن عمر يسلم عليه، ثم ينصرف، ولا يقف لدعاء له، أو لنفسه، ولهذا كره مالك ما زاد على فعل ابن عمر من وقوف ودعاء له أو لنفسه لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة فكان بدعة محضة.
قال مالك: لن يصلح آخر الأمة إلا ما أصلح أولها، مع أن فعل ابن عمر إذا لم يفعل مثله سائر الصحابة إنما يصلح للتسويغ كأمثال ذلك فيما يفعله بعض الصحابة وأما القول بأن هذا الفعل مستحب، أو منهي عنه، أو مباح فلا يثبت إلا بدليل شرعي، فالجواب والندب والإباحة والاستحباب والكراهة والتحريم لا يثبت شيء منها إلا بالأدلة الشرعية، والأدلة الشرعية كلها مرجعها إليه صلوات الله وسلامه عليه فالقرآن هو الذي بلغه والسنة هو الذي عملها، والإجماع بقوله عرف أنه معصوم، والقياس إنما يكون حجة


(1) تقدم.
(2) تقدم تخريجه.
(1/301)

إذا علما أن الفرع مثل الأصل، أو أن علة الأصل في الفرع، وقد علما أنه صلى الله عليه وسلم لا يتناقض فلا يحكم في المتماثلين بحكمين متناقضين، ولا يحكم بالحكم لعلة تارة ويمنعه أخرى مع وجود العلة إلا لاختصاص إحدى الصورتين بما يوجب التخصيص، فشرعه هو ما شرعه، وسنته هي ما سنها لا يضاف إليه قول غيره وفعله، وإن كان من أفضل الناس إذا وردت سنته، بل ولا يضاف إليه إلا بدليل يدل على الإضافة.
ولهذا كان الصحابة كأبي بكر وعمر وابن مسعود يقولون باجتهادهم، ويكونون مصيبين موافقين لسنته، لكن يقول أحدهم: اقول في هذا برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني، ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه.
فإن كل ما خالف سنته فهو شرع منسوخ أن مبدل لكن المجتهدين وإن قالوا برأيهم وأخطأوا فلهم أجر وخطأهم مغفور لهم، وكان الصحابة إذا أراد أحدهم أن يدعو لنفسه استقبل القبلة، ودعا لنسفه كما كانوا يفعلون في حياته،لا يقصدون الدعاء عند الحجرة ولا يدخل أحدهم إلى القبر.
والسلام عليه قد شرع للمسلمين في كل صلاة وشرح للمسلمين، إذا دخل أحدهم المسجد أي مسجد كان، فالنوع الأول كل صلاة يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ثم يقول:السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإذا قلتم ذلك أصابت كل عبد صالح لله في السموات والأرض)) (1) فقد شرع للمسلمين في كل صلاة أن يسلموا على النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً وعلى عباد الله الصالحين من الملائكة والإنس والجن عموماً.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كما نقول خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة: السلام على فلان وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو السلام فإذا فقد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) (2) وقد روى عنه التشهد بألفاظ أخرى، كما رواه مسلم من حديث ابن عباس، وكما كان عمر يعلم الناس التشهد، ورواه مسلم من حديث أبي موسى، لكن


(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه بقية أحاديث التشهد.
(1/302)

مثل تشهد ابن مسعود، ولكن لم يخرج البخاري إلا تشهد ابن مسعود، وكل ذلك جائز فإن القرآن أنزل على سبعة أحرف فالتشهد أولى.
والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أن المصلي إذا قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أصابت كل عبد صالح لله في السموات والأرض، وهذا يتناول الملائكة وصالحي الإنس والجن،كما قال تعالى عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} (الجن 011)
والنوع الثاني: السلام عليه عند دخول المسجد، كما في المسند والسنن عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليقل بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك)) (1) .
وروى مسلم في صحيحه الدعاء عند دخول المسجد بأن يفتح له أبواب رحمته وعند خروجه بسؤال الله من فضله، وهذا الدعاء مؤكد في دخول مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذكره العلماء فيما صنفوه من المناسك لمن أتى إلى مسجده، أن يقول ذلك، فإن السلام عليه مشروع عند دخول المسجد، والخروج، وفي نفس كل صلاة، وهذا أفضل وأنفع من السلام عند قبره وأدوم، وهذا مصلحة محضة، لا مفسدة فيها، يرضي الله ويوصل نفع ذلك إلى رسول الله وإلى المؤمنين.
وهذا مشروع في كل صلاة وعند دخول المسجد، والخروج منه بخلاف السلام عند القبر مع أن قبره من حين دفن لم يمكن أحد من الدخول إليه لا لزيارة، ولا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك، ولكن كانت عائشة فيه، لأنه بيتها، وكانت ناحية من القبور، لأن القبور في مقدم الحجرة، وكانت هي في مؤخرة الحجرة، ولم يكن الصحابة يدخلون إلى هناك، وكانت الحجرة على عهد الصحابة خارجة عن المسجد متصلة به، وإنما دخلت فيه في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد موت العبادلة ابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وابن عمرو، بل بعد موت جميع الصحابة الذين كانوا بالمدينة (2) ، ولم يكن


(1) قد حقننا أحاديث أذكار الدخول والخروج من المسجد في رسالتنا (إتحاف الراكع الساجد بأذكار الدخول والخروج من المساجد) فراجعها هناك.
(2) في الجواب الباهر بعد قوله (.. الذين كانوا بالمدينة فإن آخر من مات بها جابر بن عبد الله في بضع وسبعين سنة ووسع المسجد في بضع وثمانين سنة ولم يكن الصحابة … )
(1/303)

الصحابة يدخلون إلى عند القبرولا يقفون عنده خارجاً مع أنهم يدخلون إلى مسجده ليلاً ونهاراً.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام)) (1) . وقال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس)) (2) وكانوا يقدمون من الأسفار للاجتماع بالخلفاء الراشدين وغير ذلك فيصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة، وعند دخول المسجد والخروج منه،ولا يأتون القبر إذا كان عندهم مما لم يأمرهم به ولم يسنه لهم، وإنما أمرهم وسن لهم الصلاة والسلام عليه في الصلاة، وعند دخولهم المساجد وغير ذلك ولكن ابن عمر كان يأتيه فيسلم عليه وعلى صاحبه عند قدومه من السفر، وقد يكون فعله غير ابن عمر أيضاً.
فهكذا رأى من رأى من العلماء هذا جائز، اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم وابن عمر كان يسلم، ثم ينصرف ولا يقف يقول: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا ابت ثم ينصرف ولم يكن جمهور الصحابة يفعلون كما فعل ابن عمر بل كان الخلفاء وغيرهم يسافرون للحج وغيره ويرجعون ولا يفعلون ذلك إذا لم يكن هذا سنة سنها لهم، وكذلك أزواجه كن على عهد الخلفاء وبعهدهم يسافرون للحج، ثم ترجع كل واحدة إلى بيتها كما وصاهن بذلك وكانت امداد اليمن الذين قال اله فليهم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة 054)
على عهد أبي بكر وعمر يأتون أفواجاً من اليمن للجهاد في سبيل الله، ويصلون خلف أبي بكر وعمر في مسجده، ولا يدخل أحد منهم إلى داخل الحجرة ولا يقف في المسجد خارجاً منها لا لدعاء ولا صلاة ولا سلام، ولا غير ذلك، وكانوا عالمين بسنته كما علمهم الصحابة والتابعون وأن حقوقه ملازمة لحقوق الله، وإن جميع ما أمر الله به وأحبه من حقوقه وحقوق رسوله فإن صاحبها يؤمر بها في جميع المواضع والبقاع، فليس الصلاة والسلام عليه عند قبره، بأوكد من ذلك في غير ذلك المكان، بل صاحبها مأمور بها حيث كان إما مطلقاً وإما عند الأسباب المؤكدة لها كالصلاة والدعاء والأذان، ولم يكن شيء من حقوقه ولا شيء من العبادات هو عند قبر أفضل منه في غير تلك البقعة، بل نفس مسجده له فضيلة لكونه مسجده)) .


(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(1/304)

ومن اعتقد أنه قبل القبر لم يكن له فضيلة إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه والمهاجرين والأنصار، وإنما حدثت له الفضيلة في خلافة الوليد بن عبد الملك لما أدخل الحجرة في مسجده، فهذا لا يقوله إلا جاهل مفرط في الجهل، أو كافر فهو مكذوب لما جاء به مستحق للقتل، وكان الصحابة يدعون في مسجده كما كانوا يدعونه في حياته لم يتجدد لهم شريعة غير الشريعة التي علمهم إياها في حياته، وهو لم يأمرهم إذا كان لأحدهم حاجة أن يذهب إلى قبر نبي، أو صالح فيصلي عنده،ويدعوه، أو يدعو بلا صلاة، أو يسأله حوائجه، أو يسأله أن يسأل ربه.
فقد علم الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بشيء من ذلك ولا أمرهم أن يخصوا قبره أو حجرته إلى جوانب حجرته لا بصلاة ولا دعاء لا له ولا لأنفسهم، بل قد نهاهم أن يتخذوا بيته عيداً، فلم يقل لهم كما يقول بعض الشيوخ الجهال لأصحابه، إذا كان لكن حاجة فتعالوا إلى قبري، بل نهاهم عما هو أبلغ من ذلك أن يتخذوا قبره، أو قبر غيره مسجداً يصلون فيه لله لسيد ذريعة الشرك.
فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فكان إنعام الله به أفضل نعمة أنعم بها على أهل الأرض، وقد دلهم صلى الله عليه وسلم على أفضل العبادات،وأفضل البقاع كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي العمل أفضل قال: ((الصلاة على مواقيتها)) قلت: ثم أي: قال: ((ثم بر الوالدين)) ، قلت ثم أي: ((الجهاد في سبيل الله)) سألته عنهن، ولو استزدته لزادني (1) .
وفي المسند وسنن ابن ماجة عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن (2) ، والصلاة قد سن للأمة أن تتخذ لها مساجد وهي أحب البقاع إلى الله، كما ثبت عنه في صحيح مسلم وغيره أنه قال: أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق (3) ، ومع


(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه أحمد في مسنده 5/276 وابن ماجدة في سننه رقم 277.
كلاهما من طريق سالم بن أبي الجعد عن ثوبان به قال أحمد بن حنبل سالم بن أبي الجعد لم يلق ثوبان بينما معدان , نفى البخاري سماع سالم من ثوبان. انظر جامع التحصيل.
(3) أخرجه مسلم 1/464.
(1/305)

هذا فقد لعن من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وهو في مرض الموت نصيحة للأمة وحرصاً منه على هذا، كما نعت الله بقوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة 128)
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه،: ((لعن الله اليود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قال عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً، وفي رواية خشي أن يتخذ مسجداً)) (1) .
وعان عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصه له على وجه، فإذا اغتم كشفها عن وجهة، فقال: وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا (2) ، ومن حكمة اله تعالى أن عائشة أم المؤمنين صاحبه الحجرة التي دفن فيها تروي هذه الأحاديث، وقد سمعتها منه، وأن كان غيرها من الصحابة سمعها أيضاً كابن عباس وأبي هريرة وجندب بن عبد الله وابن مسعود رضي الله عنهم.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (3) وفي الصحيحين عن عائشة أن لم حبيبة، ولم سلمه ذكرنا كنيسة رأيتها بأرض الحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا علي قبره مسجداً وصروراً فيه فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) (4) .
وفي صحيح مسلم عن جندب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((إن أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد أتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإن أنهاكم عن ذلك)) (5) .


(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه.
(5) أخرجه مسلم 1/377.
(1/306)

وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) (1) وفي المسند وصحيح أبي حاتم أنه قال: أن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذي يتخذون القبور مساجد)) (2) وقد تقدم نهيه أن يتخذ قبري عيداً.
فلما علم الصحابة أنه قد نهاهم عن أن يتخذوه مصلى لقبر التي يتقرب بها إلى الله لئلا يتشبهوا بالمشركين الذين يتخذونها ويصلون بها وينذرون لها كان نهيهم عن دعائها أعظم وأعظم، كما أنه لما نهاهم عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها لئلا يتشبهوا بمن يسجد للشمس كان نهيهم ع السجود للشمس أولى وأحرى فكان الصحابة يقصدون الصلاة والدعاء والذكر في المساجد التي بنيت لله دون قبور الأنبياء والصالحين التي نهوا أن يتخذوها مساجد، وإنما هي بيوت المخلوقين وكانوا يفعلون بعد موته ما كانوا يفعلون في حياته صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً.
قال المعترض وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا قبري عيداً)) فرواه أبو داود السجستاني، وفي سنده عبد الله بن نافع الصائغ، روى له أربعة ومسلم قال البخاري: تعرف حفظ وتنكر، وقال أحمد بن حنبل لم يكن صاحب حديث كان ضيفاً (3) فيه، ولم يكن في الحديث بذلك، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ هو لين تعرف حفظه وتنكر، ووثقه يحيى بن معين، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال ابن عدي: روى عن مالك غرائب، وهو في رواياته مستقيم الحديث، فإن لم يثبت هذا الحديث فلا كلام، وإن ثبت وهو الأقرب، فقال الشيخ زكي الدين المنذري: يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وأن لا يهمل حتى لا يزار إلا في بعض الأوقات كالعيد الذي لا يأتي في العام إلا مرتين.
وقال: ويؤيد هذا التأويل ما جاء في الحديث نفسه لا تجعلوا بيوتكم قبوراً أي لا تتركوا الصلاة في بيوتكم حتى تجعلوا كالقبور التي لا يصلي فيها.
قلت: ويحتمل أن يكون المراد لا تتخذوا له وقتاً مخصوصاً لا تكون الزيارة إلا فيه.


(1) أخرجه مسلم 2 /668.
(2) أخرجه أحمد 1/405 وابن حبان 8/299، وابن خزييمة 2/6 رقم 789 والطبراني في الكبير 10/232 رقم 10413.
(3) في كتاب السبكي: ضعيفاً بدلاً من قوله ضيفاً، وفي التهذيب: ضعيفاً كذلك وهو الصواب.
(1/307)

كما ترى كثيراً من المشاهدة لزيارتها يوم معين كالعيد وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم ليس لها يوم بعينه بل أي يوم كان، ويحتمل أيضاً أن يراد أن يجعل كالعبد في العكوف عليه وإظهار الزينة والاجتماع وغير ذلك مما يجعل في الأعياد، بل لا يؤتى إلا للزيارة والسلام والدعاء، ثم ينصرف عنه، والله أعلم بمراد نبيه، انتهى ما ذكره.
والجواب أن يقال: هذا الحديث الذي رواه أبو داود هو حديث حسن جيد الإسناد وله شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الصحة، وقد ذكرناه مع شواهد فيما تقدم، والمعترض قد اعترف بأن الأقرب ثبوته لكنه لم يقل بموجبه ومقتضاه، بل سلط عليه التحريف والتأويل المستنكر المردود، فأما ما حكاه عن عبد العظيم المنذري في تأويله فهو من أظهر الأشياء بطلاناً، بل هو مناقض لمقصود الحديث ومخالف له، وآخر الحديث يبطله وهو قوله صلوا علي حيثما كنتم، والتأويل الثاني باطل أيضاً، والثالث: متضمن للحق وغيره.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (1) ، بعد أن ذكر هذا الحديث وقواه وذكر شواهده قال: ووجه الدلالة أن قبر رسول اله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيداً فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من كان ثم أنه قرن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا بيوتكم قبوراً)) (2) ، أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور، فأمر يتحرى العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور عكس ما يفعله المشركون من النصارى، ومن تشبه بهم.
ثم أنه صلى الله عليه وسلم أعقب النهي عن اتخاذها عيداً بقوله: وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم، وفي الحديث فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم يشير بذلك صلى الله عليه وسلم إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً.
ثم إن أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم، واستدل بالحديث، وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي، وأعلم بمعناه من غيره، فبين أن قصده للدعاء


(1) ص323.
(2) أخرجه أبو داود رقم 2042 وأحمد 2/367 وقد تقدم مراراً.
(1/308)

ونحوه اتخاذ له عيداً، وكذلكم ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً.
فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت رضي الله عنهم، الذي لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا أضبط، والعيد إذا جعل أسماً للمكان، فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة عنده، أو لغير العبادة، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة جعلها الله عيداً مثابة للناس يحجون فيها، وينتابونها للدعاء والذكر والنسك، وكان للمشركين أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها، فلما جاء الإسلام محا الله ذلك كله، وهذا النوع من الأمكنة يدخل فيه قبور الأنبياء والصالحين والقبور التي يجوز أن تكون قبوراً لهم بتقدير كونها قبوراً لهم، بل وسائر القبور أيضاً داخلة في هذا.
انتهى ما أردت نقله من كلام الشيخ رحمه الله تعالى.
وقال غيره في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) (1) ، خرج هذا الحديث منه صلى الله عليه وسلم مخرج نهيه عن اتخاذ القبور مساجد، عن الصلاة إليها وإيقاد السرج ومخرج دعائه ربه تبارك وتعالى أن لا يجعل قبره وثناً ومخرج أمره بتسوية القبور المشرفة ونحو ذلك.
كل هذا لئلا يحصل الافتتان بها ويتخذ العكوف عليها وإيقاد السرج والصلاة فيها وإليها وجعلها عيداً ذريعة إلى الشرك لا سيما أصل الشرك وعبادة الأصنام في الأمم السابقة، إنما هو من الأفتتان بالقبور وتعظيمها، فاتخاذه القبر عيداً هو مثل اتخاذه مسجداً والصلاة وإليه، بل أبلغ وأحق بالنهي، فإن اتخاذه مسجداً يصلى فيه لله ليس فيه من المفسدة ما في اتخاذ نفسه عيداً بحيث يعتاد انتيابه والاختلاف إليه والازدحام عنده، كما يحصل في أمكنة الأعياد وأزمنتها، فإن العيد يقال في لسان الشارع على الزمان والمكان كما في حديث الذي نذر أن ينحر ببوانه وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل كان فيها وثن، هل كان فيها عيد؟)) قالوا: لا قال: ((أوف بنذرك)) وهو حديث حسن صحيح، رواه أبو داود في سننه، فقال: حدثنا داود بن رشيد، حدثنا شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم: إني نذرت أن أنحر إبلاً


(1) هو من تمام الحديث الذي قبله.
(1/309)

ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية بعيد؟)) قالوا: لا. قال: ((هل كان فيها عيد من أعيادهم؟)) قالوا: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوف بنذرك، فإن لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم)) (1) .
وفي هذا الحديث دلالة على أن تعظيم المكان المتخذ عيداً بالذبح عنده لا يجوز كما ذبح عند الوثن، كل هذا سد للذريعة المفضية إلى الشرك وحماية وصيانة لجانب التوحيد، فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد منع الذبح عند المكان المتخذ عيداً سواء كان قبراً أو غيره فنهيه عن اتخاذ القبر عيداً أولى وأحرى: إذا المفسدة في اتخاذ القبر عيداً أعظم بكثير من مفسدة الذبح عند المكان الذي اتخذه عيداً.
وهذه الأحاديث تدل كلها على تحريم تخصيص القبور بما يوجب انتيابها وكثرة الاختلاف إليها من الصلاة عندها واتخاذها مساجد، واتخاذها عيداً، وإيقاد السرج عليه والصلاة إليها والذبح عندها، ولا يخفى مقاصد هذه الأحاديث وما اشتركت فيه على من شم رائحة التوحيد المحض.
وبهذا يعلم بطلان تأويل من تأول قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا قبري عيداً)) أي لا تجعلوه في قلة الاختلاف إليه وانتيابه ومتابعة قصده بمنزلة العيد الذي إنما يكون في السنة مرتين، بل اقصدوه في كل وقت واحتشدوا للمجيء إليه وواظبوا على إتيانه من القرب والبعد، واجعلوا ذلك دأبكم وعادتكم، ومعلوم أن هذا مناقض لما علم من سننه في قبره الكريم، وغيره أشد مناقضة وترغيب للنفوس في الوقوع فيما حذر منه أمته، وخاف عليهم منه ومعاكسة له في قصده، ومن المعلوم أن من أراد هذا المعنى الذي ذكره المتأول بقوله: ((لا تتخذوا قبري عيداً)) فهو إلى الألغاز ضد البيان أقرب منه إلى الإرشاد والبيان كيف والسنة المعلومة تناقضه أبين مناقضة، بل نفس هذا الحديث يرد هذا التأويل ويبطله، وهو قوله: ((وصلوا علي حيثما كنتم)) .
ثم لو كان هذا مراده وحاشاه من ذلك لأني بلفظ صريح أو ظاهر في الترغيب في قصده ن وكثرة الاختلاف إليه كما جاء عنه الترغيب في كثرة الاختلاف إلى المساجد كقوله في الحديث المتفق على صحته: ((من عذر إلى المسجد، أو راح أعد الله له نزلاً


(1) أخرجه أبو داود 3/607 رقم 3313.
(1/310)

في الجنة كلما غدا أو راح)) (1) وقوله في الحديث الصحيح: ((من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة)) (2) وقوله في الحديث المخرج في السنن: ((بشر المشائين في الظلم إلى المسجد بالنور التام يوم القيامة)) (3) ، وقوله في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة، وأبن حبان في صحيحيهما، ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)) (4) قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة 018)
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على الترغيب في انتياب أمكنة المساجد والحث عليها، فمن تأملها وتأمل الأحاديث الواردة في القبر تبين له الفرق المبين بين الهدى والضلال والغي والرشاد والشك واليقين.
ومما يبين بطلان هذا التأويل الذي لم يعرف عن أحد من السلف والخلف قبل هذا المتأول، إنه لو كان هو المراد لكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعيون لهم بإحسان أحق الناس بالعكوف على قبره، وكثر انتيابه والازدحام عنده وتقبيله والتمسح به، وكانوا أشد الناس ترغيباً للأمة في ذلك، بل المحفوظ عنهم الزجر عن مثل ذلك والنهي عنه.
وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن ابن عجلان عن رجل يقال له سهيل، عن الحسن بن الحسن بن علي أنه رأى قوماً عند القبر فنهاهم وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذواً بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) (5) .
وروى سعيد بن منصور في سننه عن عبد العزيز بن محمد فقال: أخبرني سهيل بن


(1) أخرجه البخاري 2/148 رقم 662 ومسلم 1/463.
(2) رواه مسلم 1/462 وابن حبان 3/245. رواه مسلم 1/462 وابن حبان 3/245، وأخرج ابن ماجه نجوه 1/781 من حديث أنس.
(3) أخرجه أبو داود 1/379 رقم 561 وأخرج الترمذي رقم 223، وأخرج ابن ماجه نجوه 1/781 من حديث أنس.
(4) أخرجه الترمذي 5/12 رقم 2617 وابن ماجه 1/802 وأحمد 3/68 و 75-76 وابن حبان 3/110 جميعاً من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري والحديث ضعيف من أجل دراج
(5) تقدم.
(1/311)

أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة بتعشى، فقال: هلم إلى العشاء فقال: فقلت: لا أريده، فقال: مالي رأيتك عند القبر، فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني، حيثما كنتم، ما أنتم من بالأندلس إلا سواء)) (1) .
وروى أبو يعلي الموصلي في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن زيد بن الحباب، عن جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين عن علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعوا فنهاه فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم)) (2) .
وروى نوح بن يزيد المؤدب عن أبي إسحاق يعني إبراهيم بن سعد قال: ما رأيت أبي قط يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكان يكره إتيانه، وابو إبراهيم سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري التابعي أحد الأئمة الأعلام، وكان قاضي المدينة في زمان التابعين.
قال الإمام أحمد بن حنبل (3) : ولي قضاء المدينة وكان فاضلاً، وقال يعقوب بن إبراهيم بن سعد (4) : سرد سعد الصوم قبل أن يموت بأربعين سنة وقال حجاج بن محمد: كان شعبة إذا ذكر سعد بن إبراهيم، قال: حدثني حبيبي سعد بن إبراهيم يصوم الدهر ويختم القرآن في كل يوم وليلة (5) .
فهذا سعد بن إبراهيم من سادات أهل المدينة وعلمائهم وقضائهم، وكان لا يأتي


(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) انظر كلامه في سير الأعلام 5/419.
(4) انظر السير 5/419.
(5) انظر السير 5/419 وانظر ترجمته في التاريخ الكبير 4/51 والصغير 1/324 وتاريخ الفسوي 1/411 وتاريخ الطبري 7/227 والجرح والتعديل 4/79 وتهذيب التهذيب 3/463 وشذرات الذهب 1/173.
(1/312)

القبر ويكره إتيانه، وقد قال مالك في المبسوط، لا بأس لمن قدم من سفر، أو أخرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فقيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة، أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة، أو في الأيام المرة أو المرتين، أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا وتركه واسح، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده والله أعلم.
(1/313)

الباب الخامس: في تقرير كون الزيارة قربة وذلك بالكتاب والسنة والإجماع والقياس
قال المعترض
وأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} (النساء 064) دلت الآية على حث على المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة فهي رتبة له صلى الله عليه وسلم لا تنقطع بموته تعظيماً له.
فإن قلت: المجيء إليه في حال الحياة ليستغفر لهم وبعد الموت ليس كذلك قلت: دلت الآية على تعليق وجدانهم الله تواباً رحيماً بثلاثة أمور: المجيء واستغفارهم واستغفار الرسول، فأما استغفار الرسول فإنه حاصل لجميع المؤمنين،لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر للمؤمنين لقوله تعالى: ((واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات)) ولهذا قال عاصم بن سليمان – وهو تابعي – لعبد اله بن سرجس الصحابي: استغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: نعم ولك، ثم تلا هذه الآية. رواه مسلم (1) .
فقد ثبت أحد الأمور الثلاثة، وهو استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن ومؤمنة، فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته، وليس في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم، بل هي محتملة (2) .
والمعنى يقتضي بالنسبة إلى استغفار الرسول أنه سواء تقدم، أم تأخر، فإن المقصود إدخالهم بمجيئهم واستغفارهم تحت من يشمله استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يحتاج إلى المعنى المذكور إذا جعلنا استغفر لهم الرسول معطوفاً على فاستغفروا الله أما


(1) أخرجه مسلم 4/1823 – 1824 والترمذي في الشمائل رقم 22.
(2) في كتاب السبكي (مجملة) بدلاً من قوله (محتمله) .
(1/314)

إن جعلناه معطوفاً على جاءوك لم يحتج إليه، هذا كله إن سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستغفر بعد الموت، ونحن لا نسلم ذلك لما سنذكره من حياته صلى الله عليه وسلم واستغفاره لأمته بعد موته، جاء مستغفراً ربه تعالى، فقد ثبت على كل تقدير أن الأمور الثلاثة المذكورة في الآية حاصلة لمن يجيء إليه صلى الله عليه وسلم مستعفراً في حياته وبعد مماته.
والآية وإن وردت في أقوام معينين في حالة الحياة فتعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت.
ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، واستحبوا لمن أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلوا هذه الآية ويستغفر الله تعالى، وحكاية العتبي في ذلك مشهورة وقد حكاها المصنفون في المناسب من جميع المذاهب والمؤرخون وكلهم استحسنوها ورأوها من أدب الزائر، ومما ينبغي له أن يفعله، وقد ذكرناها في آخر الباب الثالث، انتهى ما ذكره.
والجواب: أن يقال: قوله: وهي قربة بالكتاب والسنة والإجماع والقياس، الكلام عليه من وجوه.
الأول: مطالبته بتصحيح دعواه وإلا كانت مجردة عما يثبتها.
الثاني: أن القربة هي ما يجعله الله ورسوله قربة، إما بأمره، وإما باختياره إنها قربة وإما بالثناء على فاعلها، وإما يجعل الفعل سبباً لثواب يتعلق عليه، أو تكفير سيئات، أو غير ذلك من الوجوه التي يستدل بها على كون الفعل محبوباً لله مقرباً إليه.
الثالث: إنه لا يكفي مجرد كون الفعل محبوباً له في كونه قربة، وإنما يكون قربة إذا لم يستلزم أمراً مبغوضاً مكروهاً له، أو تفويت أمر هو أحب إليه من ذلك الفعل، وأما إذا استلزم ذلك فلا يكون قبرة، وهذا كما أن إعطاء غير المؤلفة قلوبهم من فقراء المسلمين وذوي الحاجات منهم؛ وإن كان محبوباً لله فإنه لا يكون قربة إذا تضمن فوات ما هو أحب إليه من إعطاء من يحصل بعطيته قوة في الإسلام وأهله،وإن كان قوياً غنياً غير مستحق.
وكذلك التخلي لنوافل العبادات إنما يكون قربة إذا لم يستلزم تعطيل الجهاد الذي هو أحب إلى الله سبحانه من تلك النوافل، وحينئذ فلا يكون قربة في تلك الحال، وإن كان قربة في غيرها.
وكذلك الصلاة في وقت النهي إنما لم تكن قربة لاستلزامها ما يبغضه الله سبحانه ويكرهه من التشبه ظاهراً بأعدائه الذين يسجدون للشمس في ذلك الوقت.
(1/315)

فها هنا أمران يمنعان كون الفعل قربة: استلزمه لأمر بمغوض مكروه وتفويته لمحبوب هو أحب إلى الله من ذلك الفعل.
ومن تأمل هذا الموضع أحق التأمل أطلعه على سير الشريعة ومراتب الأعمال وتفاوتها في الحب والبغض والضر والنفع، بحسب قوة فهمه وإدراكه ومواد توفيق الله له، بل مبنى الشريعة على هذه القاعدة، وهي تحصيل خير الخيرين، وتفويت أدناهما وتعطيل شر الشرين باحتمال أدناهما، بل مصالح الدنيا كلها قائمة على هذا الأصل.
وتأمل نهي النبي صلى الله عليه وسلم أولاً عن زيارة القبور سداً للذريعة الشرك، وإن فاتت مصلحة الزيارة، ثم لما استقر التوحيد في قلوبهم وتمكن منها غاية التمكن إذن في القدر النافع من الزيارة، وحرم ما هو داع إلى غيره، فحرم اتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها والصلاة إليها فحرم جعلها قبلة ومسجداً، ونهى عن اتخاذ قبره الكريم عيداً وسأل ربه تعالى أن لا يجعل قبره وثناً يعبد، وقد استجاب له ربه تعالى بأن حال يبين قبره وبين المشركين بما لم يبق معه لهم وصول إلى عبادة قبره، وأمر الأمة بالصلاة عليه حيثما كانوا عقب قوله: ((لا تتخذوا قبري عيداً)) فقال: ((وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) (1) .
فهو صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على تحصيل القرب لأمته وقطع أسباب أضدادها عنهم، وإنما دخل الداخل على من ضعفت بصيرته في الدين، وكانت بضاعته في العلم مزجاة فلم يتسع صدره للجمع بين الأمرين، ولم يفطن لارتباط أحدهما بالآخر.
وهذا القدر بعينه هو الذي ضاقت عنه عقول الخوارج، وقصرت عنه أفهامهم حتى قال له قائلهم في قسمته، أعدل فإنك لم تعدل (2) ، فإنه لما لحظ مصلحة التسوية ولم يلتفت إلى مصلحة الإيثار، وما يترتب على فواته من المفاسد قال ما قال، هؤلاء سلف كل متمعقل متمعلم على ما جاء به الرسول، بعقله أو رأيه أو قياسه أو ذوقه.
والمقصود أن كون الفعل قربة ملحوظة فيه هذان الأمران.
الوجه الرابع: أنه كيف يتقرب إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه بعين ما نهى عنه وحذر منه الأمة بقوله: ((لا تتخذوا قبري عيداً)) (3) ومعلوم أن جعل الزيارة من أفضل


(1) تقدم مراراً.
(2) أخرجه البخاري 10/552 و 12/290 ومسلم 2/470 – 744 وابن ماجة رقم 172 وأحمد 3/56، 65، 353، 355.
(3) تقدم.
(1/316)

القرب مستلزم لجعل القبر من أجل الأعياد، وهذا ضد ما حذر منه الأمة ونهاهم عنه وهو تقرب إليه بما يسخطه ويبغضه.
الوجه الخامس: الكلام على ما ذكره من الأدلة مفصلاً وبيان عدم دلالته على ما ادعاه وأنه هو وغيره عاجز عن إقامة دليل واحد فضلاً عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
فأما استدلاله بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ} (النساء 064) فالكلام فيها في مقامين.
أحدهما: عدم دلالتها على مطلوبة.
الثاني: بيان دلالتها على نقيضه، وإنما يتبين الأمران بفهم الآية، وما أريد بها وسيقت له وما فهمه منها أعلم الأمة بالقرآن ومعانيه، وهم سلف الأمة ومن سلك سبيلهم ولم يفهم منها أحد من السلف والخلف إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم، وقد ذم تعالى من تخلف عن هذا المجيء إذا ظلم نفسه وأخبر أنه من المنافقين فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} (المنافقون 005) وكذلك هذه الآية إنما هي في المنافق الذي رضي بحكم كعب بن الأشرف وغيره من الطواغيت دون حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فظلم نفسه بهذا أعظم ظلم، ثم لم يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فإن المجيء إليه ليستغفر له توبة وتنصل من الذنب، وهذه كانت عادة الصحابة معه صلى الله عليه وسلم أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة جاء إليه فقال: يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي وكان هذا فرقاً بينهم وبين المنافقين.
فلما استأثر الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم ونقله من بين أظهرهم إلى دار كرامته لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقول يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أجد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت، وافترى على الصحابة والتابعين وهم خير القرون على الإطلاق هذا الواجب الذي ذم الله سبحانه من تخلف عنه وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق، ووفق له لمن لا توبة له من الناس ولا يعد في أهل العلم، وكيف أغفل هذا الأمر أئمة الإسلام وهداة الأنام من أهل الحديث والفقه والتفسير ومن لهم لسان صدق في الأمة فلم يدعوا إليه ولم يحضوا عليه ولم يرشدوا إليه ولم يفعله أحد منهم
(1/317)

البتة، بل المنقول الثابت عنهم ما قد عرف مما يسود الغلاة فيما يكرهه وينهي عنه من الغلو والشرك الجفاة عما يحبه ويأمر به من التوحيد والعبودية.
ولما كان هذا المنقول شيخاً في حلوق البغاة وقذى في عيونهم، وريبة في قلوبه قابلوه بالتكذيب، والطعن في الناقل، ومن استحيي منهم من أهل العلم بالآثار قابله بالتحريف والتبديل، ويأتي الله إلا أن يعلي منار الحق، ويظهر أدلته ليهتدي المسترشد وتقوم الحجة على المعاندة فيعلي الله بالحق من يشاء، ويضع برده ويطرده وعغمص أهله من يشاء.
وبالله العجب أكان ظلم الأمة لأنفسها ونبيها حي بين أظهرها موجود، وقد دعيت فيه إلى المجيء إليه ليستغفر لها وذم من تخلف عن هذا المجيء، فلما توفي صلى الله عليه وسلم ارتفع ظلمها لأنفسها بحيث لا يحتاج أحد منهم إلى المجيء إليه ليستغفر له؟ وهذا يبين أن هذا التأويل الذي تأول عليه المعترض هذه الآية تأويل باطل قطعاً، ولو كان حقاً لسبقونا إليه علماً وعملاً وإرشاداً ونصيحة.
ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه، وبطلان هذا التأويل أظهر من أن يطنب في رده، وإنما ننبه عليه بعض التنبيه.
ومما يدل على بطلان تأويله قطعاً أنه لا يشك مسلم أن من دعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وقد ظلم نفسه ليستغفر له فأعرض عن المجيء، واباه مع قدرته عليه كان مذموماً غاية الذم مغموصاً بالنفاق، ولا كذلك من دعى إلى قبره ليستغفر له، ومن سوى بين الأمرين وبين المدعويين وبين الدعوتين، فقد جاهر بالباطل، وقال على الله وكلامه ورسوله وأمناء دينه غير الحق.
وأما دلالة الآية على خلاف تأويله فهو أنه سبحانه صدرها بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ} (النساء 064) وهذا يدل على أن مجيئهم إليه ليستغفر لهم إذ ظلموا أنفسهم طاعة له، ولهذا ذم من تخلف عن هذه الطاعة، ولم يقل مسلم أن علي من ظلم نفسه بعد موته أن يذهب إلى قبره ويسأله أن يستغفر له، ولو كان هذا طاعة له لكان خير القرون قد عصوا هذه الطاعة وعطلوها ووفق لها هؤلاء الغلاة العصاة وهذا بخلاف قوله {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
(1/318)

شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النساء 065) فإنه نفى الإيمان عمن لم يحكمه وتحكيمه هو تحكيم ما جاء به حياً أو ميتاً ففي حياته كان هو الحاكم بينهم بالوحي، وبعد وفاته نوابه وخلفاؤه، يوضح ذلك أنه قال: ((لا تجعلوا قبري عيداً)) ولو كان يشرع لكل مذنب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له، لكان القبر أعظم أعياد المذنبين، وهذه مضادة صريحة لدينه وما جاء به.
(1/319)

فصل
والمعترض قرر هذا التأويل على تقدير حياة النبي صلى الله عليه وسلم وموته، وقد تبين بطلانه ولو قدر أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره مع أن هذا التأويل الباطل إنما يتم به وقوله: ((إن من شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته أنه لا يترك الاستغفار لمن جاء من أمته)) ، فهذا من أبين الأدلة على بطلان هذا التأويل، فإن هذا لو كان مشروعاً بعد موته لأمر به أمته وحضهم عليه ورغبهم فيه، ولكان الصحابة وتابعوهم بإحسان أرغب شيء فيه وأسبق إليه، ولم ينقل عن أجد منهم قط وهم القدوة بنوع من أنواع الأسانيد أنه جاء إلى قبره ليستغفر له، ولا شكى إليه ولا سأله والذي صح عنه من الصحابة مجيء القبر هو ابن عمر وحده، إنما كان يجيء للتسليم عليه صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه عند قدومه من سفر، ولم يكن يزيد عل التسليم شيئاً البتة، ومع هذا فقد قال عبيد الله بن عمر العمري الذي هو أجل أصحاب نافع مولى ابن عمر، أو من أجلهم، لا نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر.
ومعلوم أنه لا هدي أكمل من هدي الصحابة، ولا تعظيم للرسول فوق تعظيمهم ولا معرفة لقدره فوق معرفتهم، فمن خالفهم إما أن يكون أهدى منهم، أو مرتكباً لنوع بدعة، كما قال عبد الله بن مسعود لقوم قد رآهم اجتمعو على ذكر يقولنه بينهم: لأنتم أهدى من أصحاب محمد، أو أنتم على شعبه ضلالة (1) .
فتبين أنه لو كان استغفاره لمن جاءه مستغفراً بعد موته ممكناً، أو مشروعاً لكان كما شفقته ورحمته، بل رافقه مرسله ورحمته بالأمة يقتضي ترغيبهم في ذلك وحضهم عليه ومبادرة خير القرون إليه.
وأما قول المعترض: وأما الآية (2) وإن وردت في أقوام معينين في حال الحياة فإنها تعم بعموم العلة فحق فإنها تعم ما وردت فيه، وكان مثله عامة في حق كل من ظلم نفسه وجاءه كذلك، وأما دلالتها على المجيء إليه في قبره بعد موته فقد عرف بطلانه، وقوله: وكذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، فيقال له: من فهم هذا من سلف الأمة وأئمة الإسلام، فاذكر لنا عن رجل واحد من الصحابة أو التابعين، أو تابعي


(1) انظر البدع لابن وضاح ص11 فما بعدها.
(2) في كتاب السبكي (والآية) بدلاً من قوله (وأما الآية) .
(1/320)

التابعين أو الأئمة الأربعة، أو غيرهم من الأئمة وأهل الحديث والتفسير أنه فهم العوم بالمعنى الذي ذكرته، أو عمل به أو أرشد إليه، فدعواك على العلماء بطريق العموم هذا الفهم دعوي باطله ظاهره البطلان.
وأما حكاية العتبي الذي أشر إليها فإنها حكاية ذكرها بعض الفقهاء والمحدثين وليست بصحيحة ولا ثابتة إلى العتبي، وقد رويت عن غيره بإسناد مظلم كم بينا ذلك فيما تقدم، وهي في الجملة حكاية لا يثبت بها حكم شرعي لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً، لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم وبالله التوفيق.
فإن قيل: فقد روى أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحمن الكرخي عن علي بن محمد بن علي، حدثنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي، قال: حدثني أبي عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وحثى على رأسه من ترابه، وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك، وعينا عن الله عز وجل فما وعينا عنك، وكان فيما انزل الله عز وجل عليك: وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي فنودي من القرب أنه قد غفر لك.
والجواب أن هذا خبر منكر موضوع وأثر مختلق مصنوع لا يصح الاعتماد عليه، ولا يحسن المصير إليه، وإسناده ظلمات بعضها فوق بعض، والهيثم جد أحمد بن الهيثم أظنه ابن عدي الطائي، فإن يكن هو، فهو متروك كذاب، وإلا فهو مجهول،وقد ولد الهيثم بن عدي بالكوفة، ونشأ وأدرك زمان سلمة بن كهيل فيما قيل، ثم أنتقل إلى بغداد فسكنها.
قال عباس الدوري (1) : سمعت يحيى بن معين يقول: الهيثم بن عدي كوفي ليس بثقة كان يكذب، وقال المجلي وأبو داود (2) كذاب، وقال أبو حاتم الرازي (3) والنسائي (4) والدولابي (5) والأزدي (6) : متروك الحديث، وقال البخاري (7) : سكنوا عنه أي تركوه، وقال ابن


(1) ص 245.
(2) انظر كتاب التاريخ لابن معين رقم 1767.
(3) انظر الميزان 4/324.
(4) الجرح والتعديل 9/85.
(5) انظر الضعفاء والمتروكين ص241 رقم 637.
(6) انظر الكامل لابن عدي 7/2563.
(7) انظر التاريخ الكبير 8/218 والصغير 117.
(1/321)

عدي (1) ، ما أقل ماله من المسند، وإنما هو صاحب أخبار وأسماء ونسب وأشعار، وقال ابن حبان (2) : كان من علماء الناس بالسير، وأيام الناس، وأخبار العرب إلا أنه روى عن الثقات أشياء كأنها موضوعات يسبق إلى القلب أنه كان يدلسها.
وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث، وقال الحاكم أبو عبد الله الهيثم بن عدي الطائي في علمه ومحله حديث عن جماعة من الثقات أحاديث منكرة، وقال العباس بن محمد (3) ، سمعت بعض أصحابنا يقول: قالت جارية الهيثم: كان مولاي يقوم عامة الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب.
قال المعترض
وأما السنة فما ذكرناه في الباب الأول والثاني من الأحاديث،وهي أدلة على زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بخصوصه، وفي السنة الصحية المتفق عليها الأمر بزيارة القبور وقال صلى الله عليه وسلم ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها)) (4) وقال صلى الله عليه وسلم ((زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)) .
وقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني في كتابه آداب زيارة القبور: ورد الأمر بزيارة القبور من حديث بريدة وأنس وعلي وابن عباس، وابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وأبي بن كعب، وأبي ذر رضي الله عنههم، انتهى كلام أبي موسى الأصبهاني، فقبر النبي صلى الله عليه وسلم سيد القبور داخل في عموم القبور المأمور بزيارتها، انتهى ما ذكره المعترض.
وقد تقدم الكلام على ذكره من الأحاديث مستوفى وبين أن الزيارة المتضمنة ترك مأمور، أو فعل محظور ليست بمشروعه، وقد قال شيخ الإسلام في أثناء كلامه في الجواب الباهر لمن سأل من ولاة الأمر عما أفتى به في زيارة المقابر، وقد تنازع المسلمون في زيارة القبور فقال طائفة من السلف: إن ذلك كله منهي عنه لم ينسخ، فإن أحاديث النسخ لم يروها البخاري، ولم تشتهر، ولما ذكر البخاري باب زيارة القبور احتج بحديث المرأة التي بكت على القبر.
ونقل ابن بطال عن الشعبي قال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتي (5) ، وقال النخعي كانوا يكرهون زيارة القبور، وعن ابن سيرين مثله قال ابن


(1) انظر الكامل 7/2563
(2) انظر المجروحين 3/92، وانظر أيضاً المغني 2/717، ولسان الميزان 6/209 والضعفاء للعقيلي 4/252 وتاريخ بغداد 14/53.
(3) انظر تاريخ ابن معين رقم 1768.
(4) تقدم.
(5) سيأتي هو وأثر النخعي بإسناديهما إن شاء الله.
(1/322)

بطال: وقد سئل مالك عن زيارة القبور، فقال: قد كان نهي عنه عليه السلام، أذن فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلا خيراً لما بذلك بأساً، من عمل الناس، وروي عنه أنه كان يضعف زيارتها وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أولاً عن زيارة القبور، باتفاق العلماء، فقيل: لأن ذلك يقضي إلى الشرك،وقيل لأجل الناحية عندها، وقيل: لأنهم كانوا يتفاخرون بها، وقد ذكر طائفة من العلماء في قوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ () حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} (التكاثر 001-002) أنهم كانوا يتكاثرون بقبور الموتى، وممن ذكره ابن عطية في تفسيره قال: وهذا ت|أنيب على الإكثار من زيارة القبور، أي حتى جعلتم أشغالكم القاطعة لكم العبادة والعلم زيارة القبور تكثراً بمن سلف وإشادة بذكره، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزروها ولا تقولوا هجراً)) (1) فكان نهيه عن معنى الآية، ثم أباح الزيارة بعد لمعنى اتعاظ لا لمعنى المباهاة والتفاخر وتسنيمها بالحجارة الرخام وتلوينها سرفاً وبنيان النواويس عليها، هذا لفظ ابن عطية.
والمقصود أن العلماء متفقون على أنه كان نهي عن زيارة البور،ونهي عن الانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير، واختلفوا هل نسخ ذلك، فقالت طائفة: لم ينسخ ذلك لأن أحاديث النسخ ليست مشهورة ولهذا لم يخرج البخاري ما فيه نسخ عام، وقال الأكثرون، بل نسخ ذلك، ثم قالت طائفة منهم: إنما نسخ إلى الإباحة فزيارة القبور مباحة لا مستحبة، وهذا قول في مذهب مالك وأحمد وقالوا: لأن صيغة افعل بعد الحظر، إنما تفيد الإباحة، كما قال في الحديث، ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا ولا تشربوا مسكراً)) (2) .
وقد روى ولا تقولوا هجراً وهذا يدل على أن النهي كان لما يقال عندها من الأقوال المنكرة سداً للذريعة كالنهي عن الانتباذ في الأوعية كان لأن الشدة المطربة تذب فيها ولا يدري بذلك فيشرب الشارب الخمر وهو لا يدري.
وقال الأكثرون: زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء للموتى مع السلام عليهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع فيدعو لهم، وكما ثبت عنه في الصحيحين أنه خرج إلى شهداء أحد فصلى عليهم صلاته على الموتى كالمودع للأحياء والأموات (3) ، وثبت في


(1) تقدم.
(2) انظر صحيح مسلم 3/1584 – 1585.
(3) أخرجه البخاري 3/209 رقم 1344 وانظره برقم 3596، 4042، 4085، 6426، 6590 ومسلم 4/1795، 1796 وأبو داود 3/551 رقم 3223 و 3224 والنسائي 4/61 رقم 1954 جميعاً من حديث عقبة بن عامر.
(1/323)

الصحيحين أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لا حقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكن العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم (1) ، وهذا في زيارة قبور المؤمنين، وأما زيارة قبر الكافر فرخص فيه لأجل تذكار الآخرة، ولا يجوز الاستغفار لهم، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال: ((استأذنت ربي في أن أزور فبرها فأذن لي واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (2) .
والعلماء المتنازعون كل منهم يحتج بدليل شرعي،ويكون عند بعضهم من العلم ما ليس عند الآخر، فإن العلماء ورثة الأنبياء، قال الله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ () فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (الأنبياء 078-079) والأقوال الثلاثة صحيحة باعتبار، فإن الزيارة إذا تضمنت أمراً محرماً من شرك،أو كذب، أو ندب، أو نياحة، وقول هجر، فهي محرمة بالإجماع كزيارة المشركين بالله والساخطين لحكم الله، وفإن هؤلاء زيارتهم محرمة، فإن لا يقبل دين إلا الإسلام وهو الاستسلام لخلقه، وأمره، فنسلم لما قدره الله وقضاه، ونسلم لما يأمر به ويحبه، وهذا نفعله وندعو إليه وذلك نسلمه ونتوكل فيه عليه، فنرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً،ونقول في صلاتنا (إياك نعبد وإياك نستعين) مثل قوله (فأعبده وتوكل عليه) وقوله: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة 045) {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ () وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (هود 114-115)
والنوع الثاني: زيارة القبور لمجرد الحزن على الميت لقرابته، أو صداقته فهذه مباحة كما يباح البكاء على الميت بلا ندب، ولا نياحة، كما زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال: ((زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)) فهذه الزيارة كان ينهي عنها لما كانوا يصنعون من المنكر، فلما عرفوا الإسلام أذن فيها لأن فيها مصلحة وهو تذكر الموت، فكثير من الناس إذا رأى قريبة وهو مقبور ذكر الموت واستعد للآخرة وقد يحصل منه جزع فيتعارض الأمران، ونفس الجنس مباح أن قصد به طاعة كان طاعة وإن عمل معصية كان معصية.


(1) تقدم، وانظر صحيح مسلم 1/218 و 2/69، 670، +671.
(2) تقدم تخريجه.
(1/324)

وأما النوع الثالث: فهو زيارتها للدعاء لها كالصلاة على الجنازة، فهذا هو المستحب الذي دلت السنة على استحبابه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وكان يعلم أصحابه ما يقولون إذا زاروا القبور، وأما زيارة قباء فيستحب لمن أتى المدينة أن يأتي قباء فيصلي فيه مسجدها، وكذلك يستحب له عند الجمهور أن يأتي البقيع وشهداء أحد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فزيارة القبور للدعاء للميت من جنس الصلاة على الجنائز يقصد فيها الدعاء لهم، لا يقصد فيها أن يدعو مخلوقاً من دون الله، ولا يجوز أن تتخذ مساجد، ولا تقصد لكون الدعاء عندها أو بها أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت والصة على الجنائز أفضل باتفاق المسلمين من الدعاء للموتى، عند قبورهم، وهذا مشروع، بلهو فرض على الكفاية متواتر متفق عليه بين المسلمين.
ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دعوه من دون الله ويستغيث به، كان هذا شركاً محرماً بإجماع المسلمين، ولو ندبه وناح لكان أيضاً محرماً، وهو دون الأول، فمن احتج بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع وأهل أحد، على الزيارة التي يفعلها أهل الشرك وأهل النياحة، فهو أعظم ضلالاً ممن يحتج بصلاته على الجنازة، على أنه يجوز أن يشرك بالميت ويدعي من دون الله ويندب ويناح عليه، كما يفعل ذلك من يستدل بهذا اذلي فعله الرسول وهو عبادة الله وطاعة له يثاب عليه الفاعل، وينتفع المدعو له ويرضى به الرب على أنه يجوز أن يفعل ما هو شرك بالله وإيذاء الميت وظلم من العبد لنفسه، كزيارة المشركين وأهل الجزع لا يخلصون لله الذين، ولا يسلمون لما حكم به سبحانه وتعالى.
فكل زيادة تتضمن فعل ما نهى عنه وترك ما أمر به كالتي تتضمن الجزع وقول الهجرة، وترك الصبر، أو تتضمن الشرك أو دعاء وترك إخلاص الدين لله فهي منهي عنها، وهذه الثانية أعظم إثماً من الأولى، ولا يجوز أن يصلي إليها، بل ولا عندها، بل ذلك مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها)) رواه مسلم في صحيحه (1) .
فزيارة القبور على وجهين: وجه نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق العلماء على أنه غير مشروع، وهو أن يتخذها مساجد ويتخذها وثناً ويتخذها عيداً فلا يجوز أن تقصد


(1) رواه مسلم 2/68 وقد تقدم أيضاً.
(1/325)

للصلاة الشرعية، ولا أن تعبد كما تعبد الأوثان، ولا أن تتخذ عيداً يجتمع إليها في وقت معين، كما يجتمع المسلمون في عرفة ومنى.
وأما الزيارة الشرعية فهي مستحبة عند الأكثرين، وقيل:كلها منهي عنها كما تقدم والذي تدل عليه الأدلة الشرعية أن يحمل المطلق من كلام العلماء على المقيد.
وتفصيل الزيارة على ثلاثة أنواع: منهي عنه،ومباح، ومستحب،وهو الصواب قال مالك وغيره: لا تأت إلا هذه الآثار، مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء، وأهل البقيع، وأحد فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد إلا هذين المسجدين وهاتيتن المقبرتين، كان يصلي يوم الجمعة في مسجده،ويوم السبت يذهب إلى قباء كما في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كل سبت راكباً وماشياً، فيصلي فيه ركعتين (1) .
وأما أحاديث النهي فكثيرة ومشهورة في الصحيحين وغيرهما: كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (2) ثم ذكر الأحاديث الواردة في ذلك، وقد سبق ذكرها غير مرة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود: ((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد)) (3) ، ورواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو حاتم في صحيحه، وفي سنن أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) (4) ، وفي موطأ مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (5) .
ثم ذكر الأثر المشهور في سنن سعيد بن منصور، وقال (6) : فلما أراد الأئمة اتباع سننه في زيارة قبره والسلام طلبوا ما يعتمدون عليه من سننه، فاعتمد الإمام أحمد على الحديث الذي في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من رجل يسلم على إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) (7) ، وعنه أخذ أبو داود


(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه ,
(4) تقدم تخريجه
(5) تقدم
(6) انظر الجواب الباهر ص49-50.
(7) تقدم.
(1/326)

ذلك، فلم يذكر في زيارة قبره غير هذا الحديث، وترجم عليه (باب زيارة القبر) مع أن دلالة الحديث على المقصود فيها نزاع وتفصيل، فإنه لا يدل على كل ما يسميه الناس زيارة باتفاق المسلمين.
ويبقى الكلام المذكور فيه، هل هو السلام عند القبر، كما كان من دخل عليه عائشة يسلم عليه، أو يتبادل هذا والسلام عليه من خارج الجرة، فاذلين استدلوا به جعلوه متناولاً لهذا، وهذا هوغاية ما كان عندهم في هذا الباب عنه صلى الله عليه وسلم وهو صلى الله عليه وسلم يسمع السلام من القرب، وتبلغه الملائكة عن أمتي السلام)) (1) ، وفي السنن عن أوس بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وأكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت فقال: ((إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء)) صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً (2) .
وذكر مالك في موطئه أن عبد الله بن عمر كان يأتي فيقول: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت (3) ، ثم ينصرف، وفي رواية كان إذا قدم من سفر، وعلى هذا اعتمد مالك رحمه الله فيما يفعل عند الحجرة إذ لم يكن عنده إلا أثر ابن عمر، وأما ما زاد على ذلك مثل الوقوف للدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع كثرة الصلاة والسلام عليه، فقد كره مالك،وذكر أنه بدعة لم يفعلها السلف ولا يصلح آخر هذه الأمة، إلا ما أصلح أولها والله تعالى أعلم.
قال المعترض
وأما الإجماع فقد حكاه القاضي عياض على ما سبق في الباب الرابع، وأعلم أن العلماء مجمعون على أن يستحب للرجال زيارة القبور، بل قال بعض الظاهرية بوجوبها للحديث المذكور، ومن حكى إجمال المسلمين على الاستحباب أبو زكريا النووي وقد رأيت في مصنف ابن أبي شيبة عن الشعبي، قال: لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتي، وهذا إن صح يحمل مع أن الشعبي لم يبلغ الناسخ من أن


(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه
(3) تقدم تخريجه وهو صحيح.
(1/327)

الشعبي لم يصرح بقول له ومثل هذا لا يقدح، وكذلك رأيت فيه عن إبراهيم قال: كانون يكرهون زيارة القبور، وهذا لم يثبت عندنا ولم يبين إبراهيم الكراهة عمن ولا كيف هي.
فقد تكون محمولة على نوع من الزيارة مكروة، ولم أجد شيئاً يمكن أن يتعلق به الخصم غير هذين الأثرين ومثلهما لا يعارض الأحاديث الصريحة والسنن المستفيضة والمعلومة من سير الصحابة والتابعين ومن بعدهم، بل لو صح عن الشعبي والنخي التصريح بالكراهة، لكان ذلك من الأقوال الشاذة التي لا يجوز اتباعها والتعويل عليها. انتهى كلامه.
والجواب: من وجوه؛ أحدها: أن يقال شيخ الإسلام لم يذهب إلى ما نقل عن الشعبي والنخعي في هذا الباب ولم يقل أن زيارة القبور محرمة، ولا مكروهة،بل ذكر أنها على أنواع كما تقدم ذكره قريباً، وقال: إن زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء للموتى مع السلام عليهم، فقول المعترض: ولم أجد شيئاً يمكن أن يتعلق به الخصم غير هذين الأثرين، كلام في نهاية السقوط.
الوجه الثاني: وهذا لم يثبت عندنا فيما رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي كلام ساقط أيضاً، وذلك أن هذا الأثر المذكور عن إبراهيم، رواه عن منصور بن المعتمر وهو من أثبت الناس في إبراهيم أو أثبتهم ورواه عن منصور سفيان الثوري وهو أثبت الناس فيه بلا خلاف، ورواه عن الثوري عبد الرزاق وغيره، فقول المعترض: ((هذا لم يثبت عندنا)) بعد إطلاعه على إسناده ووقوفه عليه يقيناً يدل على أنه في غاية الجهالة، وفي نهاية العناد واتباع الهوى، وقد علم المبتدئون في هذا العلم القاصرون فيه أن ما رواه سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي من أثبت الروايات وأصح الأسانيد، بل أصح أسانيد أهل الكوفة على الإطلاق الثوري عن منصور عن إبراهيم، فإذا قال القائل فيما نقل بهذا الإسناد، وهذا لم يثبت عندنا دل على فرط جهله، وعمى بصيرته أو على شدة معاندته ومتابعته هواه نسأل الله التوفيق.
الوجه الثالث: أنه ليس في المسألة إجماع لتحقيق ثبوت الخلاف فيها عن بعض المجتهدين، وإن كان قوله ضعيفاً من حيث الدليل، قال شيخ الإسلام في أثناء كلامه (1) ، مع أن نفس زيارة القبور مختلف في جوازها قال ابن بطال في شرح البخاري: كره قوم زيارة القبور، لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في النهي عنها وقال الشعبي: لولا أن


(1) انظر الرد على الأخنائي ص77.
(1/328)

رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتي، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون زيارة القبور، وعن أبن سيرين مثله، قال: وفي مجموعة قال علي بن زياد: سئل مالك عن زيارة القبور، فقال: كان قد نهى عنه عليه الصلاة والسلام ثم أذن فيه، فلو فعل ذلك إنسان،ولم يقل إلا خيراً لم أر بذلك بأساً وليس من عمل الناس، وروي عنه أنه كان يضعف زيارتها.
فهذا قول طائفة من السلف، ومالك في القول الذي رخص فيها يقول: ليس من عمل الناس، وفي الآخر ضعفها، فلم يستحبها إلا في هذا، ولا في هذا انتهى ما حكاه الشيخ.
وما رواه ابن |أبي شيبة في مصنفه (1) عن الشعبي قد رواه عبد الرزاق في مصنفه أيضاً عنه، فروى الثوري، عن مجالد بن سعيد (2) ، قال: سمعت الشعبي يقول: لولا أن


(1) انظر المصنف 3/569 باب زيارة القبور.
(2) قال فيه البخاري: كان يحيى بن سعيد يضعفه وكان ابن مهدي لا يروي عنه وكان أحمد بن حنبل لا يراه شيئاً، وقال ابن المديني قلت ليحيى بن سعيد مجالد قال في نفسي منه شيء وقال أحمد بن سنان القطان سمعت ابن مهدي يقول: حديث مجالد عند الأحداث أبي أسامة وغيره: ليس بشيء..يعني أنه تغير حفظه في آخر عمره.
وقال أبو طالب عن أحمد:ليس بشيء يرفع حديثاً كثيراً لا يرفعه الناس وقد احتمله الناس وقال الدوري عن ابن معين: لا يحتج بحديثه وقال ابن أبي خثيمة عن ابن معين: ضعيف واهي الحديث.
كان يحيى بن سعيد يقول لو أردت أن يرفع لي مجالد حديثه كله رفعه، قلت ولو يرفعه قال للضعف وقال ابن أبي حاتم سئل أبي يحتج بمجالد قال: لا وهو أحب إلي من بشر بن حرب وأبي هارون العبدي وشهر بن حوشب وعيسى الخياط ودجاود الأودي وليس مجالد بقوي في الحديث.
وقال النسائي: ليس بالقوي ووثقه مرة وقال ابن عدي له عن الشعبي عن جابر أحاديث صالحة وعن غير جابر وعامة ما يروه غير محفوظ، وقال عمرو بن علي وغيره مات سنة أربع وأربعين ومائة في ذي الحجة حديثه عند مسلم مقرون قلت: وقال يعقوب بن سفيان تكلم الناس فيه وهو صدوق وقال الدارقطني يزيد بن أبي زياد أرجح منه ومجالد لا يعتبر به وقال الساحي قال محمد بن المثنى يحتمل حديثه أصدقه، وقال ابن سعد كان ضعيفاً في الحديث وقال العجيلي جائز الحديث إلا أن ابن المهدي كان يقول أشعث بن سوار كان أقرأ منه قال المجلي بن مجالد أرفع من أشعث وكان يحيى بن سعيد يقول: كان مجالد يلقن في الحديث إذا لقن وقال البخاري صدوق وقال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به وقال الذهبي أورد البخاري في كتاب الضعفاء في ترجمة مجالد حديثاً من طريق عن الشعبي عن ابن عباس في فضل فاطمة،وهو موضوع صريح ما كان ينبغي أن يذكر في ترجمة مجالد فإن المتهم به رواة واه عن عبد الله بن نمير والآفة من الراوي المذكور فيه أهـ. من تهذيب التهذيب 10/39-41
انظر التاريخ الكبير للبخاري 8/9 والصغير ص112 والميزان 3/438 والمغني 2/542 والكاشف 3/106 ولسان الميزان 7/349 والجرح والتعديل 8/360 وطبقات ابن سعد 6/349 والضعفاء للعقيلي 4/232 والكامل لابن عدي 6/2414 – 2417 والعبر وشذرات الذهب 1/216 وتاريخ خليفة 420 وطبقاته 16 والكامل في التاريخ 5/512.
(1/329)

رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتي، ومجالد من أصحاب الشعبي، وفيه مقال لبعض أهل العلم من قبل حفظه، وكان الشعبي سمع النهي عن زيارة القبور، ولم يبلغه الناسخ، وروى عبد الرزاق أيضاً عن معمر، عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من زار القبور فليس منا)) (1) وهذا مرسل من مراسيل قتادة وهو منسوخ.
وروى عبد الرزاق (2) ، عن الثوري، عن منصور عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون زيارة القبور، وهذا صحيح ثابت إلى إبراهيم وهو الذي ضعفه المعترض عنه بلا علم، وكثيراً ما يقول إبراهيم النخعي: كانوا يفعلون كذا، وكانون يكرهون كذا، والظاهر أنه يريد بهم شيوخه، ومن يحمل عنه العلم من أصحاب علي وابن مسعود وغيرهما.
والمقصود أن الإجماع المذكور في هذه المسألة غير محقق، وإن كان قوله من خالف الجمهور فيها ضعيفاً، وشيخ الإسلام لم يذهب إلى هذا القول المخالف لقول الجمهور، وإنما حكاه غيره من أهل العلم والله أعلم.
قال المعترض
فإنا نقطع ونتحقق من الشريعة بجواز زيارة القبور للرجال وقبر النبي صلى الله عليه وسلم داخل في هذا العموم ولكن مقصودنا إثبات الاستحباب له بخصوصه للأدلة الخاصة بخلاف غيره ممن لا يستحب زيارة قبره لخصوصه، بل لعموم زيارة القبور، وبين المعنيين فرق لما لا يخفى، فزيارته صلى الله عليه وسلم مطلوبة بالعموم والخصوص بل أقول: إنه لو ثبت خلاف في زيارة قبر غير النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم من ذلك إثبات خلاف في زيارته، لأن زيارة القبر تعظيم، وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم واجب وأما غيره فليس كذلك، ولهذا المعنى أقول والله أعلم: أنه لا فرق في زيارته صلى الله عليه وسلم بين الرجال والنساء لذلك ولعدم المحذور في خروج النساء إليه،وأما سائر القبور فمحل الإجماع على استحباب زيارتها للرجال، وأما النساء ففي زيارتهن للقبور أربعة أوجه في مذهبنا أشهرها، أنها مكروهة جزم بهالشيخ أبو حامد


(1) انظر مصنف عبد الرزاق 3/569.
(2) انظر مصنف عبد الرزاق 3/569 وإسناده صحيح.
(1/330)

والمحاملي وابن الصباغ والجرجاني ونصر المقدسي، وابن أبي عصرون وغيرهم.
وقال الرافعي: إن الأأكثرين لم يذكروا سواه، وقال النووي: قطع به الجمهور وصرح بأنها كراهة تنزيه.
والثاني: أنها لا تجوز قال صاحب المذهب وصاحب البيان.
والثالث: لا تستحب ولا تكره، بل تباع قاله الروياني.
والرابع: إن كانت لتجديد الحزن والبكاء بالتعديد والنوح على ما جرت به عادتهم فهو حرام، وعليه يحمل الخبر، وإن كانت للاعتبار بغير تعديد ولا نياحة كره إلا أن تكون عجوزاً لا تشتهي فلا يكره كحضور الجماعة في المساجد، قاله الشاشي، وفرق بين الرجل والمرأة بأن الرجل معه من الضبط والقوة بحيث لا يبكي ولا يجزع بخلاف المرأة.
واحتج المانعون بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن زوارات القبور)) (1) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال: حسن صحيح، ورواه ابن ماجه من حديث حسان بن ثابت.
واحتج المجوزون بأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها)) وأجاب المانعون بأن هذا خطاب الذكور، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي رآها عند قبر تبكي: ((اتقي الله واصبري ولم ينهها عن الزيارة)) (2) وهو استدلال صحيح، ومنه قول عائشة، كيف أقول يا رسول الله قال: ((قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين)) (3) ،وسنذكره في خروج النبي صلى الله عليه وسلم للبقيع وهو استدلال صحيح. انتهى ما ذكره.
والجواب: أن يقال: هذا المعترض لو نوقش على جميع ما يقع في كلامه من الدعاوي والخلل واللفظ المجمل لطال الخطاب، ولكن التنبيه على بعض ذلك كاف لمن له أدنى فهم وعنده أدنى علم، وقوله: زيارة القبور تعظيم، وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم و (3) الكلام عليه من وجوه


(1) أخرجه البخاري 3/371 رقم 1056 وابن ماجة 1/502 بإسناد صحيح، وأخرجه ابن ماجة 1/502 رقم 1574 من حديث حسان بن ثابت ورقم 1575 من حديث ابن عباس.
أما حديث حسان فضعيف في إسناده عبد الرحمن بن يهمان وهو مقبول كما في التقريب لكن يشهد له حديثاً أبي هريرة وابن عباس، فهو حسن لغيره وحديث ابن عباس حسن إن شاء الله تعالى.
(2) أخرجه البخاري 3/148 رقم 1283 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3) رواه مسلم وقد تقدم تخريجه.
(1/331)

أحدهما أن يقال: هاتان المقدمتان إن أخذتا على إطلاقهما أنتجتا أن زيارة قبره واجبه وهو إنتاج لازم للمقدمتين لزوماً بيناً (1) ، فإن الضرب الأول من الشكل الأول والحد الأوسط فيه محمول في الأولى موضوع في الثانية، فتكون النتيجة موضوع الأولى ومحمول الثانية، وهي زيارة قبره واجبة، ثم يلزم على هذا لوازم منها أن تارك زيارة قبره عاص آثم مستحق للعقوبة منتفي العدالة لا تصح شهادته، ولا تقبل روايته ولا فتواه، وفي هذا تفسيق جميع الصحابة إلا من صح عنه منهم الزيارة، ولا ريب أن هذا شر من قول الرافضة الذين فسوقا جمهورهم بتركهم توليه علي، بل هو من جنس قول الخوارج الذين يكفرون بالذنب.
لأن تارك هذه الزيارة عنده تارك لتعظيمه، وترك تعظيمه كفر أو ملزوم للكفر، فإن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم من لوازم الإيمان فعدمه مستلزم للكفر، وعلى هذا فكل من لم يزر قبره فهو كافر، لأنه تارك لتعظيمه صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن الرافضة والخوارج لم يصلوا إلى هذا الجهل والكذب على الله ورسوله وعلى الأمة.
يوضحه الوجه الثاني: أن الخوارج إنما كفروا الأمة بمخالفة أمره ومعصيته وتمسكوا بنصوص متشابهة لم يردوها إلى المحكم، وأما عباد القبور فكفروا بموافقة الرسول في نفس مقصوده، وجعلوا تجريد التوحيد كفراً وتنقصاً فأين المكفر بالذنب إلى المكفر بموافقة الرسول وتجريد التوحيد؟
يوضحه الوجه الثالث: أن زيارة قبره لو كانت تعظيماً له لكانت مما لا يتم الإيمان إلا بها، ولكان فرضاً معيناً على كل من استطاع إليها سبيلاً، من قرب أو بعد، ولما أضاع السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان هذا الفرض قام به الخلف الذين خلفوا من بعدهم يزعمون أنهم بذلك أولياء الرسول وحزبه القائمون بحقوقه، وما كانوا أولياء إن أولياؤه إلا أهل طاعته والقيام بما جاء به علماً ومعرفة وعملاً وإرشاداً وجهاداً، والذين جردوا التوحيد الخالق وعرفوا للرسول حقه، ووافقواه في تنفيذ ما جاء به والدعوة إليه والذب عنه.
الوجه الرابع: أنه إذا كان زيارة قبره واجبة على الأعيان كانت الهجرة إلى القبر أكد من الهجرة إليه في حياته، فإن الهجرة إلى المدينة انقطعت بعد الفتح كما قال


(1) قلت: وهكذا يقال لأصحاب بدعة الموالد فإنهم يقولون: المولد تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم وتعظيمه واجبه.
فيجاب عليهم بنفس الجواب الذي أجاب به الحافظ ابن عبد الهادي ها هنا.
(1/332)

النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا هجرة بعد الفتح)) (1) .وعند عباد القبور أن الهجرة إلى القبر فرض معين على من استطاع إليه سبيلاً، وليس بخاف أن هذا مراغمة صريحة لما جاء به الرسول وإحداث في دينه ما لم يأذن به،وكذب عليه وعلى الله، هذا من أقبح التنقص.
وقد ذكر المعترض في موضع من كتابه أنه رأس فتيا بخط شيخ الإسلام وفيها: ولهذا كانت زيارة القبور على وجهين: زيارة شرعية،وزيارة بعدية.
فالزيارة الشرعية: مقصودها السلام على الميت والدعاء له إن كان مؤمناً وتذكر الموت سواء كان الميت مؤمناً أم كافراً، قال: وبعد ذلك: فالزيارة لقرب المؤمن نبياً كان أو غير نبي من جنس الصلاة على جنازته يدعي كما يدعي إذا صلى على جنازته.
وأما الزيارة البدعية: فمن جنس زيارة النصارى مقصودها الإشراك بالميت مثل: طلب الحوائج منه أو به، أو التمسح بقبره وتقبيله، أو السجود له ونحو ذلك، فهذا كله لم يأمر اله به، ولا رسوله، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين ولا أحد من السلف يفعله لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره.
قال المعترض: بعد حكايته هذا الكلام عن الشيخ: وبقي قسم لم يذكره وهو أن تكون للتبرك به من غير إشراك به فهذه ثلاثة أقسام.
أولها: السلام والدعاء له، وقد سلم جوازه وأنه شرعي.
والقسم الثاني: التبرك به والدعاء عنده للزائر، وقال:وهذا القسم يظهر من فحوى كلام ابن تيمية أنه يلحقه بالقسم الثالث، ولا دليل له على ذلك، بل نحن نقطع ببطلان كلامه فيه، وأن المعلوم من الدين وسير السلف الصالحين التبرك ببعض الموتى من الصالحين، فكيف بالأنبياء والمرسلين، ومن أدعى أن قبور الأنبياء وغيرهم من أموات المسلمين سواء فقد أتى أمراً عظيماً نقطع ببطلانه وخطئه فيه، وفيه حظ لرتبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى درجة من سواه من المؤمنين وذلك كفر بيقين.


(1) أخرجه البخاري 6/283 وأخرجه أيضاً في كتاب الحج الباب رقم 43 وفي الجهاد باب رق 193 وباب رقم 1/وباب رقم 27 ومسلم 2/986 و 3/1486 وأبو داود رقم 2480 والترمذي 4/148 – 149 رقم 1590 والنسائي 7/147 رقم 4170 والدارمي 2/239 وأحمد في مسنده رقم 1991، 2396، 2898 طبعة أحمد شاكر، جميعاً من حديث ابن عباس.
وأخرجه مسلم 3/1488 من حديث عائشة رضي الله عنها.
(1/333)

فإن من حط رتبة النبي صلى الله عليه وسلم عما يجب له فقد كفر، فإن قال: إن هذا ليس يحط، ولكنه منع من التعظيم فوق ما يجب له، قلت هذا جهل وسوء أدب، وقد تقدم في أول الباب الخامس الكلام في ذلك ونحن نقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم يستحق التعظيم أكثر من هذا المقدار في حياته وبعد موته، ولا يرتاب في ذلك من في قلبه شيء من الإيمان، هذا كله كلام المعترض.
فانظر إلى ما تضمنه من الغلو والجهل والتكفير بمجرد الهودى وقلة العلم، أفلا يستحي من هذا مبلغ علمه أن يرمي أتباع الرسول وحزبه وأولياءه برأيه اذلي يشهد به عليه كلامه، لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً.
الوجه الخامس: أن يقال لهذا المعترض وأشباهه من عباد القبور: أتوجبون كل تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم أو نوعاً خاصاً من التعظيم؟ فإن أوجبتم كل تعظيم لزمكم أن توجبوا السجود لقبره وتقبيله واستلامه والطواف به، لأنه من تعظيمه، وقد أنكر صلى الله عليه وسلم على من عظمه بما لم يأذن به كتعظيم من سجد له، وقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)) (1) ، ومعلوم أن مطرية أنما قصد تعظيمه وقال صلى الله عليه وسلم لمن قال له يا محمد، يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا،وأبن خيرنا: ((عليكم بقولكم ولا تستهوينكم الشيكان أنا محمد بن عبد الله ورسوله)) والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل (2) ، فمن عظمه بما لا يحب فإنما أتى بضد التعظيم، وهذا نفس ما حرمه الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ونهى عنه وحذر منه.
وأيضاً فإن الحلف به تعظيم له، فقولوا: يجب على الحالف أن يحلف به، لأنه تعظيم له وتعظيمه واجب، وكذلك تسبيحه وتكبيره والتوكل عليه والذبح باسمه،كل هذا تعظيم له، معلوم أن إيجاب هذا مثل إيجاب الحج إليه بالزيارة على م استطاع إليه سبيلاً، ولا فرق بينهما، وإن قلتم إنما نوجب نوعاً خاصاً من التعظيم طولبتم بضابط هذا النوع وحده، والفرق بينه وبين التعظيم الذي لا يجب ولا يجوز، وبيان أن الزيارة من هذا النوع الواجب، وإلا كنتم متناقضين موجبين في الدين ما لم يوجبه الله وشارعين شرعاً لم يأذن به الله.
الوجه السادس: أن يقال: الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما خطر بالبال تعظيم له فأوجبوا له


(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(1/334)

هذا التعظيم، وحكموا على من قال: لا يجب بأنه تارك لتعظيمه، بل حكموا على من قال: لا تجب الصلاة عليه كلما ذكر،ولا تجب الصلاة عليه في الصلاة أولا تجب في العمر إلا مرة، أولا تجب أصلاً بأنه تارك للتعظيم، لأن الصلاة عليه تعظيم له بلا ريب، فهل كان أئمة الإسلام وعلماء الأمة نافين لتعظيمه تاركين له بنفيهم الوجوب،أم كانوا أشد تعظيماً له منكم وأعرف بحقوقه وأحفظ لدينه أن يزاد فيه ما ليس منه.
يوضحه الوجه السابع: إن الذين كرهوا من الفقهاء الصلاة عليه عند الذبح يكونون على قولكم تاركين لتعظيمه، وذلك قادح في إيمانهم، وكذلك من كره، أو حرم الحلف به وقال: لا تعتقد يمين الحالف به يكون على قولكم تاركاً لتعظيمه، لأن الحلف به تعظيم له بلا ريب.
الوجه الثامن: إن القول بعدم وجوب زيارة قبره، أو بعدم استحبابها، أو بعد جواز شد الرحال لا يقدح في تعظيمه بوجه من الوجوه، وهو بمنزلة قول من قال من أئمة الإسلام: لا تجب الصلاة عليه في التشهد الأخير وبمنزلة قول من قال منهم: تكره الصلاة عليه عند الذبح، وبمنزلة قوله من قال: لا تستحب الصلاة عليه في التشهد الأول، ولا عند التشهد في الأذان، بل قول من نفى وجوب الزيارة، أو جواز شد الرحال إلى أولى أن لا يكون منافياً للتعظيم من قول من نفى وجوب الصلاة عليه، أو استحبابها في بعض المواضع، لأن الصلاة عليه مأمور بها، وقد ضمن للمصلي عليه مرة أن يصلي الله عليه عشراً، بل الصلاة عليه محض التعظيم له، فنفي وجوبها أو استحبابها في موضع ليس بترك للتعظيم، وليس إنكار وجوب كل من الأمرين قادحاً في تعظيمه، بل ذلك عين تعظيمه يدل عليه.
الوجه التاسع: أن تعظيمه هو موافقته في محبة ما يحب وكراهة ما يكره، والرضا بما يرضى به، ولفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والمبادرة إلى ما رغب فيه والبعد عما جذر منه، وأن لا يتقدم بين يديه ولا يقدم على قول أحد سواه، ولا يعارض ما جاء به بمعقول، ثم يقدم المعقول عليه كما يقوله أئمة هذا المعترض الذين تلقى عنهم أصول دينه، وقدم آرائهم وهو أحسن ظنونهم على كلام الله ورسوله، ثم ينسب ورثة الرسول الموافقين مع أوقاله المخالفين لما خلفها من ترك التعظيم والتنقيص، وأي إخلاف بتعظيمه وأي تنقص فوق من عزل كلام الرسول عن إفادة اليقين، وقدم عليه آراء الرجال وزعم أن العقل يعارض ما جاء به، وأن الواجب تقديم المعقول، وآراء الرجال على قوله.
(1/335)

الوجه العاشر: أن إيجاب زيارة قبرة، واستحبابها وشد الرحال إليه لأجل تعظيمه يتضمن جعل القبر منسكاً يحج إلي البيت العتيق كما يفعله عباد القبور ولا سيما فإنهم يأتون عنده بنظير ما يأتي به الحاج من الوقوف والدعاء والتضرع، وكثير منهم يطوف بالقبر ويستلمه ويقبله ويتمسح به، فلم يبق عليه من الأعمال المناسك إلا الحلق والنحر ورمي الجمار، فإيجاب الوسيلة إلى هذا المحذور، أو استحبابها من أعظم الأمور منافاة لما شرعه الله ورسوله.
وقد آل الأمر بكثير من الجهال إلى النحر عند قبور من يشدون الرحال إلى قبورهم وحلق رؤوسهم عند قبورهم، وتسمية زيارتها حجاً ومناسك، وصنف فيه بعضهم كتاباً سماه مناسك حج المشاهد وكان سبب هذا هو الغلو الذي يظنه من علمه تعظيماص ولا ريب أن هذا أكره شيء إلى الرسول قصداً ووسيلة.
الوجه الحادي عشر: أن هذا الذي قصده عباد القبور من التعظيم هو بعينه السبب الذي لأجله حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها، ولعن فاعل ذلك، ونهى عن الصلاة إليها وحرم اتخاذ قبره عيداً، ودعا ربه أن لا يجعل قبره وثناً يعبد ولأجله نهى فضلاء الأمة وساداتها عن ذلك، ولأجله أمر عمر بتعفية قبر دنيال (1) لما ظهر في زمان الصحابة، ولأجله منع مالك من نذر إتيان المدينة، وأراد القبر أن يوفي بنذره ولأجله كره الشافعي أن يعظم قبر مخلوق حتى يجعل مسجداً كما قال: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً، ولأجله كره مالك أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لما يوهم هذا اللفظ من أنه قصد المدينة لأجل زيارة القبر.
ولما فيه من تعظيم القبر الزيارة إليه مع كونه أعظم القبور على الإطلاق وأجلها وأشرف قبر على وجه الأرض، فالفتنة بتعظيمه أقرب من الفتنة بتعظيم غيره من القبور، فحمى مالك رحمه الله تعالى الذريعة حتى في اللفظ، ومنع الناذر من إتيانه، ولو كان إتيانه قربة عنده لأوجب الوفاء به، فإن من أصله أن كل طاعة تجب بالنذر سواء كان من جنسها واجب بالشرع، أو لم يكن.
ولهذا يوجب إتيان مسجد المدينة على من نذر إتيانه وقد منع ناذر القبر من الوفاء بنذره، فلو كان ذلك عنده قربة لألزمه الوفاء به، ومن رد هذا النقل عنه وكذب الناقل فهو من جنس من افترى الكذب وكذب بالحق لما جاءه، فإن ناقله ممن له لسان صدق في


(1) انظر هذه القصة في فضائل الشام ودمشق للربعي تخريج الشيخ ناصر، ص50.
(1/336)

الأمة بالعلم والإمامة والصدق والجلالة، وهو القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد أحد الأئمة الأعلام، وكان نظير الشافعي، وإماماً في سائر العلوم حتى قال المبرد: إسماعيل القاضي أعلم مني بالتصريف، وروى عن يحيى بن أكثم أنه رآه مقبلاً فقال: قد جاءت المدينة، وقد ذكر هذا النقل عن مالك في أشهر كتبه عند أصحابه وأجلها عندهم وهو المبسوط فمن فهو بمنزلة من كذب مالكاً والشافعي وأبا يوسف ونظراءهم.
ومتى وصل الهوى بصاحبه إلى هذا الحد فقد فضح نفسه وكفى خصمه مؤنته،ومن جمع أقوال مالك وأجوبته وضم بعضها إلى بعض، ثم جمعها إلى أقوال السلف وأجوبتهم قطع بمرادهم وعلم نصيحتهم للأمة، وتعظيمهم للرسول وحرصهم على اتباعه وموافقته في تجريد التوحيد وقطع أسباب الشرك، وبهذا جعلهم الله أئمة وجعل لهم لسان صدق في الأمة، وفلو ورد عنهم شيء خلاف هذا لكان من المتشابه الذي يرد إلى المحكم من كلامهم وأصولهم، فكيف ولم يصح عنهم حرف واحد يخالفه.
فتبين أن هذا التعظيم الذي قصده عباد القبور هو الذي كرهه أهل العلم وهو الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى أمته عنه، ولعن فاعله، وأخبر بشدة غضب الله عليه حيث يقول: ((اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (1) ،ويقول: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (2) ، ومعلوم قطعاً أنهم إنما فعلوا ذلك تعظيماً لهم ولقبورهم، فعلم أن من التعظيم للقبور ما يعلن الله فاعله ويشتد غضبه عليه.
الوجه الثاني عشر: أن هذا الذي يفعله عباد القبور من المقاصد والوسائل ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان، والجوارح وهم أبعد الناس منه، فالتعظيم بالقلب ما يتبع اعتقاد كونه رسولاً من تقديم محبته على نفسه والولد والوالد والناس أجمعين ويصدق هذه المحبة أمران:
أحدهما: تجريد التوحيد، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الخلق على تجريده حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، ونهى عن عبادة الله بالتقرب إليه بالنوافل من الصلوات في الأوقات التي يسجد فيها عباد الشمس لها، بل قبل ذلك الوقت بعد أن


(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(1/337)

تصلي الصبح والعصر لئلا يتشبه الموحدون بهم في وقت عبادتهم،ونهى أن يقال:/ ما شاء الله وشاء فلان (1) ، ونهى أن يحلف بغير الله، وأخبر أن ذلك شرك (2) ونهى أن يصلي إلى القبر (3) ، أو يتخذ مسجداً (4) ، أو عيداً (5) ، أو يوقد عليه سراج وذم (6) ، من شرك بين اسمه واسم ربه تعالى في لفظ واحد، فقال له: بئس الخطيب أنت (7) ، بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحى النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وهديه، وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه.
الثاني: تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه والرضا بحكمه والانقياد له والتسليم والإعراض عمن خالفه وعدم الالتفات إليه حتى يكون وحده الحاكم المتبع المقبول قوله، كما كان ربه تعالى وحده المعبود المألوه المخوف المرجو المستغاث المستعان به المتوكل عليه الذي إليه الرغبة والرهبة، وإليه الوجهة والعمل الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد وتفريج الكربات ومغفرة الذنوب، والذي خلق الخلق وحده ورزقهم وحده وأحياهم وحده، وأماتهم وحده ويبعثهم وحده ويغفر ويرحم


(1) يشير إلى ما أخرجه النسائي 7/6 رقم 3773 من حديث قتيله أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وعله آله وسلم فقال: ((إنكم تندون وإنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة ويقولون ما شاء الله ثم شئت.
وإسناده صحيح كما بينه في رسالتي (تمام المنة في تخريج حديثي أفلح وأبيه إن صدق وأما أبيك لتنبأنه)
(2) يشير إلى حديث ابن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) وهو حديث صحيح.
وقد خرجته وجمعت طرقه في تحقيقي على رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية (الواسطة بين الحق والخلق) .
(3) يشير إلى ما أخرجه مسلم في صحيحه (لا تصلوا إلى القبور … ) تخريجه.
(4) يشير إلى قوله عليه الصلاة والسلام (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما فعلوا ولولا ذلك لأبرز قبره، عليه الصلاة والسلام، وتقدم تخريجه.
(5) يشير إلى قوله عليه الصلاة والسلام (لا تجعلوا قبري عيداً) وتقدم تخريجه.
(6) يشير إلى قوله عليه الصلاة والسلام (لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها السرج) وتقدم تخريجه.
(7) الحديث أخرجه مسلم 2/594 من حديث عدي بن حاتم.
(1/338)

ويهدي ويضل ويسعد ويشقي وحده، وليس لغيره من الأمر شيء، كائناً من كان بل الأمر كله لله.
وأقرب الخلق إليه وسيلة وأعظمهم عنده جاهاً وأرفعهم لديه ذكراً وقدراً وأعمهم عنده شفاعة ليس له من الأمر شيء ولا يعطي أحد شيئاً، ولا يمنع أحد شيئاً، ولا يملك لأحد ضراً ولا رشداً، وقد قال الأقرب الخلق إليه وهم ابنته وعمه وعمدته: ((يا فاطمة بنت محمد لا أغني عليك من الله شيئاً، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس عم رسول اله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول اله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً)) (1) .
فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم النافع للمعظم في معاشه ومعاده الذي هو لازم إيمانه وملزومه، وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه، وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير، فكما أن المقصر المفرط تارك لتعظيمه، فالغالي المفرط كذلك، وكل منهما شر من الأجر من وجه دون وجه، وأولياءه سلكون بين ذلك قواماً؛ وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته والسعي في إظهار دينه وإعلانه كلماته ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه.
وبالجملة:فالتعظيم النافع هو تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله وفيه وتحكيمه وجدة والرضا بحكمه، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله: فما وافقها من قول الرسول قبله وما خالفها رده، أو تأوله أو فوضه،أو أعرض عنه، والله سبحانه يشهد وكفى به شهيداً وملائكته ورسله وأولياؤه إن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك، وهم يشهدون على أنهم بذلك.
وما كان لهم أن ينصروا دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم شاهدين على أنفسهم بتقديم آراء شيوخهم،وأقوال متبوعهم على قوله، وأنه لا يستفاد من كلامه يقين، وأنه إذاعارضة الرجال قدمت عليه، وكان الحكم ما تحكم به، أفلا يستحي من الله ومن العقلاء من هذا حالة في أصول دينه وفروعه أن يستر بتعظيم القبر ليوهم الجهال أنه معظم لرسوله ناصر له


(1) تقدم تخريجه.
(1/339)

منتصر له ممن ترك تعظيمه وتنقصه، ويأبى الله ذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون: ((وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون، ولكن أكثرهم لا يعلمون)) ((وقيل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين وستردون إلى عال الغيب والشهادة فينبكم بما كنتم تعملون)) .
قال المعترض
وقد خرجنا عن المقصود إلى غرضنا وهو الاستدلال على أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قربة؛ وما يدل على ذلك القياس، وذلك على زيارة النبي صلى الله عليه وسلم البقيع وشهداء أحد وسنيين أن ذلك غير خاص به صلى الله عليه وسلم، بل مستحب لغيره، وإذا استحب زيارة قبر غيره صلى الله عليه وسلم فقبره أولى لماله من الحق ووجوب التعظيم.
فإن قلت: الفرق أن غيره يزار للاستغفار له لاحتياجه إلى ذلك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة أهل البقيع والنبي صلى الله عليه وسلم مستغن عن ذلك.
قلت: زيارته صلى الله عليه وسلم إنما هي لتعظيمه والتبرك به ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه كما إنا مأمورون بالصلاة عليه والتسليم، وسؤال الله له الوسيلة وغير ذلك مما يعلم أنه حاصل له صلى الله عليه وسلم بغير سؤالنا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى ذلك لتكون بدعائنا له متعرضين للرحمة التي رتبها الله على ذلك.
فإن قلت: الفرق أيضاً أن غيره لا يخشى فيه محذور، وقبره صلى الله عليه وسلم يخشى الإفراط في تعظيمه أن يعبد.
قلت: هذا كلام تقشعر منه الجلود، ولولا خشية اغترار الجهال به لما ذكرته فإن فيه تركاً لما دلت عليه الدلالة الشرعية بالآراء الفاسدة الخالية، وكيف يقدم على تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم ((زوروا القبور)) وعلى ترك قوله: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) وعلى مخالفة إجماع السلف والخلف بمثل هذا الخيال الذي لم يشهد به كتاب ولا سنة، وهذا بخلاف النهي عن اتخاذه مسجداً وكون الصحابة احترزوا عن ذلك للمعنى المذكور، لأن ذلك قد ورد النهي فيه، وليس لنا نحن أن نشرع أحكاماً من قبلنا {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} (الشورى 021) فمن منع زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقد شرع من الدين ما لم يأذن له، وقوله مردود عليه، ولو فتحنا باب هذا الخيال الفاسد لتركنا كثيراً من السنن، بل ومن الواجبات، والقرآن كله والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة وسير
(1/340)

الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين والسلف الصالحين على وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والمبالغة في ذلك.
ومن تأمل القرآن العزيز وما تضمنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة ف بتعظيمه وتوقيره والأدب معه،وما كانت الصحابة يعاملونه به من ذلك املآ قلبه إيماناً واحتقر هذا الخيال الفاسد، واستكف أن يصغي إليه والله تعالى هو الحافظ لدينه، ومن يهدي الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وعلماء المسلمين متكلفون بأن يبينوا للناس ما يجب من الأدب والتعظيم والوقوف عند الحد الذي لا يتجوز مجاوزته بالأدلة الشرعية، وبذلك يحصل الأمن من عبادة غير الله، ومن أراد الله إضلاله من أفراد الجهال فلن يستطيع أحد هدايته، فمن ترك شيئاً من التعظيم المشروع لمنصب النبوة زاعماً بذلك الأدب مع الربوبية فقد كذب على الله تعالى وضيع ما أمر به في حق رسله، وكما أن من أفرط وجاوز الحد إلى جانب الربوبية فقد كذب على رسول الله وضيع ما أمروا به في حق ربهم سبحانه وتعالى، والعدل حفظ ما أمر الله به في الجانبين، وليس في الزيارة المشروعة من التعظيم ما يفضي إلى محذور، انتهى ما ذكره.
والجواب: أن يقال: لا يخفى ما في هذا الكلام من التلبيس والتمويه والغلو والتخليط، والقول بغير علم، والمناقشة على جميع ذلك نفضي إلى التطويل، ولكن التنبيه على البعض كاف لمن وفقه الله.
وأعلم أن هذا المعترض من أكثر الناس تلبيساً وخلطاً للحق بالباطل (1) ، ولهذا قد يروج كلامه على كثير منهم، وقوله: إن زيارة قبره قياساً على زيارته صلى الله عليه وسلم البقيع وشهداء أحد هو من أفسد القياس لما بين الزيارتين من الفرق المبين، وقد أقر المعترض بالفرق بأن زيارته صلى الله عليه وسلم لهم إحصان إليهم وترحم عليهم واستغفار لهم، وأن زيارة قبره إنما هي لتعظيمه والتبرك به وكيف يقاس على الزيارة التي لا يتعلق بها مفسدة البتة، بل هي


(1) قلت وهو إمام المضللين في عصرنا هذا وبه يقتدون التلبيس على العوام ويخلط الحق بالباطل وبتحريف الكلم عن مواضعه وذلك مثل محمد علوي مالكي ومحمد علي الصابوني والرفاعي وغيرهم.
وانظر كتاب المالكي الذي سماه (مفاهيم يجب أن تصحح) وإلى كتاب الصابوني الذي سماه (الهدي النبوي الصحيح في صلاة التراويح) وإلى كتاب الرفاعي الذي سماه (أهل السنة والجماعة) وأنظر إلى ما فيهما من التلبيس والخيانة ولبس الحق بالباطل.
(1/341)

مصلحة محضة، الزيارة التي يخشى بها أعظم الفتنة وتتخذ وسيلة إلى ما يبغضه المزور ويكرهه ويمقت فاعله حتى لو كانت الزيارة من أفضل القربات، وكانت ذريعة ووسيلة إلى ما يكرهه المزور ويبغضه لنهي عنها طاعة له وتعظيماً ومحبة وتوقيراً وسعياً في محابه، كما نهى عن الصلاة التي هي قربة إلى الله في الأوقات المخصوصة لما يستلزم من حصول ما يكرهه الله ويبغضه، ولم يكن في ذلك إخلال بتعظيم الله بل هذا عين تعظيمه وإجلاله وطاعته، فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه سر الفرق بين عباد القبور وأهل التوحيد.
وقوله: إن زيارته سبب لأن تنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه، فيقال له: كأ، الرحمة لا تنال بالصلاة والسلام عليه عندك إلا من صلى عليه وسلم عند قبره،وهذا ما لا تقوله أنت ولا أحد من المسلمين معك، فهو كلام فيه تمويه وتلبيس، قوله: فإن قلت: الفرق أيضاً أن غيره لا يخشى فيه محذور وقبره يخشى الإفراط في تعظيمه أن يعيده، سؤال لا تخفى صحته وقوته على أهل العلم والإيمان، وقوله في جوابه: هذا الكلام تقشعر منه الجلود ولولا خشية اغترار الجهال به لما ذكرته، فيقال نعم تقشعر منه جلود عباد القبور، الذين إذا دعو إلى عبادة الله وحدة وأن لا يشرك به ولا يتخذ من دونه وثن يعبد اشمأزت قلوبهم واقشعرت جلودهم وأكفهرت وجوههم، ولا يخفى أن هذا نوع شبه موافقة للذين قال الله فيهم {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (الزمر 045) ثم يقال: أما جلود أهل التوحيد المتبعين للرسول العالمين بمقاصده الموافقين له فيما أحبه ورغب فيه وكرهه وحذر منه، فإنها لا تقشعر من هذا الفرق، بل تزيد قلوبهم وجلودهم طمأنينة وسكينة وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوهم مرض فلا تزيدهم قواعد التوحيد وأدلته وحقائقه وأسراره إلا رجساً إلى رجسهم، وإذا سلك التوحيد في قلوبهم دفعته قلوبهم وأنكرته ظناً منهم أنه تنقص وهضم الأكابر وإزراء بهم، وحط لهم من مراتبهم واتباع هؤلاء ضعفاء العقول، وهم أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق.
وأما أهل العلم والإيمان فإنما تقشعر جلودهم من مخالفة الرسول فيما أمر ومن ترك قبول فيما أخبر، ومنقول القائل وإقراره بأن اليقين لا يستفاد بقوله وأنه يجب تقديم عقول الرجال وآرائهم على قوله إذا خالفها وأنه يجب أو يشرع الحج إلى قبره، ويحعل من أعظم الأعياء ويحتج بفعل العوام والطغام على أن هذا من دينه ويقدم هديهم على هدي المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ويستحل تكفير من نهى عن أسباب الشرك
(1/342)

والبدع ودعى إلى ما كان عليه خيار الأمة وسادتها، ويستحل عقوبته وينسب إلى التنقص والازراء،، فهذا وأمثاله تقشعر منه جلودهم أهل العلم والإيمان.
وقوله: إن في هذا الفرق تركاً لما دلت عليه الأدلة الشرعية بالآراء الفاسدة الخالية – ففي هذا الكلام من قلب الحقائق وترك موجب النصوص النبوية والقواعد الشرعية والمحكم الخاص المقيد إلى المجمل المتشابه العام المطلق، كما يفعله أهل الأهواء الذين في قلوبهم زيغ ما نبينه بحول الله ومعونته وتأييده، فإن النصوص التي صحت عنه صلى الله عليه وسلم بالنهي عن تعظيم القبور بكل نوع يؤدي إلى الشرك ووسائله من الصلاة عندها وإليها واتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها وشد الرحال إليها، وجعلها أعياداً يجتمع لها كما يجتمع للعبد، ونحو ذلك صحيحة صريحة محكمة فيما دلت عليه، وقبور المعظمين مقصودة بذلك النص والعلة ولا ريب أن هذا من أعظم المحاذير.
وهو أصل أسباب الشرك والفتنة به في العالم، فكيف يناقض هذا ويعارض بإطلاق زوار القبور، وبأحاديث لا يصح شيء منها البتة في زيارة قبره، ولا يثبت منها خبر واحد، ونحن نشهد بالله أنه لم يقل شيئاً منها كما نشهد بالله أنه قال:تلك النصوص الصحيحة الصريحة، وهؤلاء فرسان الحديث وأئمة النقل ومن إليهم المرجع في الصحيح والسقيم من الآثار، وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم لم يصححوا منها خبراً واحداً، ولم يحتجوا منها بحديث واحد، بل ضعفوا جميع ما ورد في ذلك وطعنوا فيه وبينوا سبب ضعفه وحكم عليه جماعة منهم بالكذب والوضع.
وكذلك دعواه إجماع السلف والحلف على قوله، فإذا أراد بالسلف المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فلا يخفى أن دعوى إجماعهم مجاهرة بالكذب، وقد ذكرنا غير مرة فيما تقدم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة شيء من هذا إلا عن ابن عمر وحده، فإن ثبت عنه إتيان القبر للسلام عند القدوم من سفر ولم يصح هذا عن أحد غيره ولم يوافقه عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من الخلفاء الراشدين ولا من غيرهم.
وقد ذكر عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن عبيد الله بن عمر أنه قال: ما نعم أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر، وكيف ينسب مالك إلى مخالفة إجماع السلف والخلف في هذه المسألة، وهو أعلم أهل زمانه بعمل أهل المدينة قديماً وحديثاً، وهو يشاهد التابعين الذين شهدوا الصحابة وهم جيرة المسجد وأتبع الناس للصحابة، ثم يمنع الناذر من إتيان القبر ويخالف إجماع الأمة، وهذا لا يظنه بمالك إلا
(1/343)

جاهل كاذب على الصحابة والتابعين وأهل الإجماع، وقد نهى علي بن الحسين زين العابدين الذي هو أفضل أهل بيته وأعلمهم في وقته ذلك الرجل الذي كان يجيء إلى فرجة كانت عند القبر فيدخل فيها فيدعوا واحتج عليه بما سمعه من أبيه عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغي أينما كنتم)) (1) ، وكذلك ابن عمه حسن بن حسن بن علي شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول القبر: ما لي رأيتك عند القبر، فقال: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم (2) ، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء)) .
وكذلك سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد الأئمة الأعلام وقاضي المدينة في عصر التابعين ذكر عنه ابنه إبراهيم أنه كان لا يأتي القبر قط، وكان يكره إتيانه أفيظن بهؤلاء السادة الأعلام أنهم خالفوا الإجماع، وتركوا تعظيم صاحب القبر وتنقصوا به، فهذا لعمر الله هو الكلام الذي تقشعر منه الجلود وليس مع عباد القبور من الإجماع إلا ما رأوا عليه العوام والطغام في الأعصار التي قل فيها العلم والدين، وضعفت فيها السنن وصار المعروف فيها منكراً، والمنكر معروفاً من اتخاذ القبر عيداً، والحجج إليه واتخاذه منسكاً للوقوف والدعاء، كما يفعل عند موقف الحج بعرفة ومزدلفة وعند الجمرات وحول الكعبة، ولا ريب أن هذا وأمثاله في قلوب عباد القبور لا ينكرونه ولا ينهون عنه، بل يدعون إليه ويرغبون فيه، ويحضون عليه ظانين أنه من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام بحقوقه.
وإن من لم يوافقهم على ذلك خالفهم فيه فهو منتقص تارك للتعظيم الواجب، وهذا قلب لدين الإسلام وتغيير له.
ولولا أن الله سبحانه ضمن لهذا الدين أن لا يزال طائفة من الأمة قائمة به لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم إلى قيام الساعة لجرى عليه ما جرى على دين أهل الكتاب


(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه الحديث وبينا أن لفظه بيتي خطأ.
(1/344)

قبله، وكل ذلك باتباع المتشابه وما لا يصح من الحديث وترك النصوص المحكمة الصحيحة الصريحة.
وقوله أن من منع زيارة قبره فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وليس لنا ذلك جوابه أن يقال: أما من منع مما منع الله ورسوله منه وحذر مما حذر منه الرسول بعينه ونبيه على المفاسد التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم بتعظيم القبور وجعلها أعياداً واتخاذها أوثناناً ومناسك يحج إليها كما يحج إلى البيت العتيق، ويوقف عندها للدعاء والتضرح والابتهال كما يفعل عند مناسك الحج وجعلها مستغاثاً للعالمين، ومقصداً للحاجات ونيل الرغبات وتفريج الكربات.
فإنه لم يشرع ديناً لم يأذن به الله، وإنما شرعه من خالف ذلك ودعا إليه ورغب فيه وحض النفوس عليه، واستحب الحج إلى القبر وجعله عيداً يجتمع إليه كما يجتمع للعبد، وجعله منسكاً للوقوف والسؤال والاستغاثة به، فأي الفريقين الذي شرع من الدين ما لم يأذن به الله إن كنتم تعلمون.
ونحن نناشد عباد القبور: هل هذا الذي ذكرناه عنهم وأضعافه كذب عليهم، أو هو أكبر مقاصدهم وحشو قلوبهم، والله المستعان.
قوله: والقرآن كله والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة وسير الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين والسلف الصالحين على وجوب تعظيم الني صلى الله عليه وسلم والمبالغة في ذلك – جوابه أنه قد عرف بما قررناه أهل تعظيمه المتبعون له الموافقون لما جاء به والتارك لتعظيمه بتقرير خلاف ما جاء به والحض على ما حذر منه والتحذير مما رغب فيه وترك ما جاء به لآراء الرجال وعقولهم وتقريره وتقرير سلفه أن اليقين والهدى لا يستفاد بكلامه، وأن ما عليه عباد القبور هو من الغلو لا من التعظيم الذي هو من لوازم الإيمان فلا حاجة إلى إعادته.
قوله: ومن تأمل القرآن وما تضمنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة في تعظيمه وتوقيره والأدب معه، وما كنت الصحابة تعامله به من ذلك امتلأ قلبه إيماناً واحتقر هذا الخيال الفاسد واستكشف أن يصغي إليه، وجوابه: أن يقال: أنت وأضرابك من أقل الناس نصيباً من ذلك التعظيم، وإن كان نصيبكم من الغلو الذي ذمه وكره ونهى عنه نصيباً وافراً، فإن أصل هذا التعظيم وقاعدته التي يبنى عليها هو طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، وأنت وأضرابك اكتفيتم من طاعته بأن أقمتم غيره مقامه: تطيعونه فيما قاله
(1/345)

وتجعلون كلامه بمنزلة النص المحكم وكلامه المعصوم إن التفتم إليه بمنزلة المتشابه، فما وافق نصوص من اتخذتموه من دونه وقبلتموه وما خالفها تأولتموه، أوردتموه، أو أعرضتم عنه ووكلتموه إلى عالمه، فنحن ننشدكم الله هل تتركون نصوص من قلدتموه لنصه، أو تتركون نصه لنص من قلدتموه واكتفيتم من خبره عن الله وأسمائه وصفاته بخبر من عظمتموه من المتكلمين الذين أجمع الأئمة الأربعة والسلف على ذمهم والتحذير منهم، والحكم عليهم بالبدعة والضلالة فاكتفيتم من خبره عن الله وصفاته بخبر هؤلاء وجعلتهم خبرهم قواطع عقلية، وأخباره ظواهر لفظية لا تفيد اليقين ولا يجوز تقديمها على أقوال المتكلمين.
ثم مع هذا العزل الحقيقي عظمتم ما يكره تعظيمه من القبور وشرعتم فيها وعندها ضد ما شرعه، وعدتم بها التعظيم على مقصوده بالإبطال، فعظمتم بزعمكم ما يكره تعظيمه وتقربتم إليه بما يباعدكم منه واستهنتم بما الإيمان كله في تعظيمه ونبذتموه وراء ظهوركم،واتخذتم من دونه من عظمتم أقواله غاية التعظيم حتى قدمتموها عليه، وما أشبه هذا بغلو الرافضة في عطي، وهم أشد الناس مخالفة له، وكذلك غلو النصارى في المسيح، وهم من أبعد الناس منه، وإن ظنوا أنهم معظمون له فالشأن كل الشأن في التعظيم الذي لا يتم الإيمان إلا به وهو لازم وملزوم له والتعظيم الذي لا يتم الإيمان إلا بتركه،فإن إجلاله عن هذا الإجلال و (3) وتعظيمه عن هذا التعظيم متعين.
وقوله: إن المبالغة في تعظيمه واجبة – أيريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أجد تعظيماً حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء، فدعوى وجوب المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين، أم يريد بها التعظيم الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من وجوب محبته وطاعته ومعرفة حقوقه وتصديق أخباره، وتقديم كلامه على كلام غيره ومخالفة غيره لموافقته ولوازم ذلك، فهذا التعظيم لا يتم الإيمان إلا به، ولكن هذا المعترض وأضرابه عن هذا بمعزل، وإذا أخذ الناس منازلهم من هذا التعظيم فمنزلتهم منه أبعد منزل وهو وخصومه كما قال الأول.
نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبيداء أبعد منزل
وقوله: ((إن من ترك شيئاً من التعظيم المشروع لمنصب النبوة زاعماً بذلك الأدب
(1/346)

مع الربوبية إلى آخر كلامه، فنعم، ولكن الشأن في التعظيم المشروع وتركه وهل هو إلا طاعته وتقديمها على طاعة غيره وتقديم خبره على خبر غيره، وتقديم محبته على محبة الولد والوالد والناس أجمعين، فمن ترك هذا فقد كذب على الله وعصى أمره، وترك ما أمر به من التعظيم، وأما جعل قبره الكريم عيداً تشد المطايا إليه كما تشد إلى البيت العتيق، ويصنع عنده ما يكره الله ورسوله ويمقت فاعله ويتخذ موقفاً للدعاء وطلب الحاجات وكشف الكربات، فمن جعل ذلك من دينه، فقد كذب عليه وبدل دينه، وبالله تعالى التوفيق
تم الكتاب بإعانة رب الأرباب فالله الحمد على كل حال وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
(1/347)

Similar Posts